أجمع خبراء ومختصون إلى جانب فاعلين سياسيين، على التوفيق بين الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية، التي يتيحها الذكاء الاصطناعي، وضمان نزاهة الممارسة الديمقراطية، وذلك في ظل التحولات العميقة التي تعيد تشكيل العلاقة بين السياسة والتكنولوجيا.
وأكد المتدخلون خلال المائدة المستديرة التي نظمتها مؤسسة علي يعته، حول موضوع: “استعمال الذكاء الاصطناعي في العمل السياسي: الفرص والتحديات”، مساء يوم الخميس الماضي، بالمقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية بالرباط، (أكدوا) على أن العالم يشهد تطورا غير مسبوق في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تؤثر في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك المجال السياسي، وأنه مع اقتراب أي استحقاقات انتخابية سواء على المستوى العالمي، أو على المستوى الوطني، تبرز تساؤلات جوهرية حول تأثير الذكاء الاصطناعي على العملية الديمقراطية، ومدى قدرته على تعزيز الممارسة السياسية أو تهديدها.
وفي هذا السياق، أوضح رشيد روكبان رئيس مؤسسة على يعته في كلمة له بالمناسبة، أنه بينما تسعى الأحزاب السياسية إلى توظيف هذه التقنية لتحديث آليات عملها وتحليل البيانات واستقطاب الناخبين، يطرح في المقابل مخاوف بشأن إمكانية استخدامها في نشر المعلومات المضللة والتأثير على الرأي العام بطرق غير أخلاقية.
وأضاف روكبان خلال هذه الندوة التي أدارتها فاطمة الزهراء برصات عضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، أن الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات يطرح إشكاليات تتعلق بالمصداقية والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة، مشددًا على ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية تحكم استخدامها في المجال السياسي، لضمان عدم استغلالها في التضليل أو التأثير غير المشروع على الناخبين، مؤكدا على أهمية استيعاب التطورات التكنولوجية الحديثة، وتوظيفها بشكل إيجابي في المشهد السياسي والحزبي المغربي، مشيرا إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة لا يمكن تجاهلها في صياغة الخطاب السياسي، واستطلاع الرأي العام، وتعزيز الشفافية والديمقراطية.
وبحسب رشيد روكبان أن اختيار مؤسسة علي يعته لموضوع هذه المائدة المستديرة، نظرا لراهنيته وأهميته، ولكن أيضا، يقول المتحدث “بالنظر إلى خطورته، لأن الأمر يتعلق بفرص وبإمكانيات يمكن أن تكون متاحة، بشكل إيجابي، ولكن أيضاً متعلق بتحديات وبمخاطر وبأسئلة ذات بعد أخلاقي وذات بعد أمني، وذات بعد استراتيجي”.
تحديات قانونية وأخلاقية
بدوره قال الخبير في مجال الذكاء الاصطناعي حاتم بمهاود “إن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة كبيرة للعمل السياسي، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات قانونية وأخلاقية تتطلب استراتيجيات واضحة لضبط استخدامه وحماية المجتمعات من مخاطره المحتملة”.
وأوضح حاتم بامهاود أن الأمر الأكثر خطورة هو إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات خطيرة، مثل تصنيع أسلحة محظورة أو تعزيز القدرات السيبرانية في الهجمات الإلكترونية. ولهذا، وجب في نظره، التعامل مع هذه التكنولوجيا بحذر ووضع ضوابط قانونية وأخلاقية لضمان استخدامها في سياقات إيجابية تخدم المجتمع بدلا من تهديده.
وسلط حاتم بامهاود الضوء على دور الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية، حيث يستطيع تحليل كميات ضخمة من البيانات لاستهداف الناخبين برسائل مخصصة، مما يعزز فعالية الحملات الانتخابية، لكنه، يضيف المتدخل، يطرح في المقابل تساؤلات أخلاقية حول التلاعب بالرأي العام، مشيرا أنه، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي تقديم تحليلات متقدمة للبيانات، مما يمنح الأحزاب السياسية معلومات دقيقة حول توجهات الناخبين وآرائهم، من خلال تحليل أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي ونتائج الاستطلاعات، إلى جانب تحديد القضايا الرئيسية التي تشغل الرأي العام.
