الذات ومأساة الانشطار .. في قصص «خفق إلى أعلى وإلى أسفل» للقاص أحمد شرقي

 «تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان علوًّا غير مُتناهٍ» بليز باسكال

حظيت التجربة القصصية المغربية بنصيب وافر من التجديد على مستوى الشكل والمضمون، تماشيا مع ما عرفته القصة القصيرة من تجاوز للبنى السردية التقليدية، وقد توسل القصاصون المغاربة بالعديد من الأساليب والتقنيات الفنية في طرائق الاشتغال على الكتابة، يعبرون من خلالها عن رؤيتهم للعالم، لوضع القارئ في نقطة التقاطع بين الفن والفكر، قصد خلق جماليات إبداعية لها تأثيرٌ في المتلقي. ونجد القاص أحمد شرقي الذي ينتمي إلى جيل جديد من كتاب القصة القصيرة المغربية، يصوغ عوالم قصصية بالاعتماد على الأحداث الإنسانية، انطلاقا من النشاط الذهني والنفسي لشخصيات قصص «خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل»1، هذا المنجز القصصي الجديد والصادر في 2024، يعد كشف علاقة الإنسان بالمجتمع، حيث يجعل الواقع موضوعا للقصة، ليس في صورة سطحية تقليدية، بل في شكل من الإمعان في التساؤل حول مصير الإنسان، وعلاقته بذاته وبمجتمعه من منظور وجودي، وفي عالم تنتج سياقاته مظاهر الخيبة والسقوط والانشطار، وهو ما يستدعي قلق المتلقي وما يدفعه إلى التفكير في خطاب النص ومضمراته؛ وفي هذا السياق تسعى هذه المقاربة إلى كشف مضمرات قصص «خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل» وذلك بالتركيز على فكرة مأساة الذات في محاولة تحقيق العلو؛ العلو على الذات بالبحث عن المعنى وخلق التوازن، وسنجعل منطلق هذه المقاربة البحث في علاقة العنوان بقصص المجموعة، لكونه تربطه بالنص علاقة جدلية، ويعد العتبة الأساس في قراءة العمل الأدبي وقد أولى له النقد الأدبي المعاصر أهمية بالغة.

في مقاربة عنوان المجموعة

يعد العنوان للقارئ منطلقا هاما للقراءة، لكونه بنية نصية دالة تربطه علاقة جدلية وانعكاسية بالنصوص، أو علاقات إيحائية، «فهو بنية دلالية لا تنفصل عن خصوصية العمل الأدبي»2 ومنجز لغوي حامل للمعنى، يستمد حياته من فعل القراءة الذي يعد فعلا خلاقا. وقد اهتمت نظرية التلقي بالقارئ، (من منظور إيزر رائد جمالية التلقي إلى جانب ياوس في جامعة كونستانس الألمانية)، واعتبرته منتجا للنص وليس مستهلكا فقط؛ فالقارئ هو الذي يعمل على إخراج النص إلى عالم الممكن ويحقق معناه، من خلال عملية التواصل والتفاعل وملء الفراغات.

وفي سياق قراءتنا لهذا العمل القصصي من خلال عنوانه «خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل»، نطرح بداية سؤالا مشروعا: ما معنى “خَفْق”؟

نجد أن “خَفْقٌ”، من الفعل (خَفَقَ) والذي جذره (خفق)، وفي المعجم تعني «صوت النعل أو ما أشبهها من الأصوات»3، وفي الحديث النبوي:«إنَّ المَيِّتَ إذا وُضِعَ في قَبْرِهِ، إنَّه لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعالِهِمْ إذا انْصَرَفُوا»4؛ أي ما يدل من خلال الصوت (الخفق) على الحركة أو السير، وربما تكون هذه الحركة مضطربة تحدث إيقاعا دالا على الإسراع. ولكن، الإسراع إلى ماذا؟

