مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني –

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟ 

مولاي أحمد الإدريسي: الحرية في الإبداع والحياة معا – الحلقة 17

مسرحيته “الضجيج والصمت” تروي حياته

مولاي أحمد أفركوش الإدريسي (1924 – 1973) رسام ونحات بصم حضوره بشكل قوي داخل الساحة الإبداعية داخل المغرب وخارجه منذ الأربعينيات، وذلك من خلال معارضه المتتالية بلوزان وباريس وستوكهولم وغيرها إلى حدود معرضه الفردي المقام قبيل وفاته بأيام معدودة عام 1973 بقاعة النادرة بالرباط. يحكي الباحث محمد السجلماسي في كتابه المرجعي “الفن المعاصر بالمغرب” (منشورات ACR، 1989، صص. 126-128) بأن الفنان مولاي أحمد الإدريسي نشأ في خيمة بمنطقة لعزيب القنديفي بجوار مدينة مراكش، على سفوح جبال الأطلس. في سن السادسة، دخل الكتاب القرآني، لكنه كان قليل التواصل مع أقرانه، حيث اتخذ من حمار رفيقه الوفي والحقيقي. فكان يعتز بمصاحبته ويرسمه خلسة، خاصة عندما سرق منه. يوضح محمد السجلماسي بأن هذا الحمار سيشغل حضورا بارزا ومتواترا في معظم أعمال الفنان. في سن المراهقة، سيشتغل إلى حد بلوغه 19 سنة كفلاح: يحرث الأرض ويبيع الورود، ثم شغله صاحب مطعم لترتيب وإعداد باقات زهوره. بعد ذلك، سيمارس مهنة نادل في أحد المطاعم. يحكى أنه كان ينام ليلا بفندق إلى جانب حيوانات سكان البادية القادمين من أجل التسوق بالمدينة.

عقد صداقة مع فنان سويسري الذي وهبه أنابيب الصباغة الأولى، فكانت الحصيلة ممتازة إلى درجة تنظيم معرض لأعماله بلوزان عام 1952. منذ هذه اللحظة، تفرغ كليا للتصوير الصباغي والنحت، مؤلفا أيضا مسرحية سير ذاتية تروي حياته: “الضجيج والصمت”. تلقى دعوة للإقامة بالسويد، فعرض أعماله ثلاث مرات على التوالي، ما مكنه من العيش بإسكندنافيا لما يقرب عن 12 سنة. بعد عودة وجيزة إلى المغرب، سيذهب إلى إيطاليا التي دامت إقامته فيها إلى غاية عام 1955، تلتها إقامته بفرنسا، ولم يعد بشكل نهائي إلى المغرب إلا عام 1956، للاستقرار بالرباط، منغمسا في إنتاج إبداعات صباغيه ونحتية. على نحو عصامي، خلق أشكالا، ومناظر، وشخصيات منظمة وفق منطق مدروس ورؤية للعالم في غاية الشخصنة. المعمار متجمد ومتقشف، فهو موحى به بموجب تضاد الألوان أكثر مما هو مصور. المناظر ذات الأشجار الخالية من الأوراق مبنينة ومحاصرة بالخطوط الهاربة. الشخصيات مثارة بالأشكال الصلبة دون وجه، مدثرة بجلباب تقليدي، ممتطية حمارا نحيلا، أو وحيدا في حركة. كل شيء يبدو كمنجز طفل عبقري، إذ تصبح الرؤية هي اللون لا الرسم. تجعلنا هذه الرؤية بخوالج وارتجاجات حدتها وقوة عرضها الكلي نسبر أغوار فضاء الباطن، ونستشعر الجسد بكل انفعالاته الوجدانية الأكثر حميمية. تحيل بالنسبة إلى الباحث محمد السجلماسي على سجل رمزي متمحور حول البعد الروحي: الأزرق يدل على القداسة، الوردي على الحماس، الأسود على المألوف اليومي، الأحمر والبني على الموت، الأخضر على الحياة، الأصفر على العنف… إن تصويره الصباغي شهادة حية حول اللحظات العصيبة التي تكبدها الفنان في حياته، التقطها في الحال، وترجمها تحت تأثير الصدمة بطريقة بالغة ودرامية. إنها شهادة حية، أيضا، على تصدعات الكائن الجريح. خلف كل عمل فني، يتحدث اللاوعي للإفصاح عن الانتفاضة والتمرد ضد الرياء ومواضعات ذوي الألباب، وتهافت بعض الممارسات الدينية، وتناقضات المجتمع التي يصعب تحملها، والعزلة أخيرا.