ومع كل ذلك، يرى حاتم بامهاود وجود تحد آخر، يتمثل في انتشار الأخبار المضللة والمعلومات الزائفة، مبرزا في هذا السياق، كيف ظهرت حالات توضح كيف يمكن للذكاء الاصطناعي المساهمة في خلق معلومات مغلوطة، مستدلا على ذلك بمقاطع فيديو، توضح مثلا كيف يتم الترويج لـ “أسطورة الميجالودون” أو “أسطورة القرش العملاق”، على أنها حقيقة، بينما يمكن للمشاهد المدقق ملاحظة تناقضات واضحة في الصورة والمحتوى، فالذكاء الاصطناعي، يضيف بامهاود يعتمد على البيانات التي تم تدريبه عليها، وإذا كانت هذه البيانات قديمة أو غير دقيقة، فقد ينتج عنها معلومات خاطئة.
بالإضافة إلى ذلك، لفت بامهاود إلى أن هناك مشكلة أخرى تعرف بـ “التحايل على الذكاء الاصطناعي”، على سبيل المثال، إذا حاول شخص الحصول على نص محمي بحقوق الملكية الفكرية، فإن “شات جي بي تي” يرفض ذلك، ولكن بعض المستخدمين قد يجدون طرقا للتحايل على هذه الأنظمة للحصول على المعلومات المطلوبة. وهذا يفتح الباب أمام تحديات قانونية وأخلاقية تتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت الذي أكد فيه حاتم بامهاود أن الذكاء الاصطناعي يوفر مزايا عديدة، مثل تخصيص الرسائل والتواصل الفعال، فإنه يطرح في المقابل تحديات قانونية وأخلاقية، مشيرا إلى أن منصات التواصل الاجتماعي شهدت حالات مثيرة للجدل، مثل نشر صور تم التلاعب بها بوسائل الذكاء الاصطناعي، مما يطرح، بحسبه تساؤلات حول المسؤولية القانونية: هل يحاسب المطورون، أم المستخدمون الذين يشاركون المحتوى، أم الخوارزميات ذاتها؟
وأوضح، بامهاود غياب قانون صريح ينظم هذه المسائل، ما يدفع إلى الاعتماد على تشريعات أخرى، مثل القانون الجنائي وقانون الصحافة، لحماية الأفراد من التضليل المعلوماتي وانتهاك المعطيات الشخصية. واستشهد بامهاود بحالات استخدم فيها الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالمعلومات خلال الحملات الانتخابية، مثل ما حدث في الانتخابات الأمريكية، حيث استُخدم في نشر معلومات مضللة حول تصويت المشاهير لصالح المرشح دونالد ترامب وهو ما يُعرف بـ”التضليل العميق”.
من جهة أخرى، لفت الخبير في مجال الذكاء الاصطناعي، الانتباه إلى تحيز الخوارزميات، مستشهدا بتجربة عملية تظهر كيف تكرس أدوات الذكاء الاصطناعي الصور النمطية، حيث عند البحث عن “رجل عصابات أمريكي”، تظهر صورة لرجل ببشرة سوداء، في حين أن البحث عن “ممرضة” يعطي نتائج لصورة امرأة ببشرة بيضاء. وأكد أن هذه التحيزات تشكل تحديا كبيرا في مجال حقوق الإنسان، كما أشارت إلى ذلك المندوبية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
وحذر بامهاود من مخاطر الهجمات الإلكترونية، خاصة في المجال السياسي، حيث يمكن اختراق الهويات الرقمية للأحزاب، مما يعرضها لتلاعب خارجي، مشددا على أن العامل البشري يظل الحلقة الأضعف في حماية المعطيات الشخصية، مؤكدا على ضرورة امتلاك الأحزاب السياسية لبنية تحتية رقمية، وعلى أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مصحوبا بتدريب الأعضاء على استخدامه لضمان استدامته واستمراريته.
الذكاء الاصطناعي والممارسة السياسية
من جانبه، تناول الباحث في علم الاجتماع، عمر بنعياش، العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والممارسة السياسية، مشيرًا إلى أن تنظيم هذه الندوة يشكل تنبيها للفاعلين السياسيين الذين ما زالوا يعتمدون الطرق التقليدية في العمل السياسي.
