استفحلت ظاهرة التشرد في مدينة الدار البيضاء واشتدت بشكل مريب في الآونة الأخيرة، فلم تعد تقتصر على آماكن بعينها كمحيط المساجد والأسواق العمومية ومحطات النقل… بل صارت تشمل حتى الأحياء والتجمعات السكنية حيث المشردون يبيتون عند أبواب المنازل والإقامات السكنية. وتعاني هذه الفئة الاجتماعية خلال فصل الشتاء محنة حقيقية جراء انخفاض درجات الحرارة وقلة الملابس وانعدام الأغطية الكافية لمواجهة الظروف المناخية القاسية بالإضافة إلى سوء التغذية.
أعداد المشردين بالعاصمة الاقتصادية في حركة تصاعدية تستمد ديناميتها من إفرازات المجتمع ومشاكله التي تؤثر سلبا في هذه الظاهرة، إذ أن مشاكل التفكك الأسري والطلاق وفقدان أحد أو كلا الوالدين، هذا فضلا عن انتشار المخدرات والجرائم زيادة عن ارتفاع معدل البطالة والفقر والهدر المدرسي، عوامل مؤثرة لها يد الطولى في الزيادة في حجم هذه الظاهرة الخبيثة التي تدفع بأفواج المشردين، يوميا، إلى شوارع العاصمة الاقتصادية.
بيان اليوم، التي رصدت هذه الظاهرة المستفزة التي تثير أعصاب كل ذي ضمير حي وتزعجه، ووقفت على بعض معاناة أطفال صغار دون مأوى، تضطرهم ظروفهم الاجتماعية للمبيت في العراء بشارع محمد الخامس، حيث لا سقف بيت يحتمون فيه من عصف الرياح، ولا ركن غرفة يقيهم هطول المطر، يقضون لياليهم وسط البرد القارس، عند عتبة منزل مهجور.
اقتربت من طفل من بين هؤلاء الأطفال المشردين، قد يتراوح عمره بين 14 و16 عشرة سنة، يلبس معطفا صوفيا يكبره، وسروال جينز أسود متسخ وحذاء رياضي متهالك، كان قد نهض لتوه من النوم، بعد ليلة باردة داخل صندوق ورقي وسط أغطية بالية. وباقترابها من هذا الطفل المسكين لاحظت بيان اليوم كيف تبدو عليه أعراض الإصابة بالزكام، فأنفه يرشح كثيرا، وبين الفينة والأخرى يتعرض للعطس وتنتابه نوبة سعال حادة.
كانت الرغبة ملحة للحديث إلى هذا الطفل الهزيل ذي الوجه الشاحب والنظرات الغائرة التي فقدت بريقها من فرط المرض وسوء التغذية.
فبعد أن تثبت الطفل من أن الأمر لا يتعلق بدورية للشرطة، واطمأن للتحدث إلى بيان اليوم عن وضعيته الصحية، قال بنفس مكسور، ان اسمه «كمال» وأنه منذ ثلاثة أيام وهو يعاني من المرض والصداع في رأسه مما يتسبب له في الألم وعدم القدرة على الحركة، مشيرا، في خضم كلامه المؤثر، إلى أن صديقه «جليل» الذي يبيت معه في العراء يعاني هو الآخر من نفس المرض.
وعند سؤاله عن المدرسة، أفاد بانه انقطع عن الدراسة بسبب رسوبه المتكرر في نفس الفصل «القسم الرابع»، الشيء الذي اغضب والده فأرغمه على تعلم «الصنعة» لدى أحد الحرفيين الذي يعمل نجارا، مشيرا، إلى ان هذه المهمة هي أيضا فشل فيها، مما عرضه مرات كثيرة إلى توبيخ والده الذي قال إنه شديد الصرامة. وتابع كمال، أن أباه كان يسند له مهمات كثيرة في البيت منها مرافقة أخته الصغيرة صباحا إلى المدرسة ولقياها للعودة بها للمنزل ساعة الخروج، وأنه كثيرا ما لا يفعل ذلك، الشيء الذي كان يتسبب له في العقاب من قبل والده. واستطرد المتحدث، الذي انتزعه القدر من كنف أسرته ليرمي به في عالم مليء بالبؤس والحرمان أنه خوفا من أن يضربه والده، ذات مرة، عقابا على عدم القيام بالسخرة التي سئم منها، قرر ترك البيت وعدم الالتحاق بمسكن أسرته.
ومنذ ذلك الحين، يقول كمال الذي تحولت حياته إلى جحيم يكتنفها الغموض ويطبعها اليأس، أنه أمسى يعيش حياة التسكع في الشوارع رفقة صديقه «جليل»، ويبيت في العراء صحبة مجموعة من الأطفال الآخرين، إما في مباني مهجورة في نفس الشارع أو ينتقلون من مكان إلى آخر بساحة السراغنة، مضيفا، أنه وصديقه يقضيان يومهم في استجداء المارة وتسول الوجبات الغذائية عند أبواب المطاعم والمحلات التجارية.
