“الذاكرة المنسية”

صدر للكاتبة المغربية الزهرة رميج، خلال السنة الجارية، كتاب جديد بعنوان “الذاكرة المنسية”، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، يعكس عدة مراحل من التجربة الحياتية للمؤلفة: الطفولة، التمدرس، العلاقات الثقافية والإنسانية، ذاكرة مسقط الرأس.. إلى غير ذلك.
 هذا الكتاب كما يبدو، طافح بالصدق، وهو يأتي بعد مراكمة الكاتبة لعدة إصدارات في الإبداع القصصي والروائي والشعري والترجمة كذلك. وقد وضعت له توطئة، تبرز الدوافع والظروف التي حدت بها إلى تأليفه، نورد نصها الكامل كما يلي:
 في شهر ماي من سنة 2010 اتصل بي أحد القراء ليخبرني أنه قرأ رواية”عزوزة” الصادرة في بداية تلك السنة، وقرأ قبلها بقليل، رواية “أخاديد الأسوار”، ولديه مشروع يريد اقتراحه علي. كنت في تلك الفترة، قد تعودت على اتصالات مماثلة من طرف قراء أعجبوا بالرواية، وكانوا يرغبون إما في “رؤية كاتبتها”على حد تعبيرهم، أو يفكرون في إنجاز دراسة نقدية حولها، أو الاشتغال عليها في مجال البحث الجامعي. غير أن لقاء هذا القارئ لم يكن كغيره من اللقاءات. ولم يكن مشروعه كسائر المشاريع. كان يرغب في الاشتغال على فيلم وثائقي عن حياتي!
 استغربت أن ينصب اهتمامه على حياتي الخاصة، بدل رواية “عزوزة”، سيما وأنها منذ صدورها، والقراء يتداولون فكرة تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، أو فيلم سينمائي. أخبرني أنه أستاذ جامعي، وأنه يهتم بالأفلام الوثائقية، وهو اهتمام نابع من ميوله الفنية بالأساس، وأن قراءته للروايتيناللتين أعجب بالطبيعة “الاستثنائية المتفردة” لشخصياتهما، وخاصة منها شخصية عزوزة التي اعتبرها “بدوية حداثية استباقية”، خلق لديه الفضول لمعرفة الكاتبة التي تقف وراء هذا النوع من الشخصيات، وكشف الستار عن أصلها، وظروف نشأتها، والعوامل التي جعلت منها “كاتبة مختلفة”.
 استغربت أكثر، لكون حياتي بسيطة للغاية. فطفولتي التي يرغب في التركيز عليها، كانت طفولة عادية ليست فيها أي إثارة، ومراهقتي مرت بسلام، ولم تعرف لا هزات عنيفة، ولا مغامرات خطيرة، ولا تضحيات جسام. كان طريقيمرسوما منذ البداية، وكانت حياتي تتدفق تدفق الماء في النهر لا يحيد عن مجراه أبدا…هكذا كنت أتصور حياتي، وبناء على هذا التصور، لم أوافق على فكرة إنجاز فيلم وثائقي، لأنه في اعتقادي، لن يضيف إلى القارئ المهتم بتجربتي الإبداعية شيئا ذا قيمة.
 لكن إصرار ذلك القارئ، ولنسمه باسمه رشيدبِيِّي، على إنجاز مشروعه، كان قويا للغاية. لم يستسلم لمبرراتي، وراح يقنعني بكل الطرق. ومن أهم ما علل به مشروعه أمر مهم سيلين موقفي، هو كون كتابتي تنفتح على الأمل،وأن الاحتفاء بهذا النوع من الكتابة مهم في ظل المد الظلامي الذي يدفع الشباب إلى اليأس وكراهية الحياة، ومن ثم، إلى الانتحار أو التطرف. وبذلك، تمكن من انتزاع موافقتي المبدئية التي حرصت على أن تكون مشروطة بحقي في التراجع في حال عدم اقتناعي بما ينجز في المرحلة التمهيدية التي تسبق عملية تصوير الفيلم.