وأكد عمر بنعياش على أن الانتخابات المقبلة قد لا تتم بالطرق التقليدية المعتادة، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث طفرة نوعية أو أن يتم تجاهله، بحسب التطورات. كما شدد على أهمية الذكاء الاصطناعي في التواصل السياسي والتعبئة والاستقطاب، مشيرًا إلى تجارب عالمية، مثل التدخل الرقمي في الانتخابات الأمريكية.
وأشار الباحث في علم الاجتماع إلى أن المغرب سبق أن عرف تجارب مثل “الذباب الإلكتروني”، التي تمثل نموذجا أوليا لهندسة الرأي العام عبر التأثير على اللاوعي الجمعي. وأكد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يستخدم لأغراض إيجابية، مثل تحسين التنظيم السياسي، أو سلبية، مثل التشويه الإعلامي عبر فبركة الصور والفيديوهات.
ولفت عمر بنعياش الانتباه، إلى القدرة المحتملة للذكاء الاصطناعي على لعب دور أساسي في هندسة الجمهور، سواء في الحملات الانتخابية أو في الحياة السياسية اليومية. ولن يتردد المتنافسون في استخدام هذه التقنيات، سواء بطرق أخلاقية وقانونية، أو عبر وسائل غير أخلاقية مثل فبركة الصور والفيديوهات لتشويه الخصوم. فالتأثير البصري، كما هو معلوم، أقوى من الكلمات في التأثير على الرأي العام.
ودعا عمر بنعياش الأحزاب السياسية إلى تطوير أطر حزبية تقنية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، ودمجها في الهياكل التنظيمية للحزب، إضافة إلى ضرورة سن قوانين لحماية المشهد السياسي من التجاوزات المحتملة، مشيرا إلى أن التحول الرقمي لم يعد خيارا ترفيهيا للفاعل السياسي، بل أصبح ضرورة للبقاء في المنافسة وتحقيق الأهداف السياسية بفعالية.
كما أكد المتدخل على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يستخدم لأغراض إيجابية كما يمكن أن يُستخدم لأغراض سلبية. لذلك، يجب التعامل معه بحذر، خاصة في المجال السياسي، مشددا على أهمية اتخاذ الاحتياطات عند استخدامه في العمل الحزبي، مما يستدعي في نظره، وجود ذكاء بشري يقظ يُواكب تطورات الذكاء الاصطناعي.
نحو تحسين الاستراتيجيات الانتخابية
بدوره أكد الخبير في مجال الذكاء الاصطناعي محمد السنوسي، أن العمل السياسي والحزبي في المغرب يواجه تحديات كبيرة، بسبب التطورات التكنولوجية العميقة التي يعد الذكاء الاصطناعي أبرزها، لكنها في المقابل يضيف السنوسي تمتلك فرصا لتحديث هياكلها، وتعزيز تواصلها مع المواطنين، وتحسين استراتيجياتها الانتخابية.
ويرى محمد السنوسي أن التطورات الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، لم تعد تقتصر على المجالات الاقتصادية والصناعية، بل امتدت لتشمل الحقل السياسي، مؤثرة بشكل جذري على عمل الأحزاب السياسية في مختلف دول العالم، مشيرا إلى أن هذه التكنولوجية الجديدة أصبحت أداة قوية لتشكيل الرأي العام، وتحليل توجهات الناخبين، وتصميم الحملات الانتخابية، وهو ما يطرح، بحسبه سؤال مستقبل العمل الحزبي في ظل هذه التحولات التكنولوجية.
وأضاف محمد السنوسي، أن الذكاء الاصطناعي، أصبح يلعب دورا محوريا في صنع القرار داخل الأحزاب، حيث يمكنه تحليل البيانات السياسية والاقتصادية لتقديم اقتراحات مدروسة حول السياسات الواجب تبنيها. ومن الأمثلة على ذلك، تطوير منصات رقمية داخل الأحزاب المغربية لتحليل مشاكل المواطنين واقتراح حلول مستندة إلى بيانات دقيقة.