في عنوان المجموعة القصصية «خفق إلى أعلى وإلى أسفل» يرى القارئ أن هذه الحركة الناتجة عن هذا الخفق، متصلة إلى اتجاهين متقابلين، على مستوى عمودي، أعلى/أسفل. وبما أن كلمة خفق جاءت مرة واحدة، فيحيلنا ذلك على أن الحركة تعود لذات واحدة، في زمن واحد أو متعدد، أي أن شخصا واحدا قد يصدر عنه ما يدل على التجاذب بين الاتجاهين، فلو افترضنا أن العنوان جاء بهذه الصيغة:(خفقٌ إلى أعلى وخفقٌ إلى أسفل)، لكان المقصود بالتكرار، أن لكل اتجاه خصوصيته وحركته، ولن يصدر الخفق عن حركة متصلة، ولن تكون وحدة المصدر أو نفس الكيان/الذات شرطا، بل كيانات متعددة، ولكل وجهة هو موليها.

ومن منطلق هذه الفكرة التي نفترضها: (الإنسان في صراع وتجاذب بين قطبين متضادين)، نمضي في هذه القراءة، بيد أننا سنحاول أن نتجاوز التقسيم المقترح داخل الكتاب، وهو كالتالي: قسم أول: “خفق إلى أعلى”، وقسم ثان: “خفق إلى أسفل”، ونرى أن كل قسم على حدة يضم نصوصا ذات تيمات مختلفة؛ فلو أننا تجاوزنا هذا التقسيم، عمدا مع سبق الإصرار، فإننا لا بد أن ننظر إلى النصوص وقد تجردنا من الوسيط، وبذلك نبني تصورنا بناء على علاقة النصوص (جملة واحدة) بالاتجاهين، (الأعلى والأسفل). وباعتمادنا على أن مفهوم الأدب هو «نوع من استعمال اللغة يتجاوز حدود اللغة»5، فإن ما يتبادر إلى تصورنا للأعلى هو الانتصار والغلبة، أي محاولة تحقيق العلو، والأسفل هو الانحدار والسقوط والإخفاق والانهزام والخيبة والانشطار… وبذلك تأخذنا النصوص ضمن أحداث ذات طابع نفسي واجتماعي، واقتصادي أيضا، فيها تجاذب وصراع بين قطبين متقابلين عموديا؛ أحداث تمثل فيها الشخصيات كيانا ينبض نحو الأعلى لتحقيق العلو والانتصار على الذات والخلاص، وفي الوقت ذاته تجذبها قوى أخرى نحو الأسفل، تماما كالجاذبية في قوانين الفيزياء؛ فشخصية “با الرايس” في قصة “هبة”، يقول عنها السارد: «كان يستحضر حربا أخرى.. حرب الطبيعة على البشر؛ تلك الحرب السرمدية اللامتكافئة!»6، إن الصراع هنا من أجل الحياة، ومن أجل تحقيق بطولة في زمن عزت فيه البطولة وانحدرت فيه منظومة القيم، وشخصية هذا النص – كما يبدو للقارئ – لا ترضى أن تكون في مستوى أدنى وأقل من إنسانيتها، التي تعادل قلق المسؤولية اتجاه الآخرين، يقول السارد عندما حدث انفجار في دكان “با الرايس” الذي قاربت سنه الثمانين: «انفجار وليس حريقا، جعل الرجال يبتعدون حاملين هواتفهم من أجل التوثيق»7، ونلاحظ أنه قال “الرجال” ولم يقل الناس، ما يدل على أن المجتمع تخلى عن البطولة وتمثلات الرجولة والمبادرة الإيجابية، لكن العجوز “با الرايس” هبَّ ليمارس بطولته التي قهرتها حربه المستمرة مع الطبيعة، «وقبل أن يحضر رجال الوقاية المدنية بقليل، ظهر “با الرايس” من بين الحشود، وسط الشرر المتطاير، لابسا سترة رجال الإطفاء، وخوذته الحمراء على رأسه»8. إن هذه الشخصية رغم عجزها البدني، تسارع إلى تحقيق العلو والسمو بإنسانيتها، عكس مجتمعها الذي رضي بالدونية وشهد تحولات غريبة، حيث «إن الإنسان يصبح إنسانًا عندما يعلو فوق ذاته علوا لا نهاية له»9، وذلك ما تجلى في شخصية “با الرايس” الذي رغم كل ما فقده في حرب الطبيعة (زلزال أكادير 1960) ظل يحمل روحا بطولية ويكابد قلق المسؤولية اتجاه الآخرين، يقول: «صحيح أنني تعذبت بعد رحيل قرة عيني زوجتي، وفلذة كبدي ابني، كما بترت قدمي اليمنى، لكن ما آلمني أكثر هو أنني عندما خمدت تلك الهزة، وأفقت من غيبوبتي، كنت عاجزا عن مساعدة زملائي في العمل، الذين انتشلوا جثث الضحايا من الأنقاض»10، وهذا ما يجسد الانجذاب إلى الأعلى رغم الصور الدالة على السقوط والخيبة في هذه القصة (رِجلٌ واحدة/ عكاز/ زلزال/ الأنقاض/ تداعت له جدر الدكان/ الركام..)، فرغبة الشخصية في العلو تعاكسها قوى الطبيعة والحياة والظروف، مما يولد انشطار الذات في غربة اجتماعية.

التجاذب، ومأساة الذات في تحقيق العلو

إن العمل الإبداعي القصصي يعتمد على كشف ما يكابده الإنسان من قلق وجودي، ويكشف أوجه الواقع الذي يصير موضوعا للقصة، من خلال تحديد موقف أو لحظات من الحياة الإنسانية، بتضارباتها وتناقضاتها، ولهذا يضع القاص أحمد شرقي بين القارئ والنصوص عتبة عبارة عن اقتباس نسبه إلى رولان بارت: «السرد كما الحياة..»11، هذه العتبة التي تستقبل القارئ، لم توظف اعتباطا، فهي – كما العنوان – معبر انتقال إلى الكون القصصي الذي يعتبر رحلة موازية للواقع الاجتماعي، فالسرد القصصي صياغة لحياة ممكنة، وبنية سردية يمتزج فيها الواقع بالخيال، وتنعدم المسافة بين الواقعي والمتخيل، أي ما يعادل تجسيد «فوضى الواقع ولامنطقيته»12، كما نجد في قصة «رحلة» وقصة «فرح آخر» اللتين يستند موضوعهما إلى شكل من العبث. وإن هذا التماهي بين الواقعي والمتخيل، يعبّر عن وعي فني وجمالي يهدف إلى إثارة الأسئلة، والتساؤلات، ويورط المتلقي في عملية التفكير في مقول القاص، والبحث في مضمرات نصوصه التي تختزن قوة دلالية تنسجم مع عنوان «خفق إلى أعلى وإلى أسفل»، حيث نجد هذه الدلالة ترخي ظلالها على قصة «شعاع ودائرتان»، التي تجسد واقع (شخصيتين) يتسم بالافتقاد إلى المعنى، إذ تمثل شخصية “منال” معنى الانهزام والانحدار نحو الأسفل في مقابل ارتفاع وعلو صديقتها “وفاء”، التي تعيش توازنا نفسيا (كما يبدو)؛ أو يمكننا أن نقول العكس، وذلك حسب وجهة نظر كل واحدة منهما، فالأولى متذمرة من حياتها الزوجية، معتقدة أن انفصالها من علاقة الزواج يمنحها الخلاص والعلو وخلق للمعنى، وأما الأخرى (وفاء) فتسعى إلى تحقيق سعادتها من خلال تخطيط لزواج قادم، وبالتالي فهي تعتقد أنها تحقق العلو، ولو أن كل واحدة منهما (من منظورها الخاص) ترى الأخرى على حافة الانحدار والسقوط، إلا أن المفارقة (التي تتجلى من خلال تأويل النص) تكمن في أن الرجل الذي تذمرت منه منال، هو الذي ترغب فيه وفاء، والشاهد في ذلك هو: «بعد دقائق من النقاش، والكشف الحميمي، فاجأهما شاب وسيم جاء باحثا عن حبيبته في المقهى المعتاد دون سابق إشعار. لمحته “منال”؛ فانتفضت من كرسيها مشدوهة، في حين عانقته “وفاء” بحرارة قائلة: “تأخرت حبيبي.. لكن لا عليك، الغائب حجته معه، أليس كذلك منال؟»13. والذي يؤكد قولنا هو انتفاضة منال حين رأت الشاب، وبحسب دلالة عنوان القصة، فالشاب يجسد “الشعاع” وهما تجسدان “الدائرتان”، كما أنه (أيضا) كيان واحد بين شخصيتين مختلفتين واحدة تحط من قدره وتحطم علاقتها به، معتقدة من وجهة نظرها أنها تخلق القيمة، فـ «المهم عندها أن تبتعد وتبتعد إلى أن تصل إلى أبعد نقطة ممكنة على البسيطة»14، والأخرى تلتمس العلو من علاقتها به كي تجد لحياتها معنى، لأن تحقيق الوجود، يقتضي تحقيق العلو (كما عند سورين كركغارد)، لهذا تورط القصة القارئ في استيعاب فعلين متضادين، “الانفصال والارتباط”، وتركت له مساحة لبناء تصوراته وحكمه على الموقفين بناء على معطى النص وفراغاته، ومن خلال الحوار بين الشخصيتين الذي أضاء جوانب من حياتهما معا.