 وهكذا، حددنا موعدا لأول جلسة عمل. وبما أن رشيد ترك لي حرية اختيار مكان اللقاء، فقد اخترت أن يكون في مقهى من أحب المقاهي إلى نفسي لارتباطي العاطفي به، ولكون شرفته الرائعة المطلة على البحر كثيرا ما كانت مصدر إلهام لي. ذلك أن البحر يخفف عادة، من توتري، ويبث في نفسي الهدوء والسكينة، ويدعوني إلى التأمل… وبما أن الحديث الصادق عن النفس هو تعرية لها أمام الملأ، فلتكن هذه التعرية أمام البحر! أ ليس العري على الشاطئ، أخف وطأة منه خارجه؟ لخوض مغامرة الحديث عن النفس، كنت في أمس الحاجة إلى ذلك الفضاء الأزرق الشاسع الذي يغرق في محيطه قلقي، وتوتري، ومخاوفي.
 سيدور اللقاء في البداية، حول مرحلة الطفولة، وسيطرح رشيد أسئلة كثيرة، ومفاجئة أحيانا؛ أسئلة ستنفض الغبار عن الذاكرة المنسية، وتخرج من ظلام اللاوعي أحداثا، وصورا، وأحاسيس ما كنت أتذكرها من قبل. كانت نظراتي مشدودة إلى البحر كما لو كنت أستنجد به. وكان البحر هادئا هدوء الحكماء، لكنه كان يبعث لي بإشاراته من بعيد، ويشجعني على الغوص أكثر، في أعماقي المظلمة، دونما تهيب أو حرج.  
 بعد عدة لقاءات، سيقترح رشيد القيام برحلة استطلاعية إلى مراتع طفولتي. وهي الرحلة التي قمنا بها في أوائل شهر يوليوز من نفس السنة، والتي أعادتني إلى عوالم الطفولة في البادية، بعد نصف قرن. لم تقتصر تلك الرحلة على البادية، وإنما شملت أيضا، أماكن الطفولة في المدينة. كانت بحق، رحلة وقوف على الأطلال وبكائها. لقد وقفت أمام بيتنا القديم، ومدرستي الأولى، وفضاءات لعبي بالبادية، وكذلك أمام بيتنا بوادي زم الذي لم أره منذ وفاة أمي قبل اثنتي عشرة سنة، وأمام المدرسة الابتدائية والمؤسسة الإعدادية اللتين درست بهما، ولم أرهما منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي.
كانت رحلة شاقة، ويوما عصيبا. فبقدر ما أسعدني وقوفي على مراتع طفولتي، بقدر ما أثار أشجاني، وأحزاني، وآلامي.. وجدتني أستجيب تلقائيا، لطلب الشاعر امرئ القيس، وأبكي معه ذكرى الأحبة والمنازل… وأردد مع المطرب وديع الصافي بنفس الصوت المتهدجالحزين:
دار، يا دار، يا دار
راحوا فين حبايب الدار؟
فين؟ فين؟ قولي يا دار!
فقد كان وجها والديّ الحبيبين يطلان علي أينما حللت وارتحلت… انتابني طيلة ذلك اليوم، إحساس اليتم الرهيب، وكأني اكتويت للتو، بنيرانه الملتهبة!وعادت أسئلة الموت العبثية تحرق لساني من جديد!
