أبطال ومعارك

لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”

السلطان مراد الثاني.. ومعركة كوسوفا (الجزء 1)

المعركة التي كان لها دور كبير في توحيد بلاد الأناضول

الحلقة 14

تعتبر معركة كوسوفا (معركة قوصوة) إحدى أهم المعارك الكبرى الفاصلة في التاريخ الإسلامي باعتبارها أول مواجهة حاسمة بين المسلمين والمسيحيين الأرثوذوكس في البلقان، وشكلت مُنعطفاً هاماً في تاريخ تلك المنطقة وتاريخ الوجود الإسلامي فيها، ولعبت دوراً كبيرا في توحيد دول بلاد الأناضول من خلال الحاكم العثماني آنذاك وقائد القوات العثمانية المسلمة مراد الثاني الذي خاض بقواته الحرب ضد الجيوش الصربية والألبانية بقيادة الملك الصربي أوروك الخامس وذلك يوم العشرين من جمادى الأولى سنة 791 للهجرة/الخامس عشر من يونيو 1389 للميلاد.

ورثة السلطان

يروي لنا محمد فريد بك وصول مراد الثاني إلى الحكم العثماني باعتباره وريثاً لسلالة عثمان مؤسّس الدولة العثمانية ويقول في كتابه (تاريخ الدولة العلية العثمانية): “…كان السلطان العثماني عثمان الأول وابنه السلطان أوروخان قد ركّزوا ومُنذ تأسيس الدولة العثمانية على وضع الأسس التي قامت عليها الدولة وجعلتها فيما بعد دولة قوية لا يُستهان بها ويَهابها الجميع، وبما أنها أصبحت دولة عظمى قوية من مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإدارية، فإن ذلك جعلها بحاجة إلى توسع جغرافي كبير كونها لا زالت صغيرة إذا ما قورنت بالدول الأوروبية المُجاورة والمُحيطة بها من كل حدب وصوب، وانطلق مراد الثاني على خطى سابقيه (عد السلطان السادس في دولة عثمان) في التوسع بالدولة أو على الأقل الحفاظ على مساحاتها التي اتسعت في عهد كلا من مراد الأول والسلطان أوروخان ووالده (والد مراد الثاني) محمد الأول جلبي الثاني (ولد السلطان مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أوروخان في يونيو 1404 وتوفي في ادرنة في العام 1451 للميلاد)، وانطلق يمسك بزمام الحكم والسلطة وهو لم يتجاوز بعد الثامنة عشر من عمره، وسار على نهج أبيه في توسيع أراضي الدولة العثمانية على حساب الإمبراطوريات الأوروبية المُتهالكة وليس على حساب البلاد والدول الإسلامية وصولا إلى تحقيق هدفه في توحيد بلاد الأناضول، حينها تَصدّى له بعض الأمراء المُسلمين وعلى رأسهم علاء الدين أمير القرمان، فكان عقبة لنشر الإسلام في دول أوروبا المَسيحية، إضافة إلى القوات الصربية والألبانية في شخص قائدها ملك الصرب (اوروك الخامس) الذي أخذ يعد العُدّة لملاقاة السلطان مراد الثاني والقضاء على الدولة العثمانية التي أخذت فتوحاتها وانتصاراتها تقلق ملوك أوروا..”.

بين الشعر والخط والسلطة

كان السلطان مراد الثاني قد أخذ ينشأ ويترعرع في (أماسيا) مُحبا للعربية وفنون الخط العربي، ينظم الشعر ويُنشده، فتولى السلطة خلفاً لأبيه محمد الأول عام 1421 محافظا على حب الدولة العثمانية وضرورة الحفاظ عليها والدفاع عنها في وجه الصليبين، ولعل هذا ما جعل فترة حكمة تتميز بحروب طويلة الأمد مع مسيحي البلقان والإمارات التركية المعارضة في الأناضول والتي أراد منها توحيد أملاكها وإعادتها إلى حظيرة السلطنة العثمانية بعد أن انتزعت وسُلخت من الدولة العثمانية على يد تيمورلينك، وهي خطوة مبدئية يُراد منها التفرّغ للتوسّع الجديد في أوروبا كما كان عليه الحال في عهد السلطان بايزيد الأول، وبدأ أولى أعماله بإبرام الصلح مع أمير القرمان والاتفاق مع ملك المجر على هُدنة تستمر لخمس سنوات هدف من خلالها التفرّغ لاسترجاع ما شق من عصا الطاعة عليه من ولايات آسيا التي بدأت بالتمرد والعصيان، لكن ربما الوقت لم يكن حليفه، فسرعان ما أخذت شرارات نار التمرد تشتد وتتعالى بعد انتشار نبأ حركة التمرد التي يقودها امبراطور القسطنطينية (ايمانويل الثاني) الذي سارع إليه مراد الثاني بخيله ورجاله وحاصر مدينته قبل مهاجمتها يوم الواحد والعشرين من غشت، فأعد جيشه وعسكر جنده وزاد الخيل صهيلها منطلقا نحوه لإسقاطها عام 1422 للميلاد، فأخمد سريعا النيران التي أريد لها أن تكون من خلال عمّه (مصطفى بن يزيد) المُعتقل سابقا لدى الإمبراطور إيمانويل والذي سبق واشترط لإطلاق سراحه تعهد السلطان مراد الثاني بعدم مقاتلته لمدة خمس سنوات قادمة، كما تمكّن من خلال هذا الزحف إعادة أملاك الدولة العثمانية في ولايات آيدين وصاروخان ومنتشا، وغيرها من الإمارات التي سبق لتيمورلينك أن أعاد الاستقلال إليها وجرّدها من سلطة الحكم العثماني.

