أحداث الحسيمة، وخارج تفاصيل المتابعة اليومية، كشفت لنا أيضا عديد اختلالات وتجليات ضعف وتخلف في تدبير شأننا العمومي، ويجب اليوم التمعن فيها واستيعاب دروسها.
فبرغم كل ما يمكن أن نكيله لأحزابنا الوطنية العريقة من انتقادات أو إلصاق كل شرور الدنيا بها، فقد تأكدت اليوم ضرورتها والحاجة إليها، كما بدا أن محاربتها وإضعافها و”إبعادها “عن الحسيمة وكامل الريف لم يكن فعلا عاقلا.
مخطط “إعداد الملعب”، بكل الطرق، لفائدة هيئة واحدة هجينة تأكد اليوم فشله وارتطامه بالجدار، والكثيرون اقتنعوا أن ذلك كان خطأ فادحا.
إن إبعاد الأحزاب الجادة والحقيقية من الميدان وإضعافها، وفِي نفس الوقت اصطناع حزب يكون هو الحاكم بأمره في المنطقة والفاعل لما يريد، هذا بالضبط هو ما أنتج اليوم الفراغ المخيف الذي أحسه الكل.
إن هذه الوضعية لم تتحقق لذاتها أو أنها نزلت من السماء، وإنما هي جاءت نتاج فعل وعلى إثر ممارسات مقصودة ومنظمة حدثت في السنوات الأخيرة، ومن ثم، التغيير اليوم يجب أن يشمل هذه الوضعية كذلك، أي أن يجري الاعتراف بفشل هذا المخطط التراجعي برمته، وبكونه يعتبر من ضمن الأسباب الجوهرية لما يحدث حوالينا هذه الأيام.
وصلة بما سبق، فإن ما أريد له أن يكون حزبا يحكم بأمره ويفعل ما يريد تحلق حوله رموز الريع و”شناقة” الانتخابات، وشكلوا لوبيات نهبت عناصرها الكثير والكثير، سواء في المناسبات الانتخابية أو على إثر الزلزال الذي كان قد ضرب المنطقة.
فماذا لو جرى اليوم البحث والتحقيق مثلا في تغير أحوال ووضعيات عدد من رموز هذا الكائن الحزبي، على الأقل منذ الزلزال إلى اليوم؟
وماذا أيضا لو حدث تحقيق معمق ونزيه في المستفيدين الحقيقيين من رخص الصيد البحري وملاك الشركات والمستحوذين على ثروات البحر؟
كل هذا سيساعدنا لكي نفهم معنى غياب التوزيع العادل للثروة، ومعنى غياب العدالة الاجتماعية على الأرض…
أما إذا زدنا في البحث ليشمل علاقة هؤلاء المنتفعين ومراكمي الثروة والريع بالانتخابات في المنطقة وبالحزب الجديد، فحينها سنكتشف لماذا ينتفض الناس.
هؤلاء الوافدون الجدد يسيطرون على مهام تدبير الجماعات، وعلى مقاعد البرلمان، ولكن لا منجز لهم في الميدان، وعدد منهم يتحوزون لفائدتهم وأقربائهم على رخص الصيد، وحصلوا على المشاريع والأراضي والعقارات خارج المنطقة، وتغيرت أوضاعهم الاجتماعية من موظفين بسطاء أو عاطلين حتى إلى ملاك اليوم وشخصيات عمومية، وذلك في فترة زمنية قياسية.
أليس هذا ما يثير حنق فقراء الريف؟ أليس هذا ما يخرجهم إلى الشوارع؟
أليس هذا الفساد الحقيقي الذي يجب اليوم التحقيق في ملفاته وفضح رموزه الذين يعرفهم أهل الريف، وتتداول أسماءهم مختلف مجالس الحديث؟
أحداث الحسيمة واحتجاجاتها كشفت لنا كذلك أن إعلامنا العمومي هو بالفعل متجمد، وبأنه يعيش في وادي آخر لا علاقة له بوديان وشعاب هذه البلاد وانشغالات أهلها.
التغطيات الإخبارية كانت مرتبكة، والحضور التحليلي والتأطيري كان منعدما، والقائمون على شأننا التلفزيوني بالخصوص بدوا عديمي المعرفة والمبادرة، وبلا عقل أو نظر.
وحتى عندما قرر المسؤولون مؤخرا التواصل مع الناس والصحافة والجواب على الأسئلة والرد على المغالطات، فالوقت كان قد تأخر كثيرا، وجاء الأداء باهتا وبلا مضمون أو روح أو أثر.
إعلامنا التلفزيوني بوضعيته الحالية لا يمكن أن تعول عليه البلاد في اللحظات الأساسية والصعبة.
احتجاجات الحسيمة نبهتنا إلى انبعاث جيل جديد من الحراكات والاحتجاجات الاجتماعية، على غرار ما يجري عبر العالم، وهذه الديناميات تتميز بالحضور القوي للشباب من الجنسين، وتعرف استعمال معجم مختلف وأكثر جرأة ومباشرة، بالإضافة إلى استثمار تيكنولوجيا الاتصال والأنترنيت وحرب الصورة، وكل هذا كان يفرض تعاطيا مختلفا، وذلك على مستوى المعالجة الأمنية أو التدبير القضائي أو الفعل الإعلامي، أو أيضا من خلال الخطاب الديني المواكب.
هذه مجالات وجب إحداث التغيير فيها، وأن تكون كلها مواكبة لواقع اليوم وانشغالات أجيال اليوم.
وقبل كل هذا، اليوم يجب الحرص المشترك على توفير الهدوء بغاية إعداد شروط إنجاز البرامج والإصلاحات وتلبية المطالب، وهنا المسؤولية ليست لدى المحتجين وحدهم، وإنما لدى الإدارة والقضاء وباقي المتدخلين.
وبعد ذلك، يجب العمل كي يحس الناس على أرض الواقع بتحقق التغيير، سواء من خلال محاربة الفساد والمفسدين وتخليق الحياة العامة، أو من خلال الاستثمار الجيد للثروات وجعلها داعمة لمسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة، وتساعد على تحسين الأوضاع المعيشية للفئات الفقيرة والمتوسطة، وتحدث فرص العمل للشباب.
التغيير يجب أن يشمل منطلقات التفكير والعقليات والمقاربات، وأيضا الخطاب وأساليب العمل.
محتات الرقاص