إذا كان عمل الوطنيين المغاربة محكوما خلال مرحلة الثلاثينات بمجموعة من العوامل، فإن ذلك لم يساعد بشكل كبير على رسم معالم تنظيمات سياسية ترقى إلى مستوى ما يمكن نعته بالأحزاب، تفتح المجال لرصد توجهاتها باعتماد منهج تفكيكي يرتكز على رصد آليات التحول والتطور في طبيعة العلاقة التي ميزت كل « هيئة سياسة » باليهود المغاربة، في حين اختلف الوضع قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ ظهرت على الساحة السياسية المغربية أحزاب وطنية، ذات أنماط فكرية مختلفة، لكن “هجينية” تتناسب وطبيعة محددات النشأة التي انعكست على طبيعة نظرتها إلى الأقلية اليهودية المغربية.
كما أن تحديد الشروط الذاتية والموضوعية التي ظلت حاضرة على مستوى البرامج السياسية، ومدى إمكانية انسجامها مع الطروحات التي تبنتها فئة من المثقفين اليهود المغاربة، جعلت علاقتها تتسم بنوع من التباين بين مختلف هذه الأحزاب في نظرتها لليهود المغاربة. فما هو إذن موقع التحول في العمل السياسي، والانتقال من مرحلته الجنينية إلى المرحلة الأكثر تقدما في تحديد طبيعة التداخل بين ما هو سياسي وما هو ديني ضمن مستويات الوعي لدى أبرز هذه الأحزاب، وخاصة الحزب الشيوعي المغربي؟
ذلك ما سنرصد له في هذه الحلقات من أطروحة لنيل دكتوراة الدولة في التاريخ المعاصر، للدكتور محمد براص أستاذ التاريخ المعاصر، مهتم بتاريخ الأحزاب الوطنية والمغاربة اليهود، وعضو الجمعية المغربية للبحث التاريخي، تحت عنوان “الأحزاب الوطنية واليهود المغاربة: بين تطور الأوضاع الداخلية وأصداء القضية الفلسطينية 1934 -1967 ” التي سنبين فيها طبيعة علاقة الحزب الشيوعي المغربي باليهود المغاربة.
إدمون عمران المالح عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المغربي بعد عقد مؤتمره الثاني (فبراير 1949)
ارتأت عناصر الحزب الشيوعي المغربي، بعد مرور ثلاث سنوات على عقد مؤتمرها الأول، ضرورة عقد مؤتمر ثاني، كان الهدف منه إعادة ترتيب الأوراق، بتشكيل لجنة مركزية جديدة، مع التفكير في الأساليب العملية لتحقيق الاستمرارية ومقاومة سياسة الإدارة الفرنسية، كما سعت من ورائه إلى فتح نقاش سياسي داخلي حول التطورات السياسية الدولية وانعكاساتها على الوضع العام بالمغرب المتمثلة في الامتداد الإمبريالي، خاصة التحركات الأمريكية، والأزمة الاقتصادية التي بدأت تظهر في ربوع البلاد.
وقد صادق المؤتمر المنعقد في شهر فبراير بمدينة الدار البيضاء، على الخطة السياسية التي سطرتها اللجنة المركزية في شهر غشت من العام 1946 ، كما صادق على لائحة أعضاء اللجنة المركزية ، التي أصبحت تضم عددا من المغاربة، مسلمين ويهود.حيث تم انتخاب كل من إدريس العلوي، إدمون عمران المالح، عبد الله المؤقت، محمد بن عمر، أحمد الماضي، علي يعته، عبد السلام بورقية، وبفضل هذا التحول السياسي أصبحت عناصر الحزب أكثر تحررا وقدرة على تحديد سياسة الحزب وتوجهاته العامة.
ساهم إدمون عمران المالح خلال المرحلة في النقاش الدائر حول إصلاح لجن الطوائف اليهودية، فعقب عقد مؤتمر هذه اللجن، حيث ساند ما نشرته صحيفة الحزب في مقال مطول، أعربت فيه عن استيائها من الظروف التي أحـاطت مؤتمر اللجن فهو : لا يعبر عن مصالح اليهود المغاربة، لأن طريقة انتخاب الأعضاء لم تكن سليمة، وما دامت كذلك، فإنه من الواضح أن هذه الجماعات لن تقوم بأي دور إيجابي للرفع من المستوى المعيشي لسكان الملاحات، وتحسين وضعهم، بل إنها لن تخدم إلا مصالحها الخاصة ومصالح فرنسا التي جعلتها وصية، كي تحصر اليهود وتراقبهم، بل وتبعدهم عن إخوانهم المسلمين.
ومقابل هذه الدعوات، لعبت العناصر القيادية اليهودية المنتمية للحزب دورا موازيا، من خلال الدعوة إلى تحقيق الوحدة والتلاحم بين جميع مكونات المجتمع المغربي. وفي هذا السياق قدم إدمون عمران المالح تقريرا مفصلا عن الاحتفالات التي عرفها المغرب يوم 2 أكتوبر بمناسبة اليوم العالمي للسلام والحرية ذكر فيه : «[…] بضرورة تجاوز الخلافات الداخلية والحزازات الشخصية، والإيمان بالعمل المشترك من أجل تخليص البلاد من أطماع الإمبريالية وعدم السقوط في الفخ الذي وقعت فيه دول سابقة، مثل اليونـان وإندونيـسيا[…] ».
El- Maleh, A., « Malgré les entraves administratives ( une ligne censurée) dans les principales villes, Meetings, Délégations ont affirmé la volonté de Notre peuple de lutter pour la paix et la liberté », L’espoir, n°.239, 8 Octobre 1949.p. 1
إدمون عمران المالح : نضال مرير في ظل صرامة الإدارة الاستعمارية
دخل الحزب الشيوعي المغربي، منعطفا جديدا مع بداية الخمسينات. بسبب المنحى الجديد الذي اتخذته الأحداث السياسية العالمية وانعكاساتها على التيار الشيوعي، مما أثر سلبا على وضعيته ونشاطه السياسي، الأمر الذي دفع بقيادات الحزب إلى التفكير في العمل السري، تجنبا للمزيد من الخسائر سواء على مستوى عدد المنخرطين أو على مستوى التنظيم داخل الفروع، فالعمل السري كان آلية من الآليات التي ينبني عليها نشاط الأحزاب الشيوعية بصفة عامة، تلجأ إليه كلما دعتها الضرورة إلى ذلك.
تمثل هاجس الحزب الشيوعي المغربي في هذه المرحلة، في الحفاظ على المكتسبات التي حققها بعد مرور فترة من نشاطه السياسي، وتمكنه من تحقيق تطور على مستوى هياكله التنظيمية وتحسن في علاقته بالمجتمع المغربي. فكان هم إدمون عمران المالح حينها هو الحفاظ على حضور الحزب ونشاطه، بالرغم من طابع السرية التي أصبح عليها، وهو الأمر الذي كان يتطلب الكثير من التضحيات لتحقيق ذلك.
فسارعت القيادات إلى عقد اجتماع اللجنة المركزية في شهر سبتمبر من العام 1951 بإيموزار، بهدف إعطاء دفعة قوية للحزب، وإعادة تنظيم الخلايا مع الفصل في مسألة ضم المغرب للاتحاد الفرنسي. دام الاجتماع يومين، وكان الخلاف فيه بارزا بين العناصر المغربية والفرنسية التي كانت لا تزال تربطها علاقات تنظيمية بالحزب. لكن بالرغم من الجهود المبذولة، فإن «المخاض السياسي» الكبير الذي أصبح عليه الحزب الشيوعي المغربي مع بداية الخمسينيات، جعله يتعثر في عمله السياسي، ويبتعد عن الفئات الاجتماعية الواسعة التي سبق له وأن كسب عطفها ومساندتها في بعض الفترات التاريخية من نشاطه السياسي.
وبالإضافة إلى ذلك، تعرض الحزب لضربة قوية من الإدارة الفرنسية، بعد إلقاء القبض على عدد من نشطائه السياسيين، وتفكيك عدد من الخلايا السرية. مما لم يمكنه من الحفاظ على نشاطه بالشكل الذي كان عليه في السابق. بحكم تشديد السلطات الفرنسية الخناق على نشاط جميع اليهود المنتمين للحزب، أو الذين عبروا عن تعاطفهم معه ومن بينهم إدمون عمران المالح. فكان من نتائج ذلك تقلص أعضاء الحزب الشيوعي المغربي.
فالمعطيات السياسية قد تغيرت، كما أن الظروف المحيطة بالبلاد أصبحت صعبة أكثر من أي وقت مضى، حيث عرفت المرحلة اغتيال النقابي فرحات حشاد، فكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الإجراءات على نشاط الحزب وتحد من تحركات أعضائه، فتم تجميد بعض فروعه وخلاياه في العديد من المناطق المغربية، خاصة تلك التي كان يمتزج فيها نشاط الحزب بمطالب النقابيين. والتي حاول إدمون عمران المالح أن يستمر في التعبير عنهم من خلال صحيفة الحزب ولو في الإطار السري.
وبمجرد وصول خبر اعتقال الزعيم فرحات حشاد، قامت قيادة الحزب المكونة من إدمون عمران المالح وعبد الكريم بن عبد الله وعبد السلام بورقية وعبد الله العياشي وعلي يعته، للتحضير للإضراب وتنظيم الطبقة العاملة، وإن كانت قد استفادت إلى جانب حزب الاستقلال من الصدى الواسع الذي خلفته الأحداث، فبالرغم من الحدة التي اتخذتها تلك الأحداث والظروف الصعبة التي أصبح يعيشها الحزب، استمرت العناصر اليهودية المغربية المنتمية للحزب في المساهمة في أنشطته السرية، بما فيهم إدمون عمران المالح، وذلك من خلال التنسيق مع باقي العناصر المسلمة، إذ استجابت لنداء الحزب يوم 8 دجنبر بتخصيص يوم للصيام كتعبير عن الحداد على ضحايا اصطدامات الدار البيضاء. كما استمر إدمون عمران المالح في مساندة زملائه من الحزب في تأطير مجموعة من الفلاحين المهاجرين من البوادي المغربية نحو المدن الساحلية، والذين كانوا يبحثون عن مورد للرزق، وعن ظروف أفضل لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
> ذ.محمد براص