سنة 1972 التي رأت فيها «البيان» النور مع الأستاذ والمناضل علي يعته، كانت بمثابة شمعة أنارت درب الوطن، وجاءت الجريدة من جديد لتكمل مسارا طويلا انطلق قبيل الاستقلال مع الحزب الشيوعي ثم حزب التحرر والاشتراكية وبعدها إلى اليوم مع حزب التقدم والاشتراكية.
لا أحد ينكر دور «البيان» بطلعتيها الناطقتين بالعربية والفرنسية، في تأطير الجماهير في فترة معنية، ولا أحد ينكر مساهماتها في الدفاع عن القضايا الوطنية وقضايا الكادحين في هذا الوطن.
وكجريدة مناضلة، لم تكن طريق «البيان» التي أنارت دوربا كثيرا في هذا الوطن، مفروشة بالورود، فقد عانت الكثير والكثير من تضييق، مؤامرات، منع، إيقاف، وفي بعض الأحيان حيل ماكرة.
في هذا المقال تكشف «بيان اليوم» عددا من القصص لمناضلين ورفاق عاصروا الجريدة في بدايتها وساهموا في إشعاعها عبر ما كان يسمى «البيع النضالي»، من بين هذه القصص ما هو طريف ومنها ما هو صعب، اعتقل الكثيرون بسبب ذلك، وعانى آخرون. لكن صمودهم كان أقوى فقاوموا من أجل الجريدة ومن أجل رسالتها ومواقفها القوية.
معنى البيع النضالي؟
قد يبدو السؤال ساذجا بعض الشيء، لكنه في الحقيقة وجيه. «بيان اليوم» طرحت هذا السؤال على عدد من الشباب من جيل التسعينات، وكانت أغلب الإجابات تفيد بعدم معرفة هؤلاء لمعنى البيع النضالي. نفس السؤال طرحته الجريدة على أشخاص عايشوا مراحل السبعينيات والثمانينات فتجدهم يبتسمون دون شعور، وتعود بهم الذاكرة إلى تلك المرحلة، وكأن سؤالنا أعادهم سنوات إلى الماضي، فيحكي أغلبهم بتأثر شديد عددا من القصص سواء عاشوها أو كانوا شهودا عليها.
البيع النضالي في المغرب انطلق مع بداية الجرائد الحزبية خلال فترة الاستعمار الفرنسي، حيث كانت هذه الجرائد تعاني من المنع والمصادرة، بالإضافة إلى إكراهات أخرى متعلقة بأماكن انتشار الجرائد. ولأن الجرائد حينها كانت تحمل رسالة تحررية لفئات الشعب المغربي، أبى مناضلو الأحزاب آنذاك إلا أن يوزعوا الجرائد بأنفسهم وإيصالها إلى أكبر عدد من القراء، ولم يكن الهدف من ذلك ربحيا، حيث أنه يتم بيع الجرائد بثمنها الأصلي، وبالنسبة للمبلغ المحصل فيتم به اقتناء الجرائد من جديد في اليوم الموالي من أجل بيعها، ولأن البيع كان الهدف منه إيصال الرسالة السياسية وليس الربح المالي، سمي «بيعا نضاليا» خصوصا وأن المتطوعين في هذه العملية لم يكونوا سوى من المناضلين بالأحزاب الوطنية، وكان من بينهم أساتذة وقادة سياسيون وحتى من الصحافيين أنفسهم، فكانوا فور انتهاء العمل يحملون نسخ الجريدة وينزلون إلى الساحات والأحياء والأسواق من أجل توزيع الجريدة.