لم يعد «كمال» يطيق الحياة الاجتماعية داخل اسرته التي انفصل عنها، فكلما، عثرت عليه والدته بعد بحث طويل وأعادته إلى المنزل، تحين الفرصة للهروب والعودة للعيش دون مأوى صحبة المشردين بالشارع.
وأضاف المتحدث انه يتفادى الإقامة بالمراكز الاجتماعية المخصصة لإنقاذ المشردين من موجة البرد القارس التي تشهدها بلادنا هذه الأيام، معتقدا، أن هذه المراكز مخصصة فقط لكبار السن والحوامل الذي يعيشون نفس الظروف المؤلمة، مشيرا، في هذا السياق إلى أنه حصل على بعض المساعدات التي تقوم دوريات المساعدة الاجتماعية بولاية جهة الدار البيضاء الكبرى، على توزيعها على المتشردين في الشوارع والأزقة غير أن مشردين آخرين يكبرونه سنا، اخذوها منه بالقوة بعد الاعتداء عليه بالضرب. وفي خضم حديثه إلى الجريدة كان «كمال» يلتفت يمنة ويسرة بحثا عن صديقه، بحيث سألني إن كنت أرغب في الحديث إليه هو الآخر، أجبته نعم، ولكن اين صديقك، رد علي: لقد أمضينا الليلة في نفس المكان، وأوقدنا النار في بعض الأعواد والأوراق من أجل الحصول شيء من التدفئة، إلا أن حارسا ليليا منعنا من فعل ذلك بعد إخماده النار.
وتابع كلامه: لم أجد «جليل» في مكانه لما استيقظت من النوم، مردفا، قد يكون ذهب للبحث عن السجائر، ليسألني بعد ذلك عن «الدخان»، ناولته بعض النقود ونصحته بأن لا ينفقها في شراء المخدرات، غير أنه لم يعر كلامي أي اهتمام وانسحب في صمت.
حوالي الساعة السابعة من صباح أول أمس الثلاثاء، الأجواء ممطرة والبرد قارس، في هذه الظروف المناخية القاسية رصدت بيان اليوم عددا من الأشخاص من دون مأوى ينام كل واحد منهم في مكان عند عتبة مقهى أو دكان بساحة السراغنة حيث المنازل تزينها الأقواس.
حقيقة المشهد رهيب لأجساد متكورة تنام مفترشة الكارتون، تلتحف أغطية بالية لا تؤمن أي دفء لصاحبها في هذه الأجواء الباردة. من بين هؤلاء أطفال ونساء وعجزة يكابدون المحن خلال فصل الشتاء لهذه السنة الذي حل باردا ليعمق من جراح هذه الشريحة الاجتماعية التي تخوض الصراع على جبهتين، صراع من أجل البقاء الذي يبقى للأقوى في الشارع، وصراع لا يقل عنه مضاضة من أجل العيش وتأمين شيء من الدفء في محيط مليء بمخاطر الاجرام.
في الواقع، لقد أجمع الكثير ممن التقتهم بيان اليوم وسألتهم حول هذه الظاهرة التي تنخر جسد المجتمع، على أن الأشخاص الذين يعيشون بدون مأوى لا يستفيدون من أية رعاية اجتماعية، باستثناء ما وصفوه بالحملات المناسباتية التي تقوم بها السلطات المعنية كلما حل فصل الشتاء.
وفي هذا السياق تحدثت بيان اليوم للشلبي عمر، تاجر بساحة السراغنة، حيث أفاد بأن هذه المنطقة أمست مأوى للأشخاص بدون مأوى يقصدونها من كل المناطق، حتى من خارج المدينة، وأن من بينهم اشخاصا يتناولون المخدرات والكحول ومرضى نفسيين، مضيفا، أن الحملات التي تقوم بها دوريات المساعدة الاجتماعية للتخفيف من أثر هذه الظاهرة، محدودة الأثر، لصعوبة تحديد أعداد هؤلاء الأشخاص التي تتزايد يوميا. وأضاف المتحدث، أن المشردين الذين يتم إلحاقهم بالمراكز الاجتماعية عبر دوريات المساعدة الاجتماعية، سرعان ما يغادرونها بمحض أرادتهم ليعودوا للعيش بساحة السراغنة، موضحا، أن المراكز الاجتماعية يمنع فيها استهلاك المخدرات بكل أنواعها، وأن أغلبية المشردين هم مدمنون على المخدرات والكحول بالإضافة إلى مادة السليسيون، ولذلك يفضلون حياة الشارع على الخضوع لأي نظام مؤسساتي.
سعيد أيت اومزيد
البرد القارس يعمق جراح المشردين
الوسوم