مؤسس متحف ومدير لرواق

تميز المسار الفني لمولاي أحمد الإدريسي برصيد حافل بالمنجزات الوطنية في طليعتها تأسيس متحف للفن الشعبي والتوثيق بشارع باستور الكائن بحي الليمون بالرباط. في عام 1957، انفرد، بشهادة معاصريه ومتتبعي تجربته، بإدارته لقاعة العرض “العين السوداء” التي شهدت أنشطة ثقافية هادفة ومعارض تشكيلية رائدة لفنانين مغاربة وأجانب.. منذ عام 1948، قام مولاي أحمد الإدريسي بسلسلة من الرحلات الاستكشافية والدراسية، تفاعل من خلالها مع الأوساط الفنية بكل من باريس والدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد وإيطاليا وسويسرا، كما أنه أقام بالديار الإيطالية حتى 1955 وبالديار الفرنسية حتى 1956، ليستقر بعد ذلك بشكل دائم بالرباط في الستينيات، ممارسا فن النحت، فقد شكل بيته حديقة مزدانة بالمنحوتات الكبيرة التي أبدعها على خامة الحجر الصناعي (الإسمنت).

من منظور الباحث حسين القصري، يعتبرإبداع الفنان مولاي أحمد الإدريسي انبثاقا أيقونيا للمعتقدات الشعبية، فهو في نظره الفنان الأكثر أصالة ضمن جيله، يبدو له كما عرفه خلال السنتين الأخيرتين من حياته، كرحال متجول لا يكف عن المطاردة بحضوره المتشنج، كسترة المجانين بهدوء مستسلم، مطاردة رصيف مقهى باليما ودولس فيتا بالرباط… يذكر حسن القصري بأنه كان لا يكترث للمواضيع التافهة والعبثية، فحالته الصحية استأثرت باهتمامه وقضت مضاجعه. كم كان مقتنعا بالصبر والتريث. منحوتاته الصخرية منتصبة في حديقته كأشكال فوق طبيعة ومترنحة، حاملة خدوش العنف والغيظ التي تبدو كأنها تحطم الزخم.  كان شخصية انطوائية في قوقعة الجسد والدم، واعيا بكونه فيلسوفا حدسيا وشهيدا، متشبعا بروح صوفية بسيطة وفطرية، غنية ومصورنة، ومخلصا لتراثه العربي الأمازيغي: نتذكر لوحتي “سبعة رجال”، و”شجرة الأنساب”… كان يستحضر بفخر واعتزاز انتساب أصله الأمازيغي إلى النسب النبوي عن طريق الأدارسة كاسم على مسمى، مما حتم عليه البحث الدائم عن الإبداع المثالي والمتكامل شكلا ومضمونا، فكل لوحة أو منحوتة بالنسبة إليه معادل ذاتي للتجليات الروحية والعرفانية (حسين القصري، نظرات خالدة، الشركة العامة المغربية للأبناك، منشورات نوفو ميديا، 1995 صص 154-156).

