مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني-

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

فاطمة حسن الفروج.. حدائق رمزية -الحلقة 15-

من عالم الخياطة إلى عالم الرسم

فاطمة حسن الفروج (1945 – 2011) رسامة عصامية كونت نفسها بنفسها، تنحدر أصولها من تطوان لكنها عاشت ما تبقى من حياتها بين الرباط ومحاميد الغزلان. احتضن صالون الفنانين المستقلين بالدار البيضاء معرضها الفني الأول عام 1965، كما شاركت في معرض جماعي برواق باب الرواح بالرباط خلال العام ذاته. وكثيرا ما تم تصنيفها ضمن فئة الفن “الفطري” أو “الحلمي” أحيانا. تعكس أعمالها التشكيلية منذ إرهاصاتها الجنينية طرائف الحياة اليومية ووقائعها خاصة المتعلقة بواقع المرأة المغربية وشؤونها، هي التي عاشت في مقتبل عمرها وسط أجواء ثقافية شعبية وممارسات حرفية عريقة.
منذ ستينيات القرن الماضي، واصلت فاطمة حسن تطوير لوحاتها الصباغية، سواء من حيث أسلوبها أو موضوعاتها. مفتونة بأعمال الرسامين الذين اكتشفتهم لأول مرة مع زوجها الفنان التشكيلي حسن الفروج، بمقدار افتتانها بجماليات التطريز والوشم بالـحناء، فقد مارست الخياطة كمحترفة محنكة تميزت ببراعة يدها التي نسجت أعمالا فنية بديعة توحي بـ “حدائقها الرمزية”. من ثم جاءت مجموعة من لوحاتها مشحونة بالزخارف والألوان والرموز والخطوط المكثفة التي تشغل كامل مساحة السند دون فراغات… لوحات إشراقية بألوان زاهية تصور المشاهد والمناظر الطبيعية، وتتغنى بالعادات المحلية والاحتفالات الطقوسية.

لا تنتمي إلى المذهب الساذج

في كتابه التأريخي “أعلام الفن التشكيلي العربي بالمغرب”، كتب الباحث والناقد محمد أديب السلاوي حول السمات النوعية التي تميز لغتها البصرية: “موهبة ناضجة، لها مكانتها المرموقة في عالم التشكيل، تلك هي فاطمة حسن. بدأت حياتها الفنية بجانب زوجها حسن الفروج في مطلع الستينيات، فاهتمت من الناحية الموضوعية بكل ما يحيط بها من أشياء وأماكن وعادات، فرسمت كل ما التقطت عدستها بإخلاص، ودون خلفية مسبقة، ودون محاولة لعقلنة الأشياء والناس، فجاءت موضوعاتها مرتبطة بأسواق المدن العتيقة وحماماتها ومساجدها وزخارفها وعاداتها ابتداء من حفلات الأعراس، وانتهاء بجلسات رمضان وهمسات العرافات. أما من حيث الشكل والانتماء المدرسي لفاطمة حسن، فإنها آمنت بخطوطها الصلبة وبألوانها الواضحة، أقصى حد ممكن من التعبير بأقل ما يمكن من وسائل الأداء. إن فاطمة حسن لا تنتمي في الحقيقة إلى المذهب الساذج، بقدر ما تنتمي، عن طريق تخطيطاتها وتلويناتها، وبراءة تعبيرها، إلى المذهب الوحشي الذي يمثل العودة إلى الفطرة بتلقائية التعبير وبدائية الأسلوب، وحرارة الألوان المعبرة عن جذوة الحماس ووحشية الانفعال… في الكثير من لوحات فاطمة حسن، وخاصة لوحات “الحمام” و”سوق السبت” و”باب الخميس” و”قفزة الحمار” و”الشواية” تتمثل (الفوفيزم) ببساطتها وحرارة ألوانها وتلقائية وبدائية تعبيرها. فالفنانة فاطمة حسن، كامرأة لم تدخل المدرسة في حياتها، ولم تتلق تعليما وتربية فنية، استطاعت عن طريق الحدس التلقائي أن تزخرف لوحاتها بأشكال وألوان في منتهى البدائية والبساطة، وأن تكشف عن طريق اللاوعي عن الصراع القائم عندها بين هذه البساطة وبين تعقيد الحياة الجديدة، فجاءت أعمالها برمتها تنزع نحو الوحشية في مولدها الأول عند بول غوغان وجماعة الفنانين الوحشيين في نهاية القرن التاسع عشر بفرنسا وألمانيا على الخصوص. هكذا، فلوحاتها بدت لتمثل لنا (الفوفيزم) وفي بساطة فطرية البدائي متوحش الأسلوب، التقت الألوان مع تشويه الأشكال وتحطيم الخطوط، ومع الاعتماد على الضوء المتجانس والبناء المسطح، وتأليف المسطحات المستوية بدون استخدام الظل أو النور، هي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها فن (الفوفيزم) عند ماتيس وغيره من رواد هذه المدرسة… إلا أن فاطمة حسن مازالت في استخدامها للزخرفة البدائية لم تتمكن بعد، وهذا راجع إلى تكوينها، من الزخرفة المغربية الأصيلة لتدمجها في أعمالها…” (منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية – دار الرشيد للنشر، بغداد 1982، ص. 85).

