تفجر النقاش بالمغرب مرة أخرى حول إلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي، والذي يعاقب كل راشدين بالغين مارسا الجنس بشكل رضائي واختياري، صحيح أن هذا الموضوع المرتبط بالحريات الفردية لا ينبغي أن يكون مناسباتيا ولا مشروطا بحادثة كقضية فتاة تطوان، لكنها فرص قائمة لطرح هذا النقاش وتحريكه، في إطار السعي نحو تغيير القوانين التي يعتبرها مناصرو الحريات الفردية متخلفة ومنفصلة عن الواقع الجديد الذي يعرفه المغرب، بل متناقضة مع القيم الكبرى التي يرفعها المغرب اليوم شعارا لمسيرته وصورته أمام العالم، والتي من أهمها حقوق الإنسان الفردية والجماعية.
يتشبث المعارضون لتوسيع هوامش الحرية الفردية دوما بالمرجعية الدينية ونصوصها لإخراس كل صوت مطالب بحماية حرية الفرد وحقه في الاختيار سواء تعلق الأمر بالاعتقادات والأفكار أو التصرفات والسلوكيات، فهل حقا هذه المرجعية في أصولها وأدبياتها تقف حاجزا أمام هذا الحق؟ أم أنه – وهذا ما أرجحه – تأويل فقهي يراد توظيفه للتحكم بالمجتمع عبر تسويقه على أنه الرأي الوحيد للدين في المسألة؟
لنناقش بموضوعية وهدوء هذه القضية، ولنأخذ على سبيل المثال واحدة من هذه الحريات التي أثارت صخبا كبيرا وجدلا واسعا، وهي حرية العلاقات الجنسية قبل ” الزواج”، وأقصد هنا الزواج بمدلوله العرفي وليس الديني، إذ بينهما خلاف يصل إلى جوهر تعريف هذه المؤسسة وشروط انعقادها، ولنثر عددا من الأسئلة التي تستحق الاهتمام حتى نفهم كيف كان تصور الدين وممثليه لهذا الموضوع، وهل يتطابق ذلك فعلا مع ما يروجه المحافظون اليوم؟
يرى هؤلاء أن رفع يد القانون عن مثل هذه العلاقات سوف يهدم بناء الأسرة، وأن الأسرة هي المقصود الأساس بالجنس، وبالتالي لا بد من تقنينه بما يجعله محققا لهذا الهدف، لكن السؤال المطروح هل كان فعلا هذا المبتغى والمقصد من الجنس زمن الإسلام الأول وهي الحقبة المرجعية لدى هؤلاء؟ أليس بنظرة بسيطة على تاريخ الإسلام وأدبياته يمكننا بسهولة مساءلة هذا الطرح، ألم يكن الجنس وسيلة للتنفيس والتفريغ، “فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج”، “فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه”، وحيث للرجل أن يتزوج أربعا من النساء وأن يمتلك ما يشاء من ملك اليمين بلا حسيب ولا رقيب، خدمة لفرجه وشهوته.
نظرة أخرى على تاريخ المعارك والغزوات وما عرف بـ “الفتوحات الإسلامية” تجعلنا نقف بيسر على أحد أهم مقاصد الجنس في الإسلام التاريخي، وهو إذلال العدو وسبي نسائه والاستمتاع بهن، كما في واقعة سبي أوطاس وغيرها من عشرات المشاهد.
ألم يكن الجنس في تلك الفترة وسيلة لتقوية الموارد البشرية، وتحقيق التفوق الديموغرافي الذي “يقوي شوكة المسلمين”، ويسهل لهم التوسع والغلبة على باقي المخالفين، ولذلك جاءت التوجيهات النبوية بالتكاثر والتوالد، هل يستطيع هؤلاء إنكار هذا التاريخ؟
بل حتى مقصد بناء الأسرة كان مقتصرا على الحرة، والتي يخضع الزواج بها لتحالفات قبلية وعرقية ومذهبية ودينية، وآخر ما قصد به هو الجنس.
يرى هؤلاء المعارضون أنه لا سبيل لإقامة الجنس في مجتمع مسلم إلا عن طريق الزواج، وهو ما لا نختلف حوله دينيا لا قانونيا، لكن هل لنا أن نتساءل حول مفهوم الزواج في أدبيات الفقه الإسلامي، خاصة حين نعلم أن جميع الشروط قد اختلف حولها بين الفقهاء من شهود وإعلان وصداق وولاية، وأنهم لم يتفقوا إلا على شرط واحد، وهو الإيجاب والقبول، وحين نجد أن الفقهاء قد أباحوا أنواعا مختلفة من الزواج، العرفي والمسيار والسياحي والزواج بنية الطلاق، وكلها تفتقد بعض شروط الزواج المعروفة، حتى نكاح المتعة الذي يفتقد كل الشروط وليس فيه إلا الإيجاب والقبول، بل حرم أحد أهم الشروط حين جعل العلاقة ذات أمد محدد، ومع ذلك يتفق الفقهاء قاطبة على أنه كان مباحا في فترات مختلفة من العصر النبوي، وإن اختلفوا إن كانت الإباحة محكمة أم منسوخة، فما هو تعريف الزواج إذن؟ وما مفهوم ” الزنا” في ضوء كل ذلك؟، أسئلة مشروعة تحتاج لبحث موضوعي بعيدا عن كل الاستقطاب الإيديولوجي والتحيز المذهبي.
ثم يحق لي هنا أن أتساءل، هل هناك في الدين عقوبة قانونية لـ “الزنا” بغض النظر عن مفهومه ومراد النص به؟ وإذا كانت الإجابة بآية الجلد، فلم لا يدافع هؤلاء عن استعادة هذه العقوبة بكل تفاصيلها من جلد وإشهاد أمام طائفة من المؤمنين؟، فإن قيل لتلك العقوبة سياقات لا يسمح بها واقع اليوم، فهلا كانت تلك السياقات مؤثرة حتى في أصل العقوبة؟ وهل تحول هؤلاء من دفاعهم عن “الشريعة” إلى دفاعهم عن القوانين الوضعية؟ وألا يرى هؤلاء المعارضون أن كل هذا التشديد في طرق إثبات الممارسة الجنسية من شهود أربعة عاينوا الحدث بكل تفاصيله الدقيقة، ليس الغرض منه سوى حماية الحياة الخاصة للفرد وشؤونه الحميمية، وهو ما لا يحترمه فصل 490.
ثم كل ما سبق من حديث هو عن علاقة الإنسان بربه، ومرتبط بمدى تدينه وقناعاته واختياراته التي لا حق لأحد في إكراهه عليها، وليس من حق القانون ولا المجتمع أن يحشر أنفه فيها، فالعلاقات الثنائية تربط بين إنسان وإنسان، وليس بين مجتمع وإنسان، وموقفي أنه لا حق للمجتمع ولا لقانونه اقتحام الخلوات والتدخل في علاقات البشر، ما لم يكن ذلك بالفضاءات العامة التي تحكمها القيم السائدة وتعاقدات أفراد المجتمع، ولا خوف أبدا من كل أشكال الحرية.
أظن أنه قد حان الوقت فعلا لتغيير هذه القوانين، والمغرب بتاريخه العريق والمتنوع، مؤهل قبل غيