مبدعون مازالوا بيننا (الجزء الثاني)

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

سعيد آيت يوسف.. من الراعي إلى العسكري الرسام (الحلقة 16)

لقب بـ “فنان أكادير”
سعيد آيت يوسف (1920 – 1986) فنان فطري من مواليد منطقة وادي أيت بوكماز بالأطلس، في رحاب مجاله الطبيعي الطفولي، كان دائما مرفوقا بكلابه الأوفياء وبقطيعه الذي يحرسه نهارا، ويعرج به مساء إلى الدوار المبني بالطين. كان يمتلك الوقت الكافي، بتعبير المؤرخ محمد السجلماسي، للافتتان والتشرب من معين الطبيعة الذي لا ينضب خاصة من قصبة تادلة، حيث أجاد استعمال الأسلحة (الفن المعاصر بالمغرب، منشورات ACR، باريس 1989، ص 46). التحق بالجيش الفرنسي، وقاتل في صفوفه إبان الحرب العالمية الثانية بكل من إيطاليا وألمانيا والهند الصينية، قبل أن يعود إلى المغرب، حيث عمل حمالا بأحد المستشفيات، ثم تفرغ لممارسة غواية الرسم والتصوير (محمد بوذينة: مشاهير فن الرسم. منشورات محمد بوذينة – الحمامات/ تونس – الطبعة الأولى، ص. 36)، وقد لقب بـ “فنان أكادير”، أقام أول معرض صباغي عام 1959 بمراكش، وقد أغنت بعض أعماله الإبداعية مجموعتي متحف الفن الخام بباريس (مؤسسة جان دوبوفي) ومتحف لافال.

من الفنانين المغاربة القلائل الذين صوروا البحر


إن كل الأعمال التشكيلية التي أبدعها الفنان العصامي سعيد آيت يوسف بتقنيات متعددة (تصوير زيتي على القماش، غواش على الورق…) على صورة شخصيته الهادئة والبسيطة بساطة رجال الظل من أمثاله الذين اختاروا الصمت مسكنهم الوجودي. يقول في حقه الباحثان فؤاد سويبة وحسن بوفوس: “سعيد آيت يوسف من الفنانين المغاربة القلائل الذين صوروا البحر. حياته الحافلة بالمغامرات والطوارئ كانت في بعض النواحي خارقة. ولد بآيت بوكماز عام 1920، كان أبوه راعيا ومارس بدوره الرعي. ابتداء من سن الثامنة عشرة، حيث ظل متشبعا بمجاله الأطلسي المحلي. انطلاقا من سن الثانية عشرة، طرحت أمامه مشاكل ضمان قوته اليومي، فانخرط في سن الثانية عشرة ضمن صفوف الجيش الفرنسي، شارك في الحرب العالمية الثانية وقام بحملات إيطاليا وألمانيا. حصل على درجة رقيب، ثم بعث إلى الهند الصينية حيث بقي لمدة خمس سنوات إلى غاية هزيمة ديان بيان فو، وأصبح أسير حرب. وشح عام 1951 بصليب الحرب، وحظي بعدة مكافآت. عند عودته إلى المغرب، استقر بمراكش حيث شغل منصب حارس مستشفى المدينة.
يرسم الفنان العصامي سعيد آيت يوسف بصيغة شعرية طبيعية في حالتها الأصيلة، وقد استولت عليه فورة الألوان الزاهية. دفع الفنان بالتجرد إلى أقصاه، وأفسح الحكائي الطرائفي المكان للون. هل ستكون هناك استذكارات أسيوية في ألوانه الزرقاء العميقة وألوانه الخضراء المتدرجة من الغامق إلى الفاتح أو العكس المستشعة والمتألقة؟ فوق قصبات الجنوب المهيبة، أشجار اللوز الزهراء، أنهار وشلالات، مشاهد ربيعية أو حقلية، دائما يرسم سعيد آيت يوسف السماء الزرقاء لبلد نشأته. لم يحتفظ رسمه بتداعيات 12 سنة مفعمة بالعنف الهيجاني، والهول، والأنقاض، وظل بشكل عجيب رائقا وهادئا.

مزيج من الذكريات الطفولية والجنان المصاغة من جديد، المنجز على صورة الفنان، بسيط وساكن دون تكلف وتصنع، مع التميز البارع برباطة الجأش البالغة وبمهارة مذهلة. اكتشف فريد بلكاهية سعيد آيت يوسف وشجعه جاك أزيما، مقدما معرضه الأول عام 1959 بمراكش. ثم توالت معارض أخرى بالدار البيضاء، وأكادير، والرباط، وطنجة، وفاس بمتحف البطحاء عام 1985” (نظرات خالدة، الشركة العامة المغربية للأبناك، منشورات نوفوميديا،1995، ترجمة معدي الحلقة، ص 124).

مهد الطريق لبناء الفن التشكيلي المتقدم

كتب الناقد والباحث عفيف بهنسي حول تجربة سعيد آيت يوسف المنفردة، مبرزا خصائصها الأسلوبية ووحداتها الموضوعاتية في ما نصه: “هل الفن الساذج وليد تشجيع المستعمر؟ وهل هو حصيلة مكتسبات فنية تقليدية تعبر عن انهماكات مجتمع جاهل؟ (حسن المنيعي: الفن الساذج في المغرب. مجلة (الفنون)، العدد الأول – 1976 – ص. 259 وما بعدها). لقد نظر بعض النقاد نظرة ريبة لفن مارسته طليعة من الهواة والفطريين الذين لم يتعلموا في المدارس والأكاديميات. بل احتضنهم بعض رجالات الغرب من أهل المستعمرين وغيرهم، ودفعوا بهم إلى سلم المجد، ورأى هؤلاء النقاد أن تكريم هؤلاء الفطريين مشوب بالرغبة لترسيخ التخلف في الفن. ونحن لا نرى هذا الرأي، إذ ماذا يمكن أن نطلق على مدرسة البسطاء، وعلى رأسها الجمركي روسو؟ وماذا نقول عن المدرسة Insitic اليوغوسلافية وعلى رأسها غينير إليش؟ ثم ماذا نقول عن النزعات الكبيرة التي ابتدأها بول سيزان وهنري ماتيس وبول كلي والتي عبرت عن بساطة التشكيل؟