وعلى الرغم من الفرص التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، فإنه يطرح، وفق السنوسي، تحديات جدية أمام الأحزاب السياسية، أبرزها انتشار الأخبار المزيفة والتلاعب بالرأي العام، مشيرا في هذا السياق إلى تقنيات الفيديوهات المزيفة (Deepfake) التي باتت تستعمل كأداة قوية للتأثير على توجهات الناخبين، مثل ما وقع في الانتخابات الرئاسية البرازيلية سنة 2018، وهو ما يستدعي، يضيف المتحدث، تطوير آليات لمكافحة هذه الظواهر.
وأشار صاحب كتاب ” لذكاء الاصطناعي برؤية استشرافية.. رحلة من أجل الإنسان” إلى أن التحولات الرقمية أدت إلى تغيير آليات المشاركة السياسية، حيث أصبحت المنصات الإلكترونية بديلاً عن الاجتماعات التقليدية، وهو ما يحتم، في نظره، على الأحزاب المغربية تحديث طرق تفاعلها مع المواطنين، بتبني استراتيجيات رقمية متكاملة، وتعزيز الشفافية باستخدام التكنولوجيا، وضمان التوازن بين الابتكار التقني وأخلاقيات العمل السياسي، مؤكدا على أن استخدام الذكاء الاصطناعي يستدعي وضع ضوابط قانونية وأخلاقية تحمي خصوصية الأفراد وتمنع إساءة استغلال معلوماتهم.
وبحسب محمد السنوني فإن الدمج المدروس لتقنيات الذكاء الاصطناعي في العمل الحزبي، يعد فرصة، وصفها بـ “الذهبية” لتحديث المشهد السياسي المغربي، من خلال تطوير استراتيجيات رقمية، وتعزيز الشفافية باستخدام التكنولوجيا، والالتزام بالأخلاقيات المهنية، مما سيتيح إمكانية للأحزاب السياسية لبناء نموذج حزبي مستقبلي يتماشى مع تطلعات المواطنين ويعزز من المشاركة الديمقراطية في البلاد.
ولتحقيق الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي، دعا محمد السنوسي الأحزاب السياسية المغربية إلى تبني استراتيجيات رقمية متكاملة، تشمل إنشاء فرق متخصصة في التكنولوجيا والابتكار داخل الهياكل الحزبية، مع وضع إطار لأخلاقية استخدام الذكاء الاصطناعي، عبر تبني مدونة سلوك تضمن الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات، كما تضمن عدم استغلال المعلومات الشخصية بطرق غير أخلاقية، مشيرا إلى أن من شأن هذا التوجه أن يعزز من مصداقية الحزب السياسي ويؤكد التزامه بالقيم الديمقراطية والأخلاقية في عصر التحول الرقمي.
كما دعا السنونسي الأحزاب السياسية المغربية إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية، من خلال الاستثمار في تطوير شبكات الاتصال وتوفير الموارد التقنية اللازمة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي بفعالية، وبناء القدرات البشرية، من خلال تنظيم دورات تدريبية للأطر الحزبية حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في صنع القرار وتحليل البيانات، وكذا تعزيز الشفافية والمشاركة، بإنشاء منصات إلكترونية تفاعلية تسمح للمواطنين بالمشاركة في صياغة السياسات وتقديم مقترحاتهم، مما يعزز من ثقة الجمهور في الأحزاب السياسية.
وخلص محمد السنوسي، إلى القول بأن “الذكاء الاصطناعي يشكل فرصة غير مسبوقة للأحزاب السياسية المغربية لتحديث طرق عملها وتعزيز تواصلها مع المواطنين، لكنه في الوقت نفسه يفرض تحديات تتعلق بالأخلاقيات والخصوصية والاستقطاب السياسي”، مشيرا إلى ضرورة تبني استراتيجيات استباقية تمكن الأحزاب السياسية من الاستفادة من هذه التكنولوجيا مع ضمان استخدامها بطرق شفافة ونزيهة، تحفظ التعددية السياسية وتدعم مسار الديمقراطية.
نبيل بنعبد الله ينتقد “الذكاء القفي” في زمن الذكاء الاصطناعي