المجتمع بين صناعة الجريمة واحتضان مرتكبيها

مقدمة:
إن كل مجتمع يعيش في إطار منظومة من القواعد والقيم والعادات والتقاليد التي يسلم بها ويعدها إطاراً مرجعياً لعمليات التفاعل التي تحدث بين أفراده، كما أن المجتمع البشري يتألف من عناصر مختلفة، ويوجد اختلافات وتناقضات فيما بينها، والمهم في المجتمع أنَ أفراده يتشاركون هموماً أو اهتمامات مشتركة تعمل على تطوير ثقافة ووعي مشترك يطبع المجتمع وأفراده بصفات مشتركة تشكل شخصية وهوية هذا المجتمع.
وإذا كانت قضايا العرف والعادات فيما سلف تشكل الإطار الذي يحفظ للمجتمع قوته واحترامه وتحقق له الالتزام والسيادة، إلا أنه في العصر الحديث قد احتضنته أبعاد فلسفية واجتماعية وقانونية تختلف عما هو عليه في الماضي، كما أن المجتمع بتركيبته ومعتقداته يمكن أن يساهم في صناعة الجريمة من خلال التفاعلات السلبية التي تقع فيه، التي لا تستحضر في بعدها القيم المجتمعية.
فكيف يمكن للمجتمع من خلال التفاعلات التي تقع فيه أن يساهم في صناعة الجريمة وكذا محاولة احتضان مرتكبيها؟
للإجابة عن هذه الإشكالية يلزم القيام بمحاولة لاستنباط علاقة المجتمع بصناعة الجريمة (المحور الأول)، ثم تبيان الدور المحوري له في احتضان ورعاية مرتكبيها بعد قضائهم للعقوبة (المحور الثاني).