و«خفق إلى أعلى» تجسد أثره شخصية فؤاد في قصة “الجمال”، هذه الشخصية التي تُسأل «أما زلت تحلم بالجمال.. يا فؤاد؟» فيرد: «طبعا.. طبعا..»15. والحلم بالجمال لا يتأتى في نظره إلا من خلال الهجرة إلى أوروبا (الخلاص)، بعيدا عن «جحيم القبح»16. ولهذا تكررت محاولاته للهجرة، والتي فشلت، وفقد في المرة الأولى حاسة التذوق بضربة فوق رأسه، ثم فقد في الثانية يديه، حيث نهشهما كلبان مسعوران. ومع ذلك ظل فؤاد يخفق قلبه إلى الجمال، الذي تدل عليه التفاحة في النص كدلالة رمزية؛ تلك التفاحة المفضلة عنده، رغم أنه لن يحملها ولن يقضمها ولن يتذوقها، أي ما يدل على الانهزام والسقوط والعجز والخيبة، والانشطار بين الرغبة في تحقيق العلو، والعجز عن ذلك.

إن مفهوم التجاذب بين الأعلى والأسفل، يتجلى في أغلب نصوص المجموعة وفي سياق ساخر، أي أن القاص وظف السخرية، كذرة الملح التي تجعل ما يقدم إلى القارئ مستساغا، لطرح مشاكل إنسانية (من منظورات مختلفة) منها الهجرة السرية، كسبيل للنجاة من الواقع القبيح، والحلم بواقع جميل، وذلك ما تناولته قصة “الجمال” التي بطلها فؤاد. كما احتلت السخرية في قصة “المنقذة” مساحة أكبر، خاصة وأن حدثها يتعلق بشخصية مهاجر أوروبي (فرانسوا) يحلم بالفردوس الإفريقي، (وهو ما يجسد فكرة خفق إلى أعلى) ثم يكتشف بعد هجرته أنه خدع من طرف فرنسي مقيم بالغابون انتحل صفة عجوز غنية تعرّف بها فرنسوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان يرغب أن تكون خلاصه من واقعه، أو أن يعلو على واقعه بالزواج منها، فكان هذا المسلك بالنسبة إليه إسراعا نحو الأعلى إلا أنه وقع ضحية خدعة ماكرة.

