عندما أتابع تعليقات وتصريحات وتدوينات إعلاميين وسياسيين فرنسيين الممزوجة بالعنصرية والحقد الدفين اتجاه اللغة العربية. وكيف أنهم يناضلون من أجل تبخيسها والدفع نحو التخلص منها، بوقف التدريس والتدين بها داخل فرنسا. وبالمقابل أجدهم يطالبون بضرورة التركيز في مقرراتهم الدراسية على اللغة الإنجليزية. أتأسف على تسرع وعجلة القيمين على التربية والتعليم ببلادنا، والذين يسابقون الزمن من أجل دعم توطيد اللغة الفرنسية وتبخيس اللغتين العربية والأمازيغية المفروض أنهما الرسميتين في البلاد. أتأسف لكونهم لا يبصرون قصور اللغة الفرنسية والذي يبرزه بجلاء الإقبال الكبير للفرنسيين على اللغة الإنجليزية.
إن أكبر جريمة ترتكب في حق مستقبل المغرب دولة وشعبا. هي جريمة التخلي عن اللغة العربية كلغة للعلم واللجوء إلى اللغة الفرنسية. فبإبعاد اللغة العربية من المجالات العلمية، سيتم التخلي عن الهوية المغربية، ومحو البصمة المغربية وطي التاريخ المغربي. لن أتحدث هنا عن تاريخ العرب والأمازيغ، ولا عن التاريخ الإسلامي وحمولته الفكرية والعلمية والروحية والعقائدية. ولا عن التطور والنماء الغربي المبني أساسا على ركام العقول العربية والأمازيغية والإسلامية. لكنني سأكتفي بالتذكير أن التطور العلمي لا يفرض بالضرورة استعارة لغة تواصل أجنبية، وأن هناك دولا تعاني قصورا لغويا، لكنها لم تلجأ إلى استعارة لغات أخرى. بل واظبت واجتهدت من أجل تطوير لغاتها الأصلية. وبنت بقصورها اللغوي آليات للتنمية، مكنتها من بناء قصور وأمجاد. والنماذج هناك في اليابان والصين والهند وتركيا والكوريتين الشمالية والجنوبية. سأكتفي بتذكيرهم بأن العيب ليس في اللغة العربية وأن العيب فينا نحن. وأن من يريدون (فرنسة التعليم)، لا يهمهم مصلحة المغرب، ويسعون عن جهل إلى إبقاء المغرب تحت رحمة الاستعمار الفكري، بعدما تتمكن من محو لغاته وتاريخه وهويته وثقافته. سأكتفي بالتأكيد لكم أن المغرب لم يعرف يوما عملية تعريب للمواد العلمية التعليمية. وأن ما تم تطبيقه من (تعريب وتعميم ومغربة) بالتعليم المدرسي كانت محاولات لتمييع التعليم، وإتلاف جذوره وبنيانه وأهدافه. كانت زراعة ببذور فاسدة، من أجل الحصول على أجيال مستهلكة فقط. كان الهدف من هذا المخطط هو إقناع المغاربة بأن اللغة العربية غير جديرة بتعليم المغاربة العلوم والتقنيات. وهذا ما وقع فعلا. حيث أصبح العديد من المغاربة من عموم الشعب، ينادون بتدريس أطفالهم باللغة الفرنسية. ليدركوا ما أدركه أبناء وبنات الأثرياء والنافذين من فرص للعمل والشغل والاستثمار. سأكتفي بالكشف لكم عن بعض الحجج والقرائن، التي تؤكد أن (عملية التعريب كانت فاسدة). أولها: عند تعريب المواد العلمية في عهد (صاحب المبادرة)، وزير التعليم حينها عز الدين العراقي. عمد المشرفون على عملية تعريب الكتب والمناهج. إلى إلغاء المناهج الفرنسية التي كانت عصارة علماء وباحثين تربويين ومتخصصين. وعرضوا مقررات لكتب مدرسية، تفتقد لكل المقومات الديداكتيكية، كما تفتقد للترابط المنطقي والتسلسل المعرفي. بل الأفظع من هذا أنهم استغنوا عما يعرف بـ(المفاهيم العامة)، في التعريف ببعض المواضيع والنتائج والخصائص العلمية، واكتفوا بعرض مجموعة من الأمثلة فقط لكل مفهوم علمي. مما أبقى على ضبابية المفاهيم العلمية. وأدى إلى اكتساب التلاميذ معارف علمية مشتتة وغامضة. ورسخ في أذهانهم فراغات وثقوب علمية. تجعل المدرس (الأستاذ) غير قادر على تشخيص وضعية التلميذ ومستوى ذكائه، رغم تعريضه لعدة اختبارات علمية. بل قد تجد تلميذا يفك لغزا أو تمرينا قد يصعب على من هم أعلاه في المستوى الدراسي. لكن بالمقابل تجده يقوم بأخطاء قد تصنفه ضمن خانة البلداء ثانيها: قامت وزارة التعليم بإحداث أو صنع مئات المفردات المغربية، من أجل ترجمة المفردات العلمية الفرنسية واللاتينية. مفردات قد تجد لها معان أخرى في اللغة العربية المتداولة. مفردات يرغم التلميذ على حفظها وفهم معانيها والتواصل بواسطتها في كل المواد العلمية بالتعليم الابتدائي والثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي. لكن التلميذ مطالب بالاستغناء عنها بمجرد ما ينال شهادة البكالوريا شهر يونيو أو يوليوز. وأن يبدأ رحلة البحث عن ترجمتها باللغة الفرنسية، من أجل متابعة التعليم العالي بالكليات والمدارس والمعاهد العلمية المفرنسة. رحلة البحث مدتها حوالي شهرين فقط. حيث ناذرا ما يوفق الطلبة في استيعابها، وهو ما أفرز فشلهم الدراسي بالتعليم العالي. ما يؤسف له، أن تجد أن بلدان عربية، تقوم بتعريب موادها العلمية في التدريس. بدون أدنى تنسيق أو تدارس جماعي. والنتيجة أن هناك رياضيات عربية مغربية، وهناك رياضيات عربية مصرية، وهناك رياضيات عربية سورية. ومثلها في باقي المواد التعليمية العلمية والتقنية. وكان بالإمكان التأسيس لمعهد عربي جهوي دائم للترجمة. ما يؤسف له أن تقرأ كلمة في مادة علمية بمعنى محدد، وأن تجد لتلك الكلمة معنى آخر.. كالحديث عن اللاعب رقم 16 مثلا أمام تلميذ درس في الرياضيات، أن الأرقام هي من 0 إلى 9 فقط، وأن ما فوق الرقم تسعة، تسمى أعداد مكونة من أرقام. كثيرة هي الأسباب التي تؤكد بالملموس أن المغرب لم يعرف تعريبا للتعليم. وهو ما يفرض علينا أن نرفض التخلي عن اللغة العربية من أجل لغة هي بالأساس لم تعد لغة علم ولا أدب، ولا حتى لغة الأنس. لم تعد لها مكانة في العالم المعاصر. بل إنها لغة تسعى إلى الانتعاش والاسترخاء والتوسع على حساب اللغة العربية، التي يدرك الكل أنها أقوى لغة في العالم، لكن للأسف بقدر قوتها، بقدر ضعف وجبن من خلقت لأجلهم.
بقلم: بوشعيب حمراوي