كانت تلك الرحلة استطلاعية فقط، ولذلك، سنقوم برحلة ثانية، قصد تصوير كل أماكن الطفولة، وخاصة المدرسة التي تلقيت فيها تعليمي الأولي. وبما أن الرحلة الأولى تزامنت مع بداية العطلة الصيفية، وكانت أبواب المدرسة مغلقة، فقد اختار رشيد أن تكون الزيارة في أحد الأيام الدراسية، وباتفاق مع مديرة المدرسة، لنتمكن من دخولها، والتعرف على أجوائها.  فكانت الرحلة يوم الأربعاء 24 نونبر 2010.  هكذا تمكنت في هذه الرحلة، من دخول مدرستي لأول مرة، بعد مغادرتها في صيف 1960. وقد استقبلتنا مديرة المدرسة ومعلموها بحفاوة بالغة، وقدموني للتلاميذ على أني كنت ذات زمن، تلميذة مثلهم أدرس بنفس هذه المدرسة. كانت القاعتان الدراسيتان مغلقتين لكونهما آيلتين للسقوط. وقد نصبت حواليهما، بضع قاعات من البناء الجاهز جعلت المشهد يبدو غريبا علي. أحسست برغبة شديدة في دخول إحدى القاعتين، فاستجابت مديرة المدرسة مشكورة، لرغبتي. انتابني شعور مبهم يمتزج فيه الفرح بالحزن، وأنا ألج القاعة المظلمة التي تنبعث منها رائحة الرطوبة، وأرى الطاولة الأمامية التي كنت أجلس عليها، وقد ظهرت عليها آثار الزمن، وغزت التجاعيد وجهها الناعم… انهمرت دفعة واحدة، انهمار شلال عظيم، ذكريات وقائع وأحداث مرت ها هنا، في ذلك الزمن القديم! وكحاج يزور الأماكن المقدسة، لم أكتف بزيارة تلك القاعة، بل وددت لو زرت أيضا، المنزلين المخصصين للمعلمين، خاصة وأن لي فيهما الكثير من الذكريات الجميلة. فتحت لي السيدة المديرة المنزل الأقرب إلى بيتنا… فانفتح باب ذكريات منسية لصيقة بهذا المكان.
لم تقف أسئلة رشيد عند مرحلة الطفولة، بل ظلت تتناسل وتتفرع… وانتقلت إلى مرحلة الشباب والانخراط في حركة اليسار، ومناقشة قضايا عديدة مرتبطة بالانتماء إلى الفكر الاشتراكي…  وكلما انجلت له جوانب من حياتي، حاول الغوص أكثر في هذا الجانب أو ذاك… ومع تفرع الأسئلة، بدأ المشروع يتجه وجهات أخرى غير الوجهة الأولى، ويركز أحيانا، على جوانب بعينها، لا أريد الخوض فيها… كما أن رشيد كان حريصا على التجديد، واعتماد طرق مختلفة ونوعية في إنجاز فيلمه الوثائقي، كإظهار الكاتب في حالاته النفسية المختلفة، وإبراز انفعالاته، وتأثره الشديد ببعض الأحداث أو الذكريات… كانت اختياراته الجديدة هذه، في صالح الفيلم بالتأكيد، ولكنها لم تكن تلائم طبعي.وكان علي أن أتخذ القرار الصعب بإيقاف المشروع.
لقد جعلني رشيد بحفره في حياتي، أتذكر أمورا كانت غائبة عن ذاكرتي الواعية، وأكتشف مدى أهمية مرحلة الطفولة في تكوين شخصيتي. كما جعلني أسافر في الزمن، وأعيش مجددا، تلك الأحداث والمشاعر المنسية. فعودتي إلى مراتع الطفولة، وأسئلته الدقيقة، والصدق الذي عاهدت نفسي على الالتزام به بمجرد الموافقة المبدئية على المشروع، كل ذلك، جعل المارد الداخلي يحطم قمقمه، والحديقة السرية تفتح أبواب دهاليزها، والنور يتسلل إلى الغرفة المظلمة الرابضة في أعمق أعماق النفس، منذ الولادة وما قبلها.