البيع النضالي وسيلة الربط بين «البيان» و«الكادحين»
سنوات السبعينات، ومع ظهور جريدة «البيان» بالنسختين العربية والفرنسية تطوع عدد من المناضلين والرفاق في صفوف حزب التقدم والاشتراكية وقبله التحرر والاشتراكية في نقل رسالة الجريدة إلى القرى والجبال، المداشر والأحياء، كان إيمانهم راسخا بموقف الجريدة من القضايا الوطنية والاجتماعية. فكانوا يسابقون الزمن ويضحون بوقتهم وجهدهم من أجل توزيع نسخ الجرائد على المواطنين. مصطفى السكيري واحد من الرفاق والمناضلين التقدميين الذين ساهموا في سن مبكرة في إشعاع «البيان» وانخرطوا في عملية البيع النضالي. يقول السكيري في حديثه لـ «بيان اليوم»: لقد كانت حقا أياما جميلة جدا، أذكر أنني التحقت بالتقدم والاشتراكية شهر مارس 1980، وكنت مداوما على قراءة «البيان» لكن في أزرو كانت تصل فقط 4 أو 5 نسخ، 3 بالعربية و2 بالفرنسية أو العكس، لكن صاحب المكتبة الذي يبيع الصحف، كان يخبئ دائما صحف «البيان» ويحجبها عن القراء عمدا. عانينا كثيرا من هذا التصرف إلى أن التقيت ذات مرة برفاقنا في مكناس وتدارسنا مجموعة من الخطوات من أجل أن تكون «البيان» حاضرة بقوة في أزرو.. وفعلا نجحنا في ذلك، ففي كل مرة يصدر الحزب موقفا في الجريدة أو مقالا حول موضوع مهم أو الصفحة الأسبوعية التي كانت تهتم بالأحداث المحلية لمدينة أزرو، كنا نتوجه إلى مكناس في الصباح الباكر وهناك نتوصل بعدد كبير من النسخ التي تم إرسالها من البيضاء عبر حافلة للنقل، كما كنا نجمع جميع النسخ التي تباع في المكتبات، لنقوم في ذات اليوم بتوزيعها وبيعها بيعا نضاليا بدواوير وأحياء أزرو والجماعات المجاورة، وكنا نبيع في اليوم الواحد مئات النسخ.
حين خير مصطفى السكيري بين «البيان» ومجلة «الكابتن ماجد» بأزرو
السكيري الذي حكى لنا قصته مع «البيع النضالي» تذكر قصة طريفة كانت قد وقعت معه حين كان يبلغ 18 سنة، حيث أوقفه باشا مدينة أزرو ذات صباح وقال له إن ما يقوم به من ترويج لـ «البيان» قد يعرضه لمكروه، خصوصا وأنه لا زال صغير السن (حجمه يوحي بأنه لم يبلغ 18 سنة آنذاك)، وبسخرية كبيرة يتذكر السكيري كيف أن الباشا أمسك به من يديه وأخذه إلى المكتبة وأمر صاحبها بأن يمد الرفيق السكيري بنسخ من مجلة الكابتن ماجد (مجلة عراقية موجهة للأطفال الصغار) بشكل مستمر ومجانا دون أن يؤدي ثمنها. فسخر السكيري من ذلك كثيرا خصوصا وأن الباشا ظن أنه سيثير مطامع طفل صغير، وسرعان ما رفض السكيري هذا العرض المضحك وتشبث ببيع «البيان» قبل أن يلقى تهديدا مباشرا من الباشا الذي قال له بالحرف «إلى بقيتي كتبيع داك البيان غنديك فين تتربى..» وهو يقصد بذلك أن يدخله السجن.
إلى جانب مصطفى السكيري ساهم رفاق آخرون في عملية البيع النضالي، حيث يتذكر السكيري المجموعات التي كانت توزع «البيان» مجانا للفقراء، في حين تقوم أخرى بجمع ثمنها من الرفاق الميسورين وذلك لاقتناء نسخ الجريدة من العدد القادم وتوزيعها مجددا بشكل مجاني على الفقراء والكادحين، من بين الرفاق الذين ذكرهم السكيري بمدينة أزرو: يدوش محمد، شكرات حفيظ، بوزيان وعلي، كريم نايت الحو، البلغيتي وفاء، كابوس ابيب، ورفاق كثر آخرون جعلوا الفئات الشعبية بمدينة أزرو تلتصق بجريدة «البيان» وأصبحوا يبحثون عنها في الأكشاك، حتى أن السلطات المحلية أصبحت تقتني جميع النسخ كي لا يجد المواطنون نسخا أخرى هناك، وفي بعض الأحيان كانت السلطات تعترض سبيل الحافلة التي تحمل نسخا إضافية من الجريدة قادمة من البيضاء فتصادرها، بالإضافة إلى التضييق على المناضلين وتهديدهم، إلى أن اعتقلتهم جميعا سنة 1984، هذا الاعتقال الذي علق عليه المناضل مصطفى السكيري ساخرا «جمعوا لينا الحساب كلو حتى لـ 84 وشدو الفرع ديال الحزب كامل».. هذه قصة أولى فقط تكشف حجم التضحيات التي خاضها مجموعة من الرفاق في أزرو في نشر الجريدة دون أن تخيفهم أو ترعبهم تضييقات السلطة أو شيء من هذا القبيل.
