الدور الخلاق للقضاء في حماية الحقوق زمن المحن..!

تظل مقولة رئيس الوزراء البريطاني المستر ” ونستون تشرشل”، عقب صدور قرار المحكمة بنقل المطار الحربي في ذروة الحرب العالمية الثانية، خالدة تؤطر تلك العلاقة التي ينبغي أن تجمع كل مؤسسات الدولة بالقضاء.. وتلك المساحة من الوقار والإجلال التي ينبغي أن يحظى بها هذا الأخير كحامي للحقوق والحريات، وملاذا للمظلومين.. وصمام أمان الدول الديمقراطية.
ولا شك أيضا، أن الفترات الصعبة من كوارث ومحن، هي الكفيلة بكشف معادن الأفراد كأفراد، والشعوب كمجتمعات، تنظيمات وهيئات..ولعل الفترة التي مر ويمر منها العالم بسبب انتشار وباء كورونا، أماط اللثام عن الكثير من الظواهر والمواقف التي لم تكن لتبرز لولا الآثار النفسية الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة التي خلفتها الجائحة “اللعينة”… والتي وضعت معها قيم الشعوب والدول على المحك.
وأكيد أن المغرب، كدولة وأفراد، لم يشذ عن بقية العالم في ما يمكن أن يفرزه “كوفيد-19 المستجد”، فإذا كانت المملكة المغربية كدولة قد نجحت إلى حد كبير في مقاربة الوضعية الوبائية والآثار المترتبة عنها، فإن الأمر قد يختلف في ما يتعلق بالأفراد.
هكذا، قد يبدو مثيرا للانتباه، مثلا، ما وقع بين بعض أرباب المدارس الخاصة وآباء وأولياء التلاميذ، وتشبث المدارس الخاصة بتحصيل مصاريف ومستحقات الأشهر التي توقفت فيها الدروس الحضورية، دون أي قابلية للتفاوض بشأنها أو تقديم أي تسهيلات معينة تراعي الوضعية الاقتصادية للأسر التي تضررت بدرجات متفاوتة ومفاجئة جراء الوضعية الوبائية وإجراءات الحجر المفروضة.
موقف المدارس الخاصة كان لا بد أن يلفت الانتباه، لكن ما أثار الانتباه أكثر هو رفض بعضهم تمكين التلاميذ من شواهد المغادرة والانتقال ورفض تسليمهم ملفاتهم الدراسية للأسباب نفسها، وما قد يشكله من مساس بحق من الحقوق الأساسية للطفل المتمثل في الحق في التعليم.
من هذا المنطلق، أتيحت الفرصة للقضاء للتدخل وإعادة الأمور إلى نصابها، وإضفاء الحماية اللازمة لحقوق الأفراد وحرياتهم، فصدر عن المحكمة الابتدائية بسلا أمرا استعجاليا، (تحت رقم 439 وتاريخ 08/7/2020)، قضى بتمكين المدعي (ولي الطفلة التلميذة) من شهادتي مغادرة وانتقال طفلته تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 100 درهم عن كل يوم امتناع.
أمر استعجالي جاء بعد امتناع المؤسسة من تمكين التلميذة من شهادة الانتقال حتى يتم استيفاء مصاريف ومستحقات التمدرس عن الشهور المعنية بالتوقف بسبب الجائحة.
لكن الأمر الاستعجالي لم يكن منفردا، بل سبقه أمر استعجالي صادر عن المحكمة الابتدائية بمكناس في شهر فبراير من السنة المنصرمة، (ملف رقم 310/1101/2020)، راعى من خلاله المصلحة الفضلى للطفل واستند في أمره على الاتفاقيات الدولية، بل تجاوز التطبيق الحرفي للقانون إلى التطبيق العادل للقانون. واعتبر أن المصلحة الفضلى للأطفال تقتضي أن يتابعوا دراستهم بشكل انتظامي في أية مؤسسة عمومية، وأنه كان على مصالح التعليم التابعة للدولة إيجاد حل للطفلة ضحية الظروف الاجتماعية، لا عرقلة تسجيلها بإحدى مؤسسات التعليم العمومي.
ووقائع القضية هنا تمحورت كسابقتها، حول تعذر متابعة تلميذة لدراستها بمدرسة خصوصية بسبب ظروف اجتماعية قاهرة للأسرة، تبعتها عراقيل إدارية أدت إلى حرمانها من متابعة دراستها بالتعليم العمومي للموسم الدراسي الحالي.
أمران استعجاليان غاية في الأهمية، يعكسان من جهة، ثقافة التقاضي المتنامية لدى الأفراد، ولجوئهم للقضاء في كل أحوالهم، وهي الثقافة التي يتعين تكريسها، تشجيعها ونشرها، ومن جهة أخرى، يبرزان الدور الإيجابي والخلاق للقضاء في تدبير نزاعات الأفراد والمؤسسات، وانتصاره للحقوق المكرسة دستوريا ودوليا. ووقوفه سدا منيعا، كل وقت وحين، في مواجهة كل تعسف أو استغلال قد يطال حقوق المواطنين.
دور للقضاء في غاية الأهمية والحساسية، يستلزم معه توفير مساحة كافية من التوقير والتقدير لمجلس القضاء، عبر توفير كل الظروف المادية، اللوجيستيكية والمعنوية من أجل الاضطلاع بدوره كاملا.
لكن نزاع المدارس الخصوصية مع أهالي التلاميذ، لم يكن الفرصة الوحيدة التي أتيحت للقضاء إبان جائحة “كورونا”، بل تخللتها مواقف أخرى، منها قضية المواطن الأجنبي العالق بمطار محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء نتيجة المنع الاضطراري للطيران، وتدخل القضاء الإداري بالدار البيضاء والتصريح بأحقيته في الدخول إلى التراب الوطني رغم قرار السلطات المغربية بإغلاق الحدود وفرض حالة الطوارئ، (أمر رقم 239 في الملف 358/7101/2020 بتاريخ 23/3/20)، رغم أن حالة الأجنبي فريدة لم ترد في القانون المنظم لدخول وإقامة الأجانب إلى المغرب، متبنيا في قراره مبادئ العدالة التي تخول للقضاء التدخل لتحقيق دوره الإيجابي في حماية الحريات اللازمة للأفراد.
كما يمكن تسجيل موقف المحكمة الإدارية بالرباط، شهر مارس من ذات السنة، (أمر عدد 275 ملف 223/1101/20)، حين رفضت منح إذن بسفر أطفال محضونين إلى الخارج لقضاء العطلة المدرسية توقيا لمخاطر إصابتهم بفيروس كورونا، معللة أمرها الاستعجالي بالحرص على مواجهة الوضع الاستثنائي المتعلق بخطر تفشي فيروس كورونا، وإعمالا للإجراءات الاحترازية والوقائية للحد من انتشاره، ولكون منح الإذن بالسفر من عدمه يدور مع مصلحة المحضون وجودا وعدما.
مواقف وغيرها، أتيحت من خلالها الفرصة للقضاء لضبط الأوضاع وحماية المراكز القانونية للأطراف، وتكريس المرتكزات الدستورية التي تعاقد عليها المغاربة. مواقف تزداد أهميتها وقيمتها ساعة الشدة أكثر منها ساعة الرخاء… وتحيل على ما للقضاء من مكانة، كلبنة، وسلطة في بنية دولة المؤسسات القائمة على الحق والقانون. فهيبة الدولة من هيبة قضائها.

> بقلم: ذ .ياسين احميداني

Related posts

Top