أعماله برمتها تعكس رؤيا باطنية

في ضوء مقاربته النقدية لأعمال مولاي أحمد الإدريسي، كتب الباحث محمد أديب السلاوي: “إذا كانت أصالة العمل الفني ترتبط بحياة أو طبيعة الفنان، كما ترتبط بنوعية تكوينه الفني والنفسي، فإن أعمال مولاي أحمد الإدريسي بقيمتها “التاريخية” تتسم بالكثير من الأصالة، فهو قد وفر لنفسه منذ البداية أصالة إقليمية، وأسلوبا للعمل، وحدد اتجاهه وعمله فيه منذ ما يزيد عن العشرين سنة… فجاءت أعماله برمتها تعكس رؤيا باطنية أكثر مما تحكي وقائع وأحداثا تقريبية. إننا نجد شخصية مولاي أحمد – ساذجة – في كل شيء، وفي كل لوحة، كما نجده مرتبطا ارتباطا وثيقا بكل شيء حوله، إن أول شيء يقف أمامنا هو تلك الإنسانية والحنان اللذان تفيض بهما الوجوه…” (أعلام الفن التشكيلي العربي. منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية- دار الرشيد للنشر، بغداد 1982، ص. 45).   يضيف الباحث محمد أديب السلاوي: “الإبداع كان طابع رسامنا المرحوم الإدريسي، الإنسان الذي غرق في إنسانيته، وعاشها بكل جرأة وصراحة وقوة، لأنه كان يؤمن بأن الفنان المبدع هو المتفاعل مع أشياء الحياة عبر نظره المكتفي بالوجود… الوجود في نظره كان سليما وذلك انطلاقا من النظرة القائلة: الإنسان يعيش… العيش عملية الارتباط بالحياة، وبكل أشيائها، فالإدريسي إذن كان يخلق من كل شيء وجودا جديدا مطلا على الأكمل، لأن الإنسان الذي يحيا إنسانيته بكل أبعادها وأصالتها وعمقها، وكل آفاقها وكل شحناتها العميقة هو إنسان خلاق… هو الرأي… والفنان… والمرحوم الفنان الإدريسي كان بحق فنانا مبدعا… وكان يعرف عن يقين شامخ كالـجبل أن طريق الفن هو طريق لا متناه” (جريدة الأنباء، العدد 26- شهر مارس 1973. نقلا عن أعلام الفن التشكيلي العربي. مرجع مذكور- ص.47).

“التقليد الأعمى سبيل للتعثر”

الإدريسي إذن، نحات ومصور، ولكن صيته ذاع بفضل لوحاته التي تتجلى فيها البساطة والسكينة، وهي بحق فن الأطفال الكبار الذين ينظرون إلى الأشياء ببراءة ودهشة ويصورون بتفاؤل وحب. لقد كان الإدريسي يقول: “لابد من خلق أسلوب مستمد من الأمة”. ويستطرد: “التقليد الأعمى سبيل للتعثر” (عفيف بهنسي: الفن التشكيلي العربي. الأولى للنشر والتوزيع، دمشق- سوريا، صص. 155 و156). أعجب الإدريسي بالفنان أميدو موديغلياني وقال مرة: “إنني لأعجب بعدد من الفنانين أيضا، ولكن مدرستي، هي الوحي الذي أستوحيه من شعوري أنني أعشق الحرية، ولا أحب التقليد، وأحب أن يتميز فني بشخصيتي، لا أنتج إلا إذا أحسست وشعرت” (مجلة رسالة المغرب، العدد 142- يوليوز 1952، ص. 41). من أبرز معارضه، صالون الشتاء بمراكش (1947)؛ لوزان – سويسرا (1948)؛ مراكش، الدار البيضاء، طنجة (1950)؛ باريس، ستوكهولم، النرويج، الدنمارك (1952)؛ رواق المامونية، الرباط، طنجة، مراكش (1953)؛ باريس، إيطاليا، ألمانيا، (1954)؛ الرباط، وزارة الثقافة (1970)؛ رواق النادرة، الرباط (1971و1973)؛ “الفنانون الفطريون” متحف البطحاء بفاس و19 فنانا مغربيا بغرونوبل وباريس (1985).

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top