اضطهاد العلماء والفقهاء.. شذرات من مظاهر الصراع الفكري في تاريخ المسلمين -الحلقة 15-

منذ أسابيع، اشتعلت نار السجال واشتد أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي بين الأخصائي في التغذية المثير للجدل محمد الفايد وبين عدد من فقهاء الشريعة ببلادنا، بل تخطت هاته «الفتنة» الحدود عندما دخل عدد من علماء وأساتذة الفقه في عالمنا العربي والإسلامي ليدلوا بدلوهم في الموضوع، فالأمر جلل عندما يتعلق بالحديث عن مسائل ترتبط بالمعتقد الديني من قبيل رحلة الإسراء والمعراج ويوم الحساب الأكبر ومصير المسلمين والكفار بين الجنة والنار.. تلك هي المحاور التي تجرأ الفايد على الخوض فيها، خلال مونولاجات تحظى بمتابعة واسعة على قناته على موقع «يوتيوب»، قناة اكتسبت شعبيتها في زمن كورونا بفضل نصائح الفايد الوقائية والعلاجية من الوباء عن طريق نظام يمزج بين التغذية الصحية وأنواع من مغلي الأعشاب.
ولم يشفع للفايد الذي يقول عن نفسه إنه «دكتور دولة ودارس للشريعة وحافظ لكتاب الله ويتحدث سبع لغات»، تاريخه المدافع عن التراث الإسلامي خاصة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن وفي الأحاديث النبوية فيما يرتبط بالتغذية الصحية، حيث وجد نفسه في قلب الإعصار جراء سيل من الانتقادات والهجومات وصل حد السب والشتم والوصم بالزندقة والتكفير.. وزاد من حدة السجال انبراء جيش متابعي ومعجبي الدكتور الفايد للدفاع عنه والرد بنفس أسلوب «المقابلة» على منتقديه. ولم تهدإ العاصفة على الرغم من إصدار الفايد لاحقا لبيان «توضيحي» يؤكد فيه عدم إنكاره للثابت من الدين بالضرورة واحترامه للعلوم الشرعية مع طموحه إلى أن يجمع علماء المسلمين بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية.. استدراك الفايد لم يسلم بدوره من الانتقاد والتمحيص والتدقيق، في إطار فصل المقال فيما يتردد ويقال حول ماهية العلوم الكونية وموقع العلوم الشرعية، وعن أهلية المتحدثين والعلماء المُحدَثين للخوض في مسائل الدنيا والدين…
«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. وفتنة الخلاف في الرأي والتشدد له ليست وليدة واقعة الفايد مع علماء الشريعة ببلادنا، بل تكاد تكون رديفة لتاريخ الإسلام والمسلمين منذ وفاة الرسول الأكرم عندما اندلع الخلاف حول من يخلفه في إمامة المصلين وقيادة الأمة الإسلامية آنذاك. ويشهد النص القرآني نفسه على عدد من الوقائع حتى في حياة الرسول حيث احتدم الخلاف بين أصحابه وكان الوحي وحده هو القادر على كبح جماح صراعهم والحافز لإعادتهم إلى وحدة الصف خلف قائدهم رغم ما يفرقهم من عدم اصطفاف في الرأي ووجهات النظر.
كما تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان ما تحفل به صفحات التاريخ الإسلامي من حكايات عن الحروب بين «العلماء والفقهاء» المسلمين، كما يصنفهم البعض، على الرغم من أن أغلب علماء المسلمين في الرياضيات والفيزياء والطب يشهد لهم التاريخ أيضا بأنهم كانوا على جانب كبير من التفقه في الدين، وعلما أن عددا من فطاحلة الفقه في تراثنا الإسلامي بدورهم لم يسلموا من تهم التكفير والزندقة. ويسجل التاريخ كذلك أن السجالات التي كانت سببا في «الاضطهاد» والقتل الحقيقي والمعنوي اللذين تعرضت لهما تلك الشخصيات الإسلامية، كانت في نفس الوقت، وهي مفارقة أبدية، عنوانا لحرية التعبير والصراع بين الأفكار في ظل ثورة فكرية وإنسانية عجيبة عرفها المجتمع الإسلامي على امتداد قرون بعد وفاة الرسول، لم يتردد روادها في الخوض حتى في الإلاهيات وفي تحليل النص القرآني من منظور فلسفي.. ولازالت آثار تلك الجرأة الفكرية مستمرة إلى يومنا في تعدد المذاهب الناتج عن تعدد الفرق الكلامية والأقوال الفقهية للسلف..
في هذه السلسلة، نحاول أن نعيد تسليط الضوء على هذا الجانب المثير من التاريخ الفكري للمسلمين، نذكر فيها بشخصيات كانت مثار جدل وصراع اختلط وتأثر فيه التفكير الديني بالمؤثرات السياسية والإنسانية للمجتمع. ثم نعرج لاحقا على بعض ما أنتجه المفكرون المسلمون أيضا من أدبيات ترمي إلى تأطير الاختلاف والحد من أثاره المدمرة على الأشخاص وعلى المجتمع، وذلك في سياق ما أسموه بـ»فقه الاختلاف» الذي أفردوا له جانبا مهما من جهودهم في البحث والتأمل والتأصيل.