سعيد مويصلط يحكي بتأثر قصة «البيان» في مدينة تيفلت
غير بعيد عن أزرو كان رفاق آخرون بمدينة تيفلت يناضلون بدورهم من أجل إيصال رسالة «البيان» إلى أوسع الفئات المجتمعية، يقول سعيد مويصلط في شهادته التي استقتها «بيان اليوم»: «جريدة «البيان» تعود بذاكرتنا وذاكرة ساكنة تيفلت إلى أيام جميلة رغم قساوتها، وهي أيام تهزنا إليها رياح الحنين رغم مرارتها. كانت قاسية لأننا خبرنا خلالها الظلم والاستبداد بكل تلاوينهما، وكانت، في نفس الوقت، جميلة لأننا امتلكنا حينها الجرأة لنصرخ عاليا في وجه الظالمين، في وقت كان الكل يخشى حتى مجرد الإشارة إليهم. كانت كذلك أيام مرة لأن الجميع اليوم ينكرها أو يتجاهلها أو يتنكر لها ولنا.
ونحن تهزنا رياح الحنين إليها لأننا اشتقنا إلى طهرانية النضال، وإلى نقاوة المبادئ وصدق المواقف. تهزنا رياح الحنين والشوق إلى «أسلحتنا البيضاء» المشرعة في وجه الظالمين، أي إلى صفحات جريدة «البيان» الغراء. نحن إلى كلماتها التي كانت تثير الرعب والخوف والفزع في نفوس كل الجبناء والانتهازيين الذين حاربناهم بالحروف والكلمات داخل مدينتنا، وحاربونا هُم بقطع الأرزاق والتهديد بالسجون والاعتقالات..، ولكن كذلك لم يكن يزيدنا إلا صمودا واستماتة في الدفاع عن مطالب الناس البسطاء، والحديث عن مشاكلهم وفضح ما يتعرضون له من ظلم وانتهاكات، أي أننا كنّا ندافع عن قناعات وقيم غرست فينا ونحن بعد تلاميذ نتلمس أولى خطواتنا النضالية في دروب ذلك الزمان، وقد غرسها فينا معلمنا الأول وقائدنا في دروب النضال بمدينة تيفلت ونواحيها، الرفيق والمناضل الكبير الأستاذ محمد العروصي.
من لا يعرف لعروصي اليوم في تيفلت، يجب أن يسأل عنه أصنام ذلك الزمان وزبانيته قبل غيرهم، فهم لا زالوا يذكرون مواجهاته الشجاعة لهم، قولا وكتابة وفعلا حزبيا، ويذكرون نضاله الميداني اليومي وسط السكان، ونضاله من خلال الجريدة التي كان يكتب فيها المقالات وأيضا الصفحات الخاصة عن قضايا مدينة تيفلت، ويقود مع رفاقه حملات للبيع النضالي للجريدة في مختلف أسواق وشوارع وأحياء المدينة، يقوم بكل ذلك صمودا واستماتة، ونحن كنّا رفقته نجول كامل المدينة حفاة عراة من كل الألقاب والأنساب والصفات، ولا نعرف إلا بأسمائنا الشخصية.
كان هناك، فضلا عن القائد محمد لعروصي، سعيد وكريم ومصطفى وآخرون، كلهم يجولون بأعداد «مهربة» من جريدة «البيان» بين المقاهي والشوارع، لعل أحدا يتجرأ ويشتريها ويساهم معنا في كشف الغطاء عن لصوص المال العام، وعن وحوش العقار الذين حولوا هذه المدينة إلى مقلع للبقع يبيعون ويشترون فيها دون حسيب أو رقيب. وحولوا إداراتها ومرافقها إلى مكاتب للفساد والرشوة والمحسوبية.
كانت، برغم كل التضييق والعسف، أيادي تمتد لتأخذ الجريدة خلسة، ويتم دسها تحت الطاولة، وذلك حتى تتم قراءتها هناك بعيدا عن أعين المخبرين والشيوخ والمقدمين، التي تترصد كل حرف نبيل وكل كلمة شريفة تخرج من بطن جريدة، وحتى لا تتحول إلى فكرة بإمكانها أن تلد فكرة أخرى، أو تتحول إلى فعل نضالي».