إن هؤلاء الفنانين الفطريين كانوا الجسر الذي سار عليه الفنانون اللاحقون لبناء الحركة الفنية التي تصاعدت وهي تأخذ أكثر فأكثر من معين وتراث الفن في الغرب، ولكنها وقد أمعنت في التمغرب عادت لترى أن فن هؤلاء الفطريين هو الفن الأكثر مشروعية والأكثر أصالة. وعاد لفيف من الفنانين لممارسة هذا النوع من الفن، على الرغم من ثقافته الفنية الأكاديمية. إن سعيد آيت يوسف، هو من هؤلاء الفنانين الذين مهدوا الطريق لبناء الفن التشكيلي المتقدّم، وهو كفنان فطري يضيفه بعض النقاد إلى دائرة الشك والاتهام.
إن ميزة سعيد أيت يوسف أنه لم يتعلم في معاهد الغرب أو في المعاهد التي تدرس دروس الغرب، بل إنه مارس كأبيه مهنة الرعي، فكان صديقه كلب أمين وقطيع مطيع يعود به بعد سحابة يوم حافل بالرؤى إلى بيته الطيني، وقد تخمرت مشاهد الطبيعة في خياله. وتمر الحياة قاسية عليه، يضطر إلى الالتحاق بالجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية في إيطاليا وألمانيا ثم في الهند الصينية، ويعود بعد هذا الزمن المعلق والمقطوع من حياته، إلى بلاده لكي يبتدئ الحياة من جديد حمالاً في أحد المستشفيات حيث تظهر مواهبه الفنية، ويسترجع خياله كل ما ادخرته ذاكرته من رؤى كان قد جمعها في قريته أيت بوكماز ليجعلها موضوعا لأعماله الفنية. فيصور الحقول والحيوانات والكتاتيب وحياة القرية بأسلوب بريء نقي، وبإحساس مرهف، وينتبه صديقه الفنان فريد بلكاهية إلى أعماله فيدفعه إلى الأمام ويساعده على الاشتراك في المعارض، وتبتدئ قصة الفن لديه متأخرة، ولكنها حافلة بمكتسبات حياتية لا حد لها، أهمها تلك التي حفظها إبّان حياته الأولى. سعيد ايت يوسف الفنان الإنسان الأمي، الراعي البسيط هو فنان أكادير اليوم، الذي يسجل بشغف أرقى الأعمال الساذجة” (الفن التشكيلي العربي. الأولى للنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، صص. 158 و159).

لوحاته تروي حكايات كلها حكم وعبر

تلقى هذا الفنان الفطري إقبالا متزايدا من طرف عدد من المبدعين والمولعين بفرادة العمل التشكيلي، وانزياحه عن المسالك الفنية المطروقة أمثال ميلود لبيض، ورشيد الشرايبي، وعمر بوركبة، ومصطفى القصري (مجموعاتهم الفنية تتضمن نماذج من أعماله التشكيلية التي استوحت مشاهدها الأيقونية من القوارب التي تمخر عباب البحر، والنساء الريفيات المنهمكات في العمل، وأجواء الكتاتيب القرآنية، والمساجد الشعبية، وطقوس الحصاد، ومشاهد الود والوجد بين المرأة والرجل، وطقوس الفروسية…).
تعتبر مشاهده البصرية بحثا ثابتا ومستمرا عن ماضيه، مسترشدا بسليقته وفطريته، إذ تمكن من استرجاع ذكرياته وإحياء المناظر الأليفة التي ترعرع في أوساطها، والتي احتفظ بنوستالجيا عميقة حيالها. عرض ما بين 1973 و1975 برواق فنيز كادر بالدار البيضاء وبفندق أطلس بأكادير عام 1975، وبالرابطة الفرنسية بالرباط عام 1977، وبفندق الصحراء بأكادير، ومتحف الأوداية بالرباط وفندق الموحدين بطنجة (1984).
تتسم اللغة التشكيلية الحلمية للفنان سعيد آيت يوسف بحس مرهف بليغ، هو الذي ظل مخلصا للانطباعات الأولية المسالمة خارج كل النزعات العدوانية والحربية الموحشة. استعاد عنفوان وسطه الطبيعي ومن خلاله وعبره عنفوان مخيلته الخصيبة، منصتا إلى قريحته الإبداعية العذراء خارج قواعد الفن ومعاييره المدرسية. إنها مدرسة الطبيعة التي تتحدى كل المدارس الأكاديمية بروحها الغنائية والتعبيرية والرمزية الفطرية المسترسلة والانسيابية. هذا هو الميسم العام لأعماله المنظرية التي تزاوج بين مدارات الذات التواقة إلى الحرية والاستقلالية ومدارات الوسط الطبيعي بكل مشاهده الفيحاء وكائناته المتعايشة في وئام وسلام. في انزياح تام عن كل تعبيرية صارخة ووحشية، ارتضى هذا الفنان العصامي أن يصوغ لغة بصرية راقية ولطيفة وناعمة، فكانت كل معالم لوحاته مجازا لكينونات وجودية تروي حكايات كلها حكم وعبر.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top