اختلاف الصحابة

يذكر التاريخ بعض النماذج من أدب الاختلاف على عهد الصحابة، حيث حاول المؤرخون والباحثون الوقوف على دلالاتها والعبر المستفادة منها، ومن هذه النماذج ما يلي:
> ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة))، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي ديار بني قريظة، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، “فلم يعنف واحدا منهم”.
ويبدو أن كلا الفريقين من الصحابة اجتهد فأصاب، فالذين أخروا صلاة العصر حتى وصلوا إلى بني قريظة، تمسّكوا بظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، والذين صلَّوا العصر في وقتها نظروا إلى المعنى المقصود، وهو الإسراع في السير لا حقيقة اللفظ، ولذلك لم يعنِّف النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا من الفريقين؛ لأنهم مجتهدون، وبالتالي فلا لوم ولا تعنيف للمجتهد فيما فعَله باجتهاده إذا بذَل وُسعَه، وكان مؤهلًا لهذا النوع من الاجتهاد.
> اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام، وهو أول اختلاف بينهم بعد التحاقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى؛ حيث أصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، واعتبر القول بوفاته ارجافا من المنافقين، وظن أنه سيبقى في أمته حتى يشهد على آخرها بآخر أعمالها، حتى جاء أبو بكر؛ لأنه لم يكن حاضرًا، وقال بصوت مرتفع: “أيها الحالف على رِسلك”، وهو تنبيه لطيف في جذب الأنظار وتحويلها من فرد لآخر، لأجل التأثير، وتحويل دفة القيادة من عمر رضي الله عنه إليه، فالصِّديق رضي الله عنه لم يعنِّف عمر، ولم يَحطَّ من قدره بكلمات التقريع.. لأن الحشود بحاجة ماسَّة إلى الإيجاز في القول وانتقاء العبارات التي تحدِّد الموقف بالتفصيل، ولذلك فالصديق أوجز العبارة، ولَما تكلَّم سكت عمر، فقال الصديق: “ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت”، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون ﴾ [الزمر: 30]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آل عمران: 144]، فسقط السيف من يد عمر، وخرَّ إلى الأرض، وقال عن هذه الآيات التي تلاها أبو بكر: كأني والله لم أكن قرأتها قطُّ، واستيقَن فِراقَ الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاعَ الوحي.
> اختلافهم في خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث اختلفوا فيمن تكون الخلافة: أفي المهاجرين أم في الأنصار؟ أتكون لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكمًا وإماما للمسلمين، أم تنقص عنها وتختلف؟ حتى أوشكت فتنة كبرى أن تقع، لكن الرجال الذين تربَّوا في ظلال النبوة قد حكمتُهم آدابُها في سائر الأحوال: حال الاتفاق وحال الاختلاف، وفي سائر شؤون الحياة؛ لأنهم تحلَّوْا بكل خصال الحكمة والحنكة وأدب الاختلاف، وبذلك تجاوزوا العقبة، واحتووا الأزمة، وخرجوا منها بسلام.
> اختلافهم في قتال مانعي الزكاة: ويعد ذلك من الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، لكنهم استطاعوا التغلب عليها بما تحلَّوا به من صِدق النية إلى جانب أدب الاختلاف. ومجمل القول في ذلك أنه لَما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ارتدَّت بعض القبائل حديثة العهد بالإسلام، وامتنعت أخرى عن أداء الزكاة فقط؛ حيث زعموا أنها في أصل الشريعة لا تدفع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المخاطب بأخذها في قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وحرصا من أبي بكر على استمرار مسيرة الإسلام، قاتَلهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى حظيرة الإسلام، لكن عمر تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي الزكاة، مستشهدا بالحديث ((أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني مالَه ونفسَه إلا بحقِّه، وحسابه على الله تعالى))، فقال أبو بكر: والله لأقاتِلَنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فو الله ما هو إلا أن قد شرَح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال، فعرَفتُ أنه الحق”، وبذلك استطاع الصديق أن يقنع بقية الصحابة بصواب اجتهاده، فارتفَع الخلاف، وعدل عمر عن رأيه لما رأى الحق، وصدع بعدوله أمام الآخرين، ولا شك أن في ذلك تربية ونهجا إسلاميا بليغا ليقتدي به الناس.
> ومن الخلافات الحاصلة بين الصحابة الكرام والتابعين من بعدهم – أن منهم من كان يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في لمس المرأة نقضا للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، أو ما مسّته النار مسا مباشرا، ومنهم من لا يرى في ذلك بأسا إن هذا كله لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض.
قال القاسم بن محمد: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى اهلو عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم، إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله”، وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء.
إذا كانت هذه بعض النماذج الدالة على ثبوت الاختلاف على المستوى الجماعي، وما تحلَّى به الصحابة من آداب عالية في الاختلاف فيما بينهم، فإن هناك أيضا نماذجَ من الاختلاف على المستوى الثنائي بين بعض فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم ومن ذلك:
> اختلاف عمر مع عبدالله بن مسعود حول مسائل فقهية عديدة؛ حيث ذكر ابن القيم أن المسائل الخلافية الفقهية التي وقعت بين ابن مسعود وعمر رضي الله عنها بلغت نحو مائة مسألة، وذكر منها: موضوع التطبيق في الصلاة؛ حيث كان ابن مسعود يطبق، وعمر يضع اليدين على الركبتين. ومنها أن ابن مسعود كان يقول في الحرام: هي يمين، وعمر كان يقول: طلقة واحدة. وفي مسألة زواج الرجل بزانيته، فعُمر يأمر الزاني أن يتزوَّج التي زنَى بها، وابن مسعود يرى أنهما ما يزالان زانيين.
كما اختلف الإمام علي كرم الله وجهه مع الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك في مسألة القران في الحج؛ حيث بنى بها عليا قاصدا معلنا، بينما عثمان يرى خلافه.
وبالرغم من هذه الخلافات الثنائية بين الصحابة، فإننا نجد عدم تأثيمهم وتخطئتهم للمخالف فيما اختلفوا فيه، كما أن أحدهم لم ينقض حكم الآخر في حياته، بالرغم مِن اختلافهم في المسائل الظنية الاجتهادية، بل نجد بعضهم يصف البعض الآخر بأحسن ما يقال، حكى الإمام الهادي ابن إبراهيم الوزير في كتابه المعروف بـ”تلقيح الألباب في شرح أبيات اللباب”، وما نظمه أيضا في قصيدته المشهورة بالبسامة أن عليًّا كرم الله وجهه كان يترضى على الخلفاء، كما ذكر الإمام أحمد يحيى بن المرتضى في كتابه “يواقيت السير شرح الجواهر والدرر” – أنه حين مات أبو بكر رضي الله عنه، قال علي عليه السلام رضي الله عن أبي بكر: والله لقد كان بالناس رؤوفا رحيما. ومما يدل على التسامح والوقوف مع الحق، ما أخرجه البيهقي في سُننه عن أبي حبيبة مولى طلحة رضي الله عنه قال: “دخلت على علي رضي الله عنه مع عمران بن طلحة، بعدما فرغ من أصحاب الجمل، قال: فرحب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ – الحجر(47).
“قراءة في أدب الاختلاف على عهد الصحابة” للكاتب د. يوسف كرواوي (شبكة الألوكة) – بتصرف

< إعداد: سميرة الشناوي

Related posts

Top