المجتمع وصناعة الجريمة

نشير في البداية إلى نظرية التفكك الاجتماعي للأمريكي سيلين، الذي قارن بين المجتمعات ومراحل حياة الفرد داخل المجتمع الواحد، فيقر بأن المجتمعات البدائية تتميز بالانتظام والانسجام في ظروفها، فالفرد في داخلها يعمل وفق تقاليدها وعاداتها وهي متقاربة ومتشابهة، والفرد يشعر بالأمن داخل مجتمعه لأن أفراد هذا المجتمع يتعاونون معا في كل الظروف.
وفي ظل هذا الشعور بالأمن والطمأنينة اللذين يسودان أفراد هذا المجتمع، حيث لا يجد في نفسه حاجة إلى اتخاذ سلوك معارض لسلوك فرد آخر، ولا يعني أن هذه المجتمعات مجتمعات مثالية لا تعرف الجريمة سبيلا لها، فلا شك في وقوع بعض الجرائم فيها ولكنها جرائم قليلة.
أما المجتمع المتحضر فعلى العكس من ذلك، نجده يتميز بعدم الانسجام بين ظروف أفراده ورغباتهم، ويرجع ذلك إلى اتساع نطاقه وتعدد الجماعات المتباينة فيه مما يؤدي إلى تضارب المصالح، ومن أمثلة هذه الفئات المتصارعة، فئة الفقراء والأغنياء، فئة المتعلمين والجاهلين، وفئة المتدينين والفاسقين.
ويقول العالم والطبيب الفرنسي لاكساني على أن الجريمة كالجرثومة لا أهمية لها، إلا إذا وجدت الحقل المناسب لنموها، ولذلك فإن المجتمعات لا ترزق إلا المجرمين الذين تستحقهم، ويجب الاعتراف على أن هذه الأفكار هي المحور الرئيسي لاعتبار المجتمع عاملا أساسيا في توليد السلوك الإجرامي.
فعندما نستحضر البيئة الهشة للمجتمع نجد أن للمحيط الهش الذي توجد فيه مظاهر الفقر والبطالة والظواهر المعتلة دورا في انتشار الجرائم بمختلف أصنافها، وأن المجتمع له دور في ارتفاع منسوب الجريمة، فطبيعة المجتمع هي التي تحدد مدى تضخم الجرائم من عدمها.
إن السلوك الإجرامي هو والسلوك السوي على طرفي نقيض، ولهذا تبقى الجريمة نتيجة تفاعل العوامل الحية في المجتمع واستمرارا لها، وبالتالي فلابد من أن ينتج عنه الإجرام كحصيلة طبيعية. فالإجرام في نظر دوركهيم ظاهرة اجتماعية مرافقة للحياة ونتيجة لحيوية المجتمع، ومن العبث محاولة القضاء على هذه الظاهرة، لأن القضاء عليها يعني نهاية عملية التفاعلات الاجتماعية، وهذا أمر غير ممكن وغير مرغوب فيه، كما أن مجتمعا بدون جريمة غير ممكن الوجود أصلا.
أما القول بأن المجتمع يمكن أن يعيش بدون جريمة، فإن تصوره، بالنسبة لدوركهيم، يفترض وجود مستوى واحد من الأخلاق والمحددات العضوية والسلوك لدى جميع المواطنين، وهذا أمر غير ممكن وغير متصور قطعا. وضرورة ملازمة الجريمة للمجتمع الإنساني هو الذي جعل دوركهيم يعتقد بأن الجريمة ليست ضرورية فقط وإنما هي طبيعية أيضا.
وفكرة الأنومية لدى دوركهيم التي دافع عنها في أطروحته حول تقسيم العمل الاجتماعي، والتي تقضي بأن المجتمع حينما يضعف ويتهاون في احتضان الفرد إليه فإن هذا الأخير يصبح في حل من كل قيد اجتماعي أو خضوع لطقوسه، ويعتقد أنه أصبح حرا فوق العادة ولا شيء يلزمه نحو مجتمعه فيركب إذ ذاك رأسه ويستبيح ارتكاب الجرائم التي تصبح في نظره وسائل مشروعة لتحقيق ما عجز المجتمع عن توفيره له وهي الحاجيات الطبيعية التي بدونها لا يمكن للحياة أن تستقيم.
وليس من الضروري أن يعود المفرج عنه إلى السجن بسبب نفس الجريمة التي سجن من أجلها في أول مرة، وإنما قد يرتكب جريمة جديدة ما لم يتغير اتجاه المجتمع إزاء السجن والسجناء ونحو فهم السلوك الإجرامي، فإن تأهيل المجرمين وخفض معدلات الجريمة سيظل أمرا صعبا.
إن المجتمع ككل ينبغي ان يتحمل مسؤولية علاج وتأهيل المحكوم عليهم، في ضوء إمكانية تغيير السلوك، وعلى المجتمع أن يوفر البيئة الصحية التي تمنع من حدوث الجريمة، فلابد أن يقدم المجتمع الوسائل التي تؤدي إلى خفض الجريمة وإلى تأهيل المجرمين ولا ينبغي أن يدفعنا هذا الشعور باليأس، ذلك لأن اتجاهات المجتمع يمكن أن تتغير.
يمكن القول في الأخير على أن المجتمع يجب أن يتحمل تبعات صناعته للجريمة، التي صنعت بطريقة غير مباشرة وغير مقصودة، الشيء الذي يحتم عليه أن يكون مسؤولا في احتضان مرتكب الجريمة بعد قضائه العقوبة.

