“الحيّ المحمّدي” للكاتب حسن نرايس.. حوار الذّات عبر الشّواهد والشّخصيّات

ما معنى أن نكتب جنسا آخر من السّرد غير الرّواية والقصّة والشعر؟ وكيف يكون فنّ تصوير الشّخصيّات بواسطة اللّغة؟ وهل يصير الصّحفي الإعلامي إلى مؤرّخ سارد؟ إنّها اللّعبة الصّعبة في التّموقع بين الذّاتي والموضوعي من الأشياء والأغراض ومن الوقائع والتّواريخ، لعبة التأريخ للذّات وللآخر وللأمكنة، تلك الّتي لا تستجيب إلى فنون السّرد ولا تموقع المؤلّف في خانة التّبئير أو في خانة السّارد من الخلف. بين هذا وذاك تأتي كتابة البورتريه فنّ الكرونيكور، الإعلامي أو الحكواتي الّذي يؤرّخ لما يحدق الآن وهنا.

في هذا الحيّ المحمّدي الّذي يشكّل موقعا كوسموبوليتانيا للدّار البيضاء، يروق للإعلامي والنّاقد السينمائي والكاتب المسرحي حسن نيراس أن يستدرج قارئه إلى بؤرة الافتتان في الاحتفاء المشترك بالشّخصيّات وبالأحداث في أزقّة وشوارع الحيّ المحمّدي ومؤسّساته ومعالمه. حيّ تمركزت فيه جميع الشّخوص القادمة من الجهات نحو الدّار البيضاء حذو معمل السّكر. هو كذلك معمل السّكر الّذي اجتمع حوله النّاس ونما به الحيّ فأفرز شخصيّات عديدة تنتمي إلى مجالات متنوعّة من النّشاط الإنساني. شخصيّات من القاع والهامش وشخصيّات معرفيّة وأخرى ثقافيّة وغيرها من الّذين أسسّوا مسارات رياضيّة وإبداعيّة. هو عالم من الذّوات الشّواهد على حياة الحيّ الّذي يختصر المدينة بأسرها. نماذج بشريّة تنكتب لتكتب تأريخا لهذا الحيّ المتوهج والمليء بالحياة بحلوها ومرّها حدّ السّواء. يقدّم الكاتب حسن نريس شهوده على حقبة تاريخيّة مهمّة من تاريخ المغرب ومن تاريخ مدينة الدّار البيضاء هي دولة ما بعد الاستقلال، دولة في طور تشكيل ملامح مجتمع جديد، مجتمع كان بالأمس القريب فلاحيّا فصار إلى موجة من التّحديث ومن امتلاك ناصية المشاريع الصّناعيّة الكبرى والمتوسّطة. ومن هذا الموقع يكتسب هذا الكتاب شرعيّة النّطق بما يرويه حسن نرايس بعين النّاقد السينمائي المتمكّن من أبعاد الصّياغات المشهديّة وعين الإعلامي المتشبّع لتقنيات التّقصّي والقراءة والنّقد إضافة إلى حسّية أدبيّة تجمع الوصف الدّقيق بالحوار المقتضب وتستعمل لغة رقيقة متحركّة بين التّصريف في الماضي والحاضر.

بهذا السّرد يتحوّل الإعلامي إلى مصوّر أو مؤرخ يصوغ من الذاكرة الحيّة تاريخ الحي وتاريخ المدينة ويعطي للمسكوت عنه وللمهمّش المطموس في غياهب الرّسمي وفي مقبرة النسيان فرصة الانخراط في التّذكر على أساس أنه إنصاف إبداعي قبل كل شيء. والإبداع وجدان حقيقي لأنّه لا يجمّل بقدر ما يعرّي ويفضح في لبوس اللغة أو الفنّ ممارسات التعمية والتعتيم. وبين المصوّر الّذي يختار زاوية الالتقاط والمؤرّخ الّذي يختار زاوية الموقف يقيم حسن نرايس ساردا متقمّصا ومتعاطفا مع أشخاص نصّه الّذين لو جمعناهم كما جمعهم هو لأصبح ضجيج الحي المحمّدي حقيقة ماثلة، وهذا ما يقول بالبعد الأسطوغرافي المحلي والوطني عموما. إنّه مؤلّف ليس بقصة ولا رواية ولا حكاية، بل هو”كوكتال” من بورتريهات جمعها وحكايات تلوذ بالنّص كي تكون شواهد.

