مبدعون مازالوا بيننا ( الجزء الثاني)

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.

في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

المكي مورسية: من مؤسسي أول إطار جمعوي تشكيلي  (الحلقة 18)

رمال شاطئ مارتيل مادة لمنحوتاته ورسوماته الأولية

يعد الفنان التشكيلي العالمي المكي مورسية (1934 – 1984) من بين المبدعين المعاصرين الذين لم تنصف تجربتهم الفريدة على مستوى الساحة الثقافية بالمغرب، خصوصا في مجالي التصوير الصباغي والنحت. نشأ هذا الفنان العتيد بمدينة مارتيل عام 1934، مفتونا منذ نعومة أظافره بسحر شواطئ الشمال المغربي، ومتماهيا مع عوالم الفنون الجميلة بمختلف أساليبها التعبيرية، حيث كان يتخذ من رمال شاطئ مارتيل مادة لمنحوتاته ورسوماته الأولية. تحكي ابنته ربيعة، رئيسة مؤسسة المكي مرسية الدولية للثقافة الإسبانية المغربية، في معرض حديثها عن سيرته الذاتية، ونشكرها بهذه المناسبة على مدنا بصور بعض لوحاته ومحطات مساره، ارتأينا نشرها بشكل حصري:

“التحق عام 1950 بالمعهد الوطني للفنون الجميلة، حيت تتلمذ على أيدي مجموعة من الفنانين الإسبان الذين كانوا أساتذة أمثال الفنان طوماس فيرنانديث باطايير: “هناك سيوفر لموهبته الفطرية سبل التعلم الأكاديمي، وسيكون محظوظ الإدراك وهو يتتلمذ على يد العبقري الخالد ماريانو بيرتوشي. يكبر حلم الفنان وتتسع رقعته الفنية فيجعل من الضفة الأخرى ملاذا فنيا وتكوينا بارزا، إذ تشكل إسبانيا المحطة البلورية في المسار الفني لهذا السامق”، تصرح أسماء المصلوحي في معرض شهادتها النصية المعنونة بـ “شيخ المبدعين” التي نشرتها بموقع “صدى” عام 2018.

في عام 1953، قام المكي مورسية بنحت جلالة المغفور له محمد الخامس ممتطيا صهوة جواده مؤرخا لحدث نفي ملك المغرب من طرف الاستعمار الفرنسي، يتعلق الأمر بتحفة تذكارية تعبر عن مدى حسه الوطني ورفضه نفي ملك البلاد، وقد قام في العام الموالي بإنجاز هذا العمل التاريخي الرمزي في لوحة زيتية. يروى أنه اجتمع بمكتب المغرب العربي بالقاهرة صحبة الزعيمين علال الفاسي وعبد الكريم الخطابي والعلامة عبد الله كنون والمناضل الحبيب بورقيبة من أجل تحرير البلاد وتحقيق الاستقلال وصيانة الوحدة الترابية. كما بادر إلى تخليد شخصية الشهيد علال بن عبد الله بلوحة زيتية في العام ذاته، إضافة إلى تصوير شخصية الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم عام 1959 وإهدائها للسفارة العراقية بالمغرب كمساندة مبدئية في مشروع القومية العربية.

وسعيا إلى إثراء رصيد معرفته الفنية بحثا عن آفاق جديدة، انتقل المكي مورسية إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وتحديدا إلى إسبانيا، حيث التقى العديد من فناني المدارس التقنية المكرسين بكل من مدريد، وبلباو وسان سيباستيان، مساهما بشكل فعال في سلسلة من الأنشطة الثقافية والفنية التي تتوق إلى التعريف بروافد التراث المغربي العريق وجمالياته البصرية.

عاد المكي مورسية عام 1960 إلى المغرب، وبالضبط إلى مدينة الرباط ليلتحق بأحد أبرز الفضاءات الفنية المعتبرة بالمغرب، ألا وهو رواق باب الرواح التابع لوزارة الثقافة التي كانت من خلاله تسخر كل شروط الدعم للرسامين والنحاتين المغاربة”.