محمد العظام وتجربة البيع النضالي بين مكناس والرباط
الأستاذ محمد العظام بدوره يحكي قصته مع «البيع النضالي»، يقول عن «البيان» أنها كانت «وسيلة الاتصال المباشر مع الجماهير»، يروي كيف كان يخرج من مدرسة المعلمين بمكناس إلى أحياء المدينة من أجل توزيع أعداد الصحيفة التي كانت تصل حتى ساعات المساء في أحيان كثيرة، يقول إن المناضلين بمدينة مكناس كانوا يبيعونها حتى وقت متأخر من الليل.
طيلة سنتي 1975 و1976، كان العظام إلى جانب آخرين يجولون أحياء مكناس من أجل توزيع الجرائد التي كان ثمنها آنذاك 60 سنتيم، وكانوا يبادرون إلى خلق نقاشات مع الناس حول آراء الحزب وأفكاره واستمر على ذلك إلى أن تخرج من مدرسة المعلمين وعاد للاشتغال بمدينة الرباط. يذكر العظام أنه وجد الرفيق منبه العلمي يبيع «البيان» في حي يعقوب المنصور قبل أن يدله على مقر الحزب بحي التقدم، يذكر أيضا كيف كانت الاجتماعات تنظم بشكل دوري ومستمر من أجل تحديد نقاط البيع والأعداد التي يجب التسويق لها على نطاق واسع، وكانت هذه المقالات ذات بعد محلي أو جهوي بالأساس أو بمناسبة معينة أو بمناسبة إصدار موقف جديد للحزب في قضية معنية، حيث يقول إن البيع النضالي كان جزءا لا يتجزأ من عمل الفروع ..وبغض النظر عن عمل كل منا، فالجميع مطالب بإيصال الرسالة، ويذكر الرفيق العظام أنه باع لوحده ذات يوم أحد من أيام السبعينات 100 نسخة. وهو ما يبرز المجهودات والروح النضالية التي كان يتحلى بها الرفاق.
رشيد أوبرشكيك ليس بائع جرائد بأكادير!
أستاذ الجغرافيا بالسلك الثاني والممثل المسرحي رشيد أوبرشكيك يحكي هو الآخر قصة طريفة أيام البيع النضالي بمدينة أكادير، هذه القصة تعود إلى صباح فاتح ماي من سنوات الثمانينات حين كان يحمل الأستاذ المناضل نسخا كثيرة من جريدة «البيان» ويبيعها وسط العمال بالتظاهرة التي كانت تقام بالمدينة من قبل الاتحاد المغربي للشغل إلى جانب عدد من المناضلين، وحدث أنه أوقف فتاتين وطلب منهما اقتناء نسخة من الجريدة، فاستجابتا له، لكن وفور ذهابه، قالت إحداهن للأخرى «مسكين هذا أستاذ قراني الجغرافيا ودبا ولى كيبيع الجورنال»، وذلك ظنا منها أنه لم يبق أستاذا وأصبح يبيع الصحف، وهنا كان الرفيق السعودي العمالكي قريبا منهما، حيث شرح لهما معنى البيع النضالي وهدفه، ومضى ليخبر باقي الرفاق بهذه القصة التي لا زالت تروى بينهم بطرافة بفرع أكادير.
أوبرشكيك يتذكر أيضا مجموعة من الرفاق الذين خاضوا معارك قوية بأكادير من أجل إيصال صوت «البيان» إلى الفلاحين والكادحين، منهم عبد القادر اعبابو، سعودي العمالكي، امحمد كيبوش، الأخوان عبد الرحيم وامحمد الكيماوي، وعدد من الرفاق الذي تحدوا منع السلطات في أكثر من مناسبة ووزعوا «البيان» رغم التضييق والمراقبة اللصيقة من قبل السلطات.
لقد خاض الرفاق من شمال المغرب إلى جنوبه معركة كبيرة من أجل «البيان» التي تحتفل اليوم بذكراها الخامسة والأربعين، وفي هذا المقال حاولت «بيان اليوم» أن تقدم للقارئ عينة من المناطق المختلفة التي قدم المناضلون بها تضحيات جساما من أجل ربط الاتصال بين «البيان» والجماهير الشعبية من عمال وفلاحين وطلبة. و»البيع النضالي» الذي اشتد أوجه سنوات السبعينات والثمانينات ضحى من أجله الكثير، إذ أن عددا من الرفاق أوقفوا من قبل السلطات وصودرت الجرائد التي يوزعونها، لكن ذلك لم يوقف الجريدة التي لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا حيث تطفئ فيه شمعتها الخامسة والأربعين.
> محمد توفيق أمزيان