وقد جعل حسن من أثره هذا معالجة لذاته المثقلة والمصابة بقلق المثقف الذي يحاول أن يخلق من اليوميّ التاريخ والبحث في المعيش بمفهوم عالم الاجتماع “ميشال مافيوزالي” فكان لاستحضار جميع الشّخصيّات الّتي عايشها الكاتب تأثير علاجي يكمن هدفه في إنعاش الذاكرة وفي باطنه التخفيف من الهزة النفسية التي اعترت المجتمع الحديث. لذا باتت الثقافة كخندق أخير للمقاومة خاصة في ظل العدم والإعدام، بل وفي حالة “المالانخولي” التي نعيشها اليوم.

حسن نرايس يكتب سردا بسيطا عميقا يجمع فيه زمن السّرد بزمن الحدث أو الأحداث ويصوّر بمتاع لغوي يغترف من الفصحى ومن اللهجة البيضاويّة المغربيّة المحلّية كيانيّته ويستمدّ منها شرعيّة المكان وشرعيّة التّاريخ. الحيّ المحمّدي وحبّ الكرة والسينما والحكايا عن الفتيان والصّبايا وقصص العشق الممنوع وقصص البطولات والخسارات، كلّها تجتمع في آن واحد زخّات من ألم الذّات المزروع في ألم الجماعة ومن شهادة الجسد الممتد إلى جسد الجماعة. إنّه يجسّم الطّابع المشترك للتّجربة الإنسانيّة في الّطابع الزّمني إذ كلّ ما يحكى له زمنان أهمّهما زمن الحكي على رأي بول ريكور. هكذا يستدرج حسن نرايس الشّخوص لتبدو في مواقف مختلفة حسب انتماءاتها الطّبقيّة والجغرافيّة والعلميّة والثّقافيّة والمجتمعيّة من ناس الغيوان إلى صالح الخيّاط إلى كيرا وذلك من درب مولاي الشريف إلى سينما الشريف فسينما السّعادة في استحضار مكثّف يعلن رأيه وتعاطفه وحبّه وتعجّبه من شخص إلى شخص ومن موقع إلى موقع بين دار الشّباب وتيران الحفرة وثانوية عقبة بن نافع….. يلتحم الوجدان بالموقف وبالوضع ويتلبّس بالشّخوص في ترنيمات تستدعي الأمثال الشّعبيّة واللهجة المحليّة والأهازيج وبعضا من ثقافة الفترة ووهجها بشعاراتها وبمآسيها على شاكلة مأساة أعراب…. فهل غادر الشّعراء من متردّم؟ وهل تتوب الذّاكرة عن فعل النّبش والتّسجيل وصياغة المتعة بالتّحصيل.

فعلا هي بورتريهات تصوّر شخصيّات ومواقع ومؤسّسات، كرّم بها حسن أهله في تعاطف شديد الحسّية الفنّية وبلغة سرديّة تمتشق روح المحلّي عبقا مغربيّا بيضاوي الهوى. إبداعية تشكيليّة وفوتوغرافيّة تتجلّى في رؤية مجهريّة لأفراد ومفردات صارت كما لعبة البوزل الّتي بها تتكوّن الصّورة الأمّ أو الصّورة البانوراميّة للحيّ المحمدي. هي بانوراما مشهديّة بتقنية السّرد الحيّ، لكنّها وفي ذات الحين سرديّة تحمل طابع الزّمن لا بوصفها شاهدة على العصر بلغة الإعلام، بل بوصفها حكي يحدث في الزّمن ويستغرق زمنا ويجري زمنيّا. هذا هو المهمّ في كتابة بيذاتيّة تتلبّس فيها روح الكاتب أو الرّواي بروح الشّخصيّات الّتي ليس بينها من رابط إلاّ الخطّ الزّمني والتّواجد في ذات الأمكنة.

لقد قدر حسن نرايس أن يختزل المسافات الزّمنيّة والجغرافيّة والنّفسيّة خصوصا على القارئ، ليسكن وجدانه كما سكن الحيّ وجدان حسن، وليخلق له الأطر الوقائعيّة لكتابة تاريخ حيّ وكأنّه يكتب ساعة يحدث، من أجل أن يستدرجنا إلى الحيّ المحمّدي الّذي هو ليس إلاّ نموذجا عن الأحياء المكتظة بالسّكان في المدن الصّناعيّة والمدن الاقتصادية من عالمنا العربي أو المغاربي أو بقيّة أرجاء العالم، مع نوع من البهارات الخاصّة لنكهة مغربيّة مفعمة بالحنين. ونحن نجد في هذا الصّنيع نوعا من كتابة موسوعيّة تستمدّ من المعيش وقائعها وتنبض بلفح تشكّل هويّة الرّواي من طفل إلى تلميذ إلى ناقد سينمائي له صيته محلّيا ودوليّا. لذلك أقول بأنّ حسن نرايس نجح في نقل نبض الحي المحمدي إلى وجدان قارئيه.    

بقلم: فاتح بن عامر

ناقد فني من تونس

Top