فتوحات عثمانية متتالية

تَسارعت وتيرة الفُتوحات الإسلامية التي انطلق يَقودها السلطان مراد الثاني حتى أرغم أمير الصرب (جورج برنكوفيتش) بالتنازل عن بلدة كروشيفاتش الواقعة في وسط بلاد الصرب للدولة العثمانية وجعلها حصنا منيعا تأوي إليه جنوده كلّما هبّت ريّاح الفتن، وانطلق منها لفتح مدينة سلانيك الرومانية (عام 1430) للميلاد بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، وبما أن السلطان العثماني أراد فتح ما تبقى من بلاد الصرب وألبانيا (الأرنئود والفلاخ) والقسطنطينية حتى لا يكون لهذه الولايات الصربية نصير، فقد انطلق يُوجّه اهتمامه بداية إلى ألبانيا مُلزما أميرها (جان كستريو) وضمّ بلاده إلى الحكم العثماني بمجرد وفاته (كانت وفاته عام 1431 ميلادي)، في خطوة جعلت معها (أمير الفلاخ) يَعترف سريعاً بسيادة الدولة العثمانية تخلصًا من الحرب التي كان لا يشك في وخامة عاقبتها عليه، كل ذلك في ظلّ بقاء هذا التسليم ظاهريا ليس إلا، فلم يلبث وقت طويل حتى ثار هذا الأمير رفقة أمير الصرب وبناء على تحريض من ملك المجر على الدولة العثمانية وسلطانها مراد الثاني، فجرّ عليه عاقبة عصيانه وتمرده أن فتح السلطان مراد مدينة سمندرية الواقعة على نهر الطونة بالقرب من العاصمة الصربية بلغراد التي حاول إسقاطها وفشل في ذلك رغم الحصار المُشدد عليها والذي تجاوزت مدته الستة أشهر، وعاد منها إلى احتلال بلاد ترانسيلفانيا (النمسا حاليا) وحاصر مدينة (هرمان ستاد) التابعة لملك المجر حتى وصلت فتوحاته حدود البلقان.

الزحف الصليبي

يروي لنا أحمد الدوابشة (سلاطين الدولة العثمانية) في روايته للأحداث التاريخية التي رافقت حكم السلطان مراد الثاني فيقول: “….مع دخول العثمانيين إلى شبه جزيرة البلقان وتوغلهم فيها وانتشار الإسلام على أيديهم في تلك المنطقة، نشط الصرب في الجانب الآخر للتصدّي لهم ومجابهتهم، فكانوا من أقوى القوى الأوروبية حساسّية من وجودهم (وجود المسلمين) وأشدّهم تحمّساً لقتالهم وإخراجهم بالقوة، مُعتبرين أنفسهم (أي الصرب) حُماة الأرثوذوكسية المَسيحية في شرق أوروبا، وعلى هذا الأساس شرعوا في الاستعداد للحرب وكونوا أول تحالف صليبي ضد المُسلمين في البلقان ضم ما يزيد عن 200 ألف مقاتل من الصرب والبوسنيين والبلغار وغيرهم، ولم يمض من الوقت الكثير حتى زحف الصرب بتلك القوات من الشمال البلقاني، بينما زحفت جيوش العثمانيين بقيادة مراد الثاني من الجنوب بصورة أسرع من الجيش الصليبي، ليتم اللقاء بينهما في سهل كوسوفا (إلى الشمال من مدينة بريشتينا) في الثامن والعشرين من يوليوز 1389 ويلتحم آلاف الجنود في حرب طاحنة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فيكون الطابع الديني هو الغالب على شعارات وهتافات الطرفين في تلك المعركة التي انتهت بانتصار حاسم للأتراك العثمانيين المُسلمين وإلحاق هزيمة ساحقة بالصرب بعد فقدهم زهرة شبابهم وكبار قادتهم وعلى رأسهم الأمير الصربي الذي لم تقم له بعدها دولة لمدة خمسمائة سنة لاحقة، وكانت من نتائج هذه المعركة أيضا وبالإضافة إلى توحيد بلاد الأناضول، سقوط البلقان برمّته في قبضة الدولة العثمانية وخضوع كوسوفا وصربيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا للحكم العثماني بشكل ساعد على انتشار الإسلام في نطاق واسع بين شعوب هذه المنطقة بدون تحفظ أو إكراه تحت شعار (لا إكراه في الدين)، وهو الشعار الذي لقي إقبالاً واسعاً لدى مئات الآلاف من أهل البلقان الذين سارعوا إلى اعتناق الإسلام طوعاً،

ودخلوا في دين الله أفواجاً وحَسُنَ إسلامهم وعَظّمَ بَلاؤهم في خدمة الدين الجديد…”.

سلسلة من إعداد: معادي أسعد صوالحة*

الوسوم ,

Related posts

Top