في ضيافة محترفها بمحاميد الغزلان

تشرفنا بزيارة محترفها على هامش تظاهرة فنية وثقافية نظمتها بلدية زاكورة بتنسيق مع المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء أواسط التسعينيات، حيث استقبَلَنا زوجها الفنان التشكيلي حسن الفروج بحفاوة كبيرة… كانت المناسبة سانحة لمحاورة عوالمها التشكيلية التي ترحل بنا إلى ذاكرة الجذور والمصادر الرحمية. أباحت لنا عن اعترافها الكامل بمساندة زوجها الذي كان نعم المؤطر والمحفز، والموجه في بداياتها الإبداعية، فقد حققت أمنيته، واستجابت لأفق انتظاره. تذكر أنها انفتحت على دنيا الألوان والأشكال في محترف الزوج المسكون بالإبداع الحر والتلقائي. تحكي، أيضا، عن أول يوم داعبت فيه الريشة ومختلف أنابيب الصباغة التي كانت شبه نادرة في ذلك الإبان. تأثرت كثيرا بورشات التكوين التي أشرف عليها زوجها بدار الثقافة لفائدة الأيتام والأطفال في وضعية صعبة، المنحدرين من الأوساط الشعبية. عندما سألناها عن مصادر إبداعها ومنابعه، استحضرت على التو منطقة عين الزرقاء وتطوان التي لم تفارق صورة الحمامة الطليقة مخيلتها الجامحة. تعتز أيما اعتزاز بمصاحبة زوجها لمخاض إبداعها الخلاق، وتعتبره أول من اكتشف موهبتها الدفينة التي لم يكتب لها النور إلا بمعيته وفي محراب ورشته… في سن الثانية عشرة سنة، خاضت غمار الحياة الزوجية، واستأنست بأسندة الورق والكارطون لترجمة انطباعاتها على هدي وجدانها وحدسها. لم يتردد حسن الفروج في إظهار لوحاتها لزواره ومتتبعي أعماله كمساهمة منه في تكريس اسمها والترويج للوحاتها… كانت سعادتها غامرة وهي تتلقى عبارات الثناء والتقدير من لدن عدد وازن من جماعي التحف الفنية الذين اعترفوا بأصالة منجزها وفرادته داخل المشهد التشكيلي المغربي الحديث الذي كان في طور التأسيس للبنات الأولى لمغامراته البصرية. أعربت أيضا لنا عن مدى اعتزازها بمعارضها المشتركة مع رفيق عمرها في معظم العواصم الثقافية الدولية، حيث كان يتعهد بتمثيلها والنيابة عنها كلما تعذر حضورها الفعلي. للإشارة فإن جمعية أصوات نسائية بادرت إلى تكريم هذه الفنانة الحالمة خلال المهرجان الأول الذي احتضنته مدينة تطوان، مسقط رأسها، تكريم اعتباري أملته ثقافة الاعتراف بمسار مبدعة فطرية انفردت بأسلوبها الصباغي العذري والخام، هي التي تكبدت في أواخر حياتها صراعا مريرا مع المرض ألزمها الفراش، واضطرها إلى الانزواء والخلوة على طريقة الناسكات المتهجدات. أكدت لنا فاطمة حسن بأن الرسم هو بلسم جراحاتها، وملاذها الأثير عندما يساورها القلق، وينتابها القنوط، فتصبح اللوحة هي شفيعها وسندها المعنوي الذي يواسيها في أحلك ظروفها ونوائب دهرها. مازالت تستعيد شريط أحوالها الباكية وهي ترسم لوحاتها على إيقاع عبراتها، وكأنها في مقام استثنائي روحي أو في جذبة تطهيرية.
تعكس أعمالها البوحية، بشكل صادق وشفاف، مظاهر الحياة اليومية بمشاهدها الغراء والغناء، وتحتفي بنبوغ المرأة المغربية المجاهدة والمكابرة والأمينة والعفيفة، وذلك في قالب تعبيري لا مجال فيه للسخرية والكآبة السوداء بالرغم من اختيارها أحيانا الرسم باللونين الأسود والأبيض، مستلهمة بلاغة الـحناء هذه النبتة الفردوسية الزاخرة بالإيحاءات الطفولية والاحتفالية التي طبعت أزمنتنا المفقودة.

الريشة لسان حال أشو اقها


ترسم فاطمة حسن ما تحس به وما تتخيله. كل إبداع ولادة. فلوحاتها بمثابة أبنائها الذين تشاكسهم أحيانا، وتهدهدهم أحيانا أخرى. فالريشة لسان حال أشواقها وبيان مواجدها. تحكي بها ولها عن قصص حياتها بكل منعطفاتها وحلقاتها المثيرة… ترسم وكأنها تكتب بوحها الباطني بحس تاريخي ووعي تراثي، فهي تردد دائما على مسامعنا عبارة “تامغرابيت” كوفاء لأرض المغرب المباركة التي ترعرعت فيها، وتماهت مع سحر طبيعتها المادية واللامادية، خاصة الطبيعة الصحراوية بامتداداتها الجغرافية وروافدها الثقافية المتعددة والمتنوعة. نساء في وضعيات اجتماعية مختلفة، وفي مقامات فضائية متقاطعة، إذ تعـج لوحاتها بعدة مناظر أخاذة رسمتها بدقة تفصيلية وبملكة تعبيرية زادتها الخطوط المتراكبة والمتناسقة ألقا وبهاء، إضافة إلى الأحـجام المتحركة والحية المتجردة من كل رتابة ونمطية واستنساخ. في إبداعها كما في حياتها، تفصح فاطمة حسن عن ذكائها الوجداني رغم عدم تكوينها المدرسي، وتتباهى ببلوغها درجات عليا على مستوى عطائها الفني الباذخ الذي ضاهى مجايليها ومعاصريها.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top