دور المجتمع في احتضان المحكوم عليه بعد قضاء العقوبة

يجب في البداية أن نشير على أن المجتمع ينقسم إلى قسمين، مجتمع إيجابي وآخر سلبي.. الأول يتصف بمجموعة من الصفات الإيجابية المتمثلة في الاحتضان وتقبل الآخر والترحيب به، وهذا المجتمع بطبيعته يساهم في استكمال وتصحيح مسار المؤسسة السجنية، في حين المجتمع السلبي المليء بالرفقة السيئة تكون فيه الأسرة وباقي مكونات المجتمع جاهلة بقضية التأهيل والإدماج، فالمجتمع بهذه الصفات من شأنه أن يعيد المفرج عنه إلى سكة الإجرام.
فكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، وهذا دلالة على أن المجتمع كيان واحد إذا جنح شخص عن النمط الطبيعي يحدث بذلك اضطراب فيه. فدور المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية أساسي من أجل ضبط هذا الاختلال، كما أن دور المجتمع محوري في ذلك باعتبار الجانح ينتمي إليه، فاحتضان المفرج عنه ورعايته له طبيعة اجتماعية وكأن لسان حال المجتمع يقول “منا وإلينا” و نشير هنا إلى المجتمع الإيجابي بطبيعة الحال.
وطالما أن الغاية من التأهيل تهيئة المحكوم عليه لاندماجه مجددا في المجتمع، فلا بد من تهيئة هذا المجتمع لتقبله دون أن يظهر له العداء والنفور والرفض وإلا تعطلت كل مفاعيل الجهود التي بذلت في المؤسسة السجنية لتأهيله اجتماعيا.
لذلك توجب على المجتمع فهم العملية التأهيلية وأبعادها وآثارها ودوره في جعلها تحقق أهدافها، مما يستتبع التغلب على أفكار سائدة بين الناس بأن العقاب يجب أن يكون صارما ومؤلما وأن لا يكافأ الجاني باحتضانه ورعايته من قبل المجتمع، فالعقوبة في ذهن العامة قصاص يجعل الجاني يشعر بفداحة الجرم الذي ارتكبه، وعليه أن يتألم في حياته السجنية وفي جسده تماما كما أحدث الألم في حياة وجسد الآخرين، وإذا سادت مثل هذه المعتقدات بين المواطنين، وهي سائدة في معظم المجتمعات والدول، تعذر إعادة دمج المفرج عنه في المجتمع.
مادام أن الهدف من العقوبة أو المعاملة هو الوقاية من العودة إلى الجريمة مرة أخرى، فإنه ينبغي أن يكون للمحكوم عليه الحق في الاندماج مرة أخرى في المجتمع.
وقد كان من أثر الحكم الصادر بالإدانة إبعاد المحكوم عليه من المجتمع، ومن ثم يجب أن يسترد مكانه فيه متى أثبت جدارته بالعودة إليه، ويعتبر إعادة تأهيل المحكوم عليه اجتماعيا أفضل حماية للمجتمع.
فباختصار ينبغي أن يعمل المجتمع من جانبه على تجنب ظهور الجاني مرة أخرى أو اتخاذ موقف عدائي منه، ويقتضي ذلك توفير الإمكانيات والفرص التي تساعد على إعادة اندماجه في الحياة الاجتماعية، وفي سبيل الاستمرار في تحقيق هذا الهدف يجب على المجتمع موالاة الإشراف على المحكوم عليه بعد الإفراج عنه ومساعدته على سلوك سبيل الطريق المشروع.
فإلى أي حد يمكن أن تحقق آليات الإدماج المعتمدة وكذا مجهودات مراكز الرعاية اللاحقة الاندماج داخل المجتمع في ظل احتمالية تعرض المحكوم عليه للوصم الاجتماعي؟
إن أهم ما يواجه السجين بعد انتهاء مدة التنفيذ العقابي، وخروجه من السجن هي كيفية مواجهته لمجمعه ولأسرته؟ وكيف يتفاعل مع إيقاعات الحياة اليومية مع أسرته والشارع والسوق وأماكن العمل؟ لذلك فعلى الرغم من تطور السياسة العقابية عامة فإن النبذ الاجتماعي من طرف المجتمع والأسرة يعد من أبرز العوائق التي تحول دون إعادة إدماجه من جديد، وهنا نستحضر تلك المقولة المعبرة لأحد السجناء المفرج عنهم معبرا عن النظرة النمطية والسلبية للمجتمع قائلا: “في الماضي كنت أسكن السجن، أما الآن فقد صار السجن يسكنني”.