وتنتهي قصة “حلم” بقفلة تختزل المفهوم الذي نطرحه في هذا السياق، يقول السارد: «ألقى الطبيب نظرة على الملف الطبي المرسل رفقة الجثمان من حدود بلد حليف، قرأ في خانة “سبب الوفاة”: كان يحلم بالنجاة»17. إن الجملة الأخيرة هي الشاهد عندنا، فشخصية المحارب كان لديه حلم النجاة من واقعه إلى واقع أفضل، أي أن هذا النص على الرغم من تكثيفه استطاع أن يضئ مساحة من حياة الشخصية (الغائبة هنا) وحالته النفسية أيضا، ليضع أمام القارئ صورة مكتملة لواقعه الجديد، حيث صار جثة باردة، سليمة من أي إصابة، لكن صاحبها لم يحقق بطولة ولا نجاة في حياته، بل نتيجة مأساوية ختمت بالهلاك، وكما قال باسكال: «نبحث عن السعادة ولا نجد غير الشقاء والموت»18. وهذا يعزز فكرة العنوان التي نحلل على ضوئها هذه النصوص، مما يستدعي الرجوع إلى البداية التي انطلقنا منها أن الإنسان في الحياة يتجاذبه الضدان، قد يسارع بخطاه نحو ما يعتقده أعلى، وتقلب صروف الدهر اتجاهه إلى أسفل، وقد «يصبح كل ما يسعى الإنسان وراءه ينتهي إلى لا شيء»19، وبهذا أنهى القاص المجموعة بقصة قصيرة جدا، عنونها بـ “أجنحة متكسرة”، تجسد هذا الانقلاب: «الحلم الذي بناه فوق مجرى الأمل، جرفته سيول الخيبة رغم مرور الزمن»20، لأن الحياة أمل وخيبة، صعود وسقوط، وتقلبات غير آمنة، لتحقيق العلو والانتصار على الذات لا بد من الصراع والتجاذب بين اتجاهين متضادين.

الكتابة وتحقيق العلو

إذا كنا نتحدث عن أن تحقيق الوجود، يقتضي تحقيق العلو على الذات بخلق المعنى، فإننا لا بد أن نشير إلى أن هذا الأمر يشمل في قصص أحمد شرقي حتى ما يتعلق بالكتابة الإبداعية (السردية)، إذ أن القاص وظف “الميتا سرد” ليكشف عوالم الكتابة السردية، وهو مسلك لتحقيق الوجود، عند الذات الكاتبة، وهو تعبير عن وعي فني وجمالي في ممارسة التجريب الذي يضع الكتابة في سياق البحث عما لم تتم كتابته من قبل، باستثمار التعالق بين المعرفي/الفكري والجمالي الذي يخص فن القصة، ويكشف هذا التعالق عن قلق الكتابة، الذي امتد ليطال شخصيات القصص، حيث، وعلى سبيل المثال، يتجلى القلق الوجودي في وضع أو اختيار العنوان للعمل القصصي، كما في قصة «العنوان»، وفي قصة «الطريق إلى اسبرانزا»، أو يتجلى في الانشغال الفكري والوجداني إلى حد التماهي مع الكتابة، كما يقول السارد: «كنت أكتب قصة جديدة، فقالت: كيف حالك؟ أجبتها: “حزن في الرأس، وفي القلب”؟ ردت بتعنت: حاول ألا تستفزني؛ فأقول لك: “لن تتكلم لغتي”. ابتسمت، وحكيت لها معاناتي وسط جدران المعتقل. أخبرتها أني أكتب في السجن ما لم أكتبه، وأنا أنعم بحريتي»21، إنها الدرجة التي تصير معها القصة كيانا حيا يتماهى وجوده مع حياة الشخصية الكاتبة، وهاجسا إبداعيا متوترا يخلق متخيلا سرديا، تستدعيه رغبة تحقيق العلو في مواجهة قهر الواقع ومضايقاته التي تمعن في استلاب الذات وتغريب الإنسان، وتجذبه نحو السقوط في دائرة الإحباط والشعور بالوحدة، كما هو في قصة «قصة في رأسي»، التي اقتبسنا منها المقطع السردي السابق، والتي يخلق ضمنها “الميتا سرد” تماهيا بين واقع الشخصية ومتخيلها بدافع انشغالها بالكتابة (مع استحضار النص الغائب أو التعالق النصي)، إلى درجة لم تعد هناك مسافة بين الواقعي والمتخيل.