 يذكر أنه كان حريصا على توطيد علاقاته مع عدد من النقاد العالميين في طليعتهم بريون جيسين، إلى جانب معظم الفنانين المغاربة أمثال أحمد العمراني، علي النخشة، عبد اللطيف الزين، حسين موهوب، مصطفى رسام، محمد حلمي، محمد الحمري، عبد الله الفخار، أحمد الشرقاوي، مصطفى بلقاضي، جيلالي الغرباوي، بوعبيد بوزيد، محمد الـمليحي، مريم مزيان، عبد الكريم الوزاني وغيرهم. من اللوحات التي أطلعتنا عليها ابنته ربيعة بعد أن تعذر علينا الحصول على نماذج منها، نظرا لكون الفنان تمادى في إهدائها إلى أصدقائه وأقربائه بسخاء روحي: بورتريه ملصق معرض “نظرات على أعمال جيلالي الغرباوي” بمتحف بنك المغرب عام 2012، لوحة تعبيرية رمزية، أهداها الفنان إلى صديقه عبد السميع العراقي، لوحة قرية تاغسة التي أهداها إلى ابن خالته محمد مشبال، لوحة تعكس عمقه الفلسفي بصيغة غرائبية عام 1967. في هذا السياق، أطلعتنا أيضا على صورة الفنان في رحاب قصر الشيخ زايد بن سلطان بالرباط، عندما أشرف والدها على تصميم ديكوراته وإنجاز بعض لوحاته عام 1982.

أبرز قيدومي فناني مدرسة الشمال

تؤكد ربيعة بأن أباها المكي مورسية ينتمي إلى حظيرة الفنانين المغاربة الأوائل الذين حملوا هموم الوسط الفني التشكيلي، وقاموا بتأسيس أول جمعية تعنى بشؤون ممارسي غواية الرسم والنحت، وتتعهد بالدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية، حيث بدأت مراحل تأسيسها عام 1960، لترى النور عام 1963 تحت اسم “الجمعية الوطنية للفنون الجميلة” برئاسة فريد بلكاهية، وكان المكي مورسية أول كاتب عام لها. تحدث عن هذه المرحة التأسيسية بشكل مستفيض الفنان التشكيلي الراحل محمد شبعة في مجلة “أنفاس” (عدد مزدوج 1967)، حيث أكد أن سياقها العام اتسم ببروز مؤسسات منحدرة من فترة الحماية في حاجة إلى إصلاح هيكلي على مستوى التوجه والرؤية وآليات الاشتغال: “مصلحة الفنون الجميلة والمآثر التاريخية”، “مصلحة المتاحف وآثار القدماء”، “متاحف آثار القدماء”، “متاحف الفنون التقليدية”، “مدرستان أوليتان للفنون الجميلة (بتطوان والدار البيضاء)”، “مدرسة الفنون التقليدية بتطوان (دار الصنعة)” وأقسام للفنون المطبقة في بعض الثانويات،: دشنت أول نشاط جمعوي لها بمعرض الفنان التشكيلي عمر بوركبة برواق المامونية.

تروي ربيعة بأنه قام فيما بعد بالإعداد والإشراف على عدة معارض أخرى في فضاءات مغربية وأمريكية للفنانين التشكيليين أمثال محمد تيمود، الحسين موهوب والفنان الكبير محمد الحمري.في عام 1970 بمنزل الفنان السنيمائي البشير سكيرج، تعرف المكي على بشيرة العمراني وتزوج بها لينجبا ربيعة، عبد الحي وبديعة ما بين 1971 و1975.

آمن المكي مورسية بوصفه مبدعا أصيلا ونبيلا بأن الفن لا يمكن أن يباع أو يشترى، لأنه تعبير صادق يتجاوز دائرة النخبة الضيقة ليشمل أوساط عموم الناس بمختلف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الإدراكية، مما خلق لديه شعورا بالمسؤولية الجسيمة تجاه عمله الإبداعي الحر والمستقل، لذلك حينما ألم به المرض وضاقت به سبل العيش تراجع عن الإنتاج في مطلع السبعينيات إلا في حالات نادرة كان يقتصر فيها على رسم لوحات عبارة عن هدايا رمزية لخلانه المغاربة والأجانب، مما جعل أعماله متوزعة على أماكن متعددة بين أوروبا وأمريكا وآسيا.