 لقد تمكن رشيد بجديته، وتفانيه في خدمة مشروعه، ووعيه بأهمية الجذور في تكوين الإنسان، وسعيه لمعرفة التفاصيل الصغيرة، من نفض الغبار عنالذاكرة المنسية، مما جعلني أكتشف أن الكثير من الأفكار والقيم التي أومن بها تعود بذرتها الأولى إلى الطفولة المبكرة، وليس فقط، إلى الكتاب الذي صادقته باكرا، وأدمنت مجالسته، وكنت أعتقد أنه أول من فتح لي أبواب الدنيا، وعرفني على الحياة بخيرها وشرها وكل تناقضاتها… كما اكتشفت أن نوعية قراءاتي فيما بعد، وطبيعة تفاعلاتي مع الأحداث التي عشتها، بما فيها انخراطي في حركة اليسار، وإيماني بالمبادئ الاشتراكية الداعية إلى العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وكراهيتي للظلم والطغيان والاستبداد، وللمظاهر الزائفة، وحبي للجمال بكل أشكاله المادية والمعنوية، وغيرها من القيم النبيلة، كل ذلك كان نتيجة تكوين نفسي قبلي موجود منذ مرحلة الطفولة. وأن هذا التكوين النفسي المبكر هو ما يميز بين الناس في تفاعلاتهم مع نفس الأحداث بطرق مختلفة، وهو الذي يرسم لهم الطريق الذي سيسلكونه في حياتهم المستقبلية. فالإنسان محكوم بطفولته. ومهما تعددت تجاربه، وتنوعت مصادر معرفته، يظل ابنا كبيرا لذلك الطفل الصغيرالكامن في سويداء نفسه.
لقد تأكدت لي صحة النظرية العلمية التي تقول بأن ملامح شخصية الإنسان تتشكل في طفولته المبكرة نتيجة تفاعله مع محيطه، وحتى من تلك النظرية التي ترى أن الملامح الأساسية للشخصية بما فيها بوادر الإبداع،تتشكل في المرحلة الجنينية، خاصة بعدما تأكد علميا وبالصورة، تفاعل الجنين إيجابا أو سلبا، مع المحيط الخارجي بما فيه مظاهر الطبيعة كالشمس، والحرارة، والبرودة، وأصوات الطيور والحيوانات، والرياح والعواصف والبحر، والهدوء والضجيج، وغير ذلك. وتفاعله أيضا، مع أمه في حركاتها وسكناتها، وتقلب حالاتها النفسية. ولهذا حاولت في هذا الكتاب، التطرق إلى بعض ملامح طفولتي، وانعكاس بعض الأحداث التي عشتها خلالها، على مسار حياتي.
 وبما أن هذه السيرة محكومة نوعا ما، بما أوحت به رؤيتي لمراتع الطفولة، وبما أثارته أسئلة رشيد الدقيقة من ذكريات تتعلق بطفولتي، فقد جاءت على شكل شذرات تتناول أحداثا متفرقة في الزمان والمكان، ومن ثم، لا تتبع مسار حياتي وفق التسلسل الزمني. كما أنها لا تنحصر فقط، في ذكر الأحداث كما عشتها في مرحلة الطفولة، وإنما تتخذ من تلك الأحداث موضوعا للتأمل، إذ تقتفي آثارها في المستقبل، وانعكاساتها على تكوين شخصيتي، وبلورة أفكاري، وقناعاتي.
 ولأني مدينة بكتابة هذه السيرة لرشيد بيّي، فلا يسعني في نهاية هذه التوطئة، إلا أن أتقدم له بخالص شكري وامتناني للمجهود الكبير الذي بذله، والذي وإن لم يثمر الفيلم الذي كان يحلم بإنجازه، فقد أثمر هذا العمل الذي اهتدى بخطاه، والذي أتمنى أن يجد فيه القارئ الكريم ليس فقط، صورة عن حياتي الطفولية، وبعض العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيتي، وانعكست على كتابتي، وإنما أيضا، صورة عن المجتمع المغربي في المرحلة الانتقالية بين الاستعمار والاستقلال.

Related posts

Top