فالوصم الاجتماعي هي صورة تعكس صفة اجتماعية يتم بموجبها نزع الثقة والاعتبار الاجتماعي من فرد معين أو جماعة معينة، وبتعبير أدق يشير الوصم إلى ردود فعل اجتماعية سلبية تجاه السلوك الإجرامي أو الانحرافي، كما أن عملية الوصم لا تنحصر في إطار العلاقات الاجتماعية بالمفهوم الواسع التي يمكن للسجين أن يرتبط بها، بل هي عملية قد يواجهها حتى من طرف الأسرة والأصدقاء المقربين.
إن النظرة السلبية للمفرج عنه من طرف المجتمع أو كما يسميها البعض بالتحقير الاجتماعي، تولد العديد من المشاكل والصعوبات لدى الأشخاص المفرج عنهم، وقد تذهب الجهود المبذولة لإصلاح السجين وتأهيله والرعاية داخل المؤسسات العقابية بسبب رفض المجتمع لهم وعدم تقبلهم كأفراد في المجتمع، ويمكن القول إنه يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تساهم في إدماج المفرج عنه من خلال نشر الوعي لأفراد المجتمع بضرورة تقبل هذه الفئة كونها جزء من النسق العام، وكذلك محاولة تشجيعهم على الانخراط والانضمام إلى جمعيات ومنظمات تهتم بتنشيط وتثقيف الشباب وشؤون المجتمع، مما قد يسهل على الاندماج الاجتماعي للمفرج عنهم.
أكدت الكثير من الأبحاث أن أسرة السجين ومجتمعه يشكلان الحجر الأساس في استكمال بنيان الرعاية اللاحقة، وذلك من خلال الاهتمام بالمحكوم عليه أثناء فترة قضاء العقوبة أو فترة ما بعد الإفراج، لأن السجين في آخر المطاف سيعود إلى أسرته ومجتمعه لبدء حياته من جديد، والتي غالبا ما تشكل همه الوحيد طيلة مدة العقوبة وحتى بعد الإفراج، فالاعتناء بالمفرج عنهم من شأنه أن يسهل مأمورية اندماجه في المجتمع ومن الملاحظ أن هذه الرعاية اللاحقة تنطلق أساسا من حث المحكوم عليه على التوبة وعدم العودة إلى الأفعال الإجرامية.
إن احتضان المحكوم عليه بعد قضاء العقوبة، يلزمه وعي مجتمعي وهذا الأخير لن يتأتى إلا بآليات رشيدة لوسائل الإعلام تساهم هي الأخرى بطريقة ضمنية في الرعاية والاهتمام بقضية الإدماج. فينبغي اللجوء لوسائل الإعلام بجميع أشكالها لتصحيح الصورة المغلوطة عن السجن والسجناء، وذلك من خلال دعوة الرأي العام والمجتمع المدني على حد سواء لتبني موقف بناء يمكن من دعم ومساعدة السجناء السابقين في التغلب على الوصم الاجتماعي، والآثار السلبية المرتبطة بالسجون وكذا العراقيل الكثيرة التي قد يواجهونها في محاولتهم الاندماج في المجتمع.
خلاصة الموضوع وخاتمته ليست تلخيصا له وإنما هي مغزاه ونتيجته، والمغزى من الموضوع هو تبيان مسؤولية المجتمع في صناعة الجريمة وكذا مساهمته في إنجاح عملية التأهيل والإدماج، ولا يمكن لهذه العملية أن تؤتي ثمارها إذا لم تكن هناك رعاية واحتضان للمفرج عنه من طرف المجتمع، ومهما بذلت المؤسسات السجنية من جهد في سبيل إعادة إدماج المحكوم عليه لأحضان المجتمع، فإنه يجب على هذا الأخير تقبل المفرج عنه ومساعدته في إعادة انصهاره في مجتمعه وتمكينه من سبل العيش الكريم، بعيدا عن رياح الانحراف والإجرام.

بقلم: عبد الله المحساني
 باحث في العلوم الجنائية والأمنية

Related posts

Top