توفي الفنان المكي مورسية بمسقط رأسه بعد صراع مرير مع المرض وحياة عصيبة على إثر ظروف العيش القاسية يوم 28 فبراير 1984، وكم حز في نفس متتبعي مساره الفني مصير عدة أعماله التشكيلية التي طالها الضياع، خاصة تلك التي كان احتفظ بها في أواخر حياته وهو يتكبد مشقة المرض وشدته. تحكي ربيعة بأن وفاته أثرت بشكل خاص في والده السي العلمي الذي توفي بعد ابنه بعشرين يوما بعد أن عاش أكثر من مائة سنة في أحضان مارتيل.

حول فيوض فنه وشطحاته البصرية، كتبت أسماء المصلوحي: “ألوان البحر وصفاء الرمال كانت خلف مولد هذا الفنان الذي تأبى ألوان التذكر محو اسمه الخالد، كان لمدينة مارتيل الفاتنة فضل إبداعي لازمه حتى آخر نفس في الإبداع وفي الحياة. سطر هذا التطواني فنه بألوان التميز وفرشاة الإبداع، وسافر بفيوض فنه على امتداد العالم، وخلق مدرسة فنية تجانس فيها اللون والتوطين البصري الخلاق. توفي هذا العبقري الفني الذي أنهكه المرض والزمن لتبقى ذكراه سامقة سموق تطوان المدينة التي منها، وفيها، تأسس الوعي الثقافي البصري المغربي. وقد قامت ربيعة بإنشاء مؤسسة المكي مورسية للثقافة والفنون من أجل تخليد اسمه وصون أعماله الخالدة”.

جل لوحاته ومنحوتاته في عداد الأعمال المفقودة

في 10 دجنبر 2016، تم إحداث مؤسسة المكي مورسية للثقافة والفنون فرع طنجة بالمركز الثقافي أحمد بوكماخ بطنجة، في إطار برنامج ثقافي تعزز بندوة دولية حول موضوع “آفاق التشكيل ودور المكي مورسية في تاريخ هذا الفن”، بمشاركة فنانين وباحثين أكاديميين وصحافيين من المغرب وإسبانيا وفلسطين ودول أخرى عربية وأجنبية، مستحضرين أبرز منعطفات مسار الفقيد ونماذج من لوحاته التشكيلية ومنحوتاته التعبيرية، التي ما زال جلها في عداد الأعمال المفقودة ببلدان مختلفة من العالم. في تصريح لـ “الشمال24” أكدت نجلته ربيعة مورسية رئيسة المؤسسة أن جمع الأعمال الفنية الضائعة لوالدها المكي مورسية يشكل هاجسا كبيرا لدى المؤسسة ولها شخصيا، وفي سياق متصل أشارت المتحدثة أنها جد سعيدة بهذا المولود الثقافي والفني الذي رأى النور بمدينة طنجة، والذي يعتبر الفرع الثاني بعد فرع مدريد الذي تم إطلاقه في 16 من شهر نونبر (من نفس السنة)، وأردفت في حديثها للموقع، أنه من المتوقع أن يتم افتتاح فروع أخرى بكل من الرباط ومارتيل الذي سيعلن قريبا عن افتتاحه.

وأكدت المتحدثة أن هذه السلسلة من الفروع وما لها من أهمية بالغة في استحضار روح المكي مورسية وذاكرته، لتساهم أيضا في تدشين عهد جديد في العلاقات الثقافية والفنية بين ضفة البحر الأبيض المتوسط، ومد جسور التواصل المبني على التراث الإنساني المشترك والذي كان الفنان أحد رواده، مبرزة الدور الريادي الذي تضطلع به المؤسسة، وهي نفس الأهداف التي أنشأت من أجلها، وتتمثل في إقامة معارض وندوات ولقاءات فكرية وفنية، الهدف منها إلقاء الضوء على أبرز معالم المشهد التشكيلي بالمغرب تحت مظلة مؤسسة المكي مورسية، وذلك من خلال التعريف بطرق ومناهج تتعلق بمجالات الرسم، النحت، السينما، الموسيقى، والثقافة بصفة عامة.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top