على سبيل الختم

من خلال ما سبق، نجد أن شخصيات قصص «خفق إلى أعلى وإلى أسفل» تنتج ما يدل على وجودها، صوتا أو حركة وفعلا، وما يدل على المواجهة والصراع والتجاذب والانشطار بين قطبين متقابلين، لتحقيق العلو على الذات، أي هو تمثل لمأساة الذات في مسار تحقيق علوها وإنسانيتها بالبحث عن المعنى وخلق التوازن.

وقد وظف القاص “الميتا سرد” قصد كشف ما تمور به عوالم الكتابة السردية، من هواجس وقلق وجودي، امتدت ظلالها لتطال شخصيات القصص في بعديها الواقعي والتخييلي والتماهي بينهما، وكسر رتابة المألوف بخوض مغامرة التجريب القصصي.

وقد سعى هذا المقال إلى تقديم قراءة في قصص «خفق إلى أعلى وإلى أسفل» للقاص أحمد شرقي، منطلقا من العنوان كبنية نصية دالة، لها علاقة إيحائية بالنصوص التي أنشأنا معها فعل تحاور (أنتج هذا المعنى) وكشفنا مضمراتها لجعلها منفتحة أيضا على قراءات أخرى.

*********************************

الإحالات:

  1. أحمد شرقي، خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، قصص، دار ذاتك للنشر والتوزيع، مصر، 2024.
  2. عبد الفتاح الحجمري، عتبات النص: البنية والدلالة، شركة الرابطة، الدار البيضاء، ط.1، 1996، ص: 17.
  3. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968، باب القاف، فصل الفاء، المجلد العاشر، ص: 82.
  4. الراوي أنس بن مالك، صحيح مسلم، رقم الحديث 2870.
  5. شكري محمد عياد، الأدب والعلوم الإنسانية، عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، المجلد الثالث والعشرون، العددان3 و4، يناير/مارس- أبريل/يونيو 1995، الكويت، ص: 127.
  6. خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، ص: 11.
  7. نفسه، ص: 13.
  8. نفسه، ص: 13.
  9. فولفجانج شتروفه، فلسفة العلو الترانسندنس، تر: عبد الغفار مكاوي، هنداوي، مصر، 2024، ص: 56
  10. خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، ص: 12.
  11. نفسه، ص: 7.
  12. شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 355، سبتمبر 2008، ص189.
  13. خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، ص: 31.
  14. نفسه، ص: 25.
  15. نفسه، ص: 44.
  16. نفسه، ص: 44.
  17. نفسه، ص: 75.
  18. بليز بسكال، خواطر، تر: أدوار البستاني، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1972، ص: 147
  19. جلال العشري، الإنسان يعلو على الإنسان، من مقدمة لقصص “أكل عيش” لمصطفى محمود، دار العودة بيروت، ص: 17.
  20. خفقٌ إلى أعلى وإلى أسفل، ص: 84.
  21. نفسه، قصة “قصة في رأسي”، ص: 73.

* بقلم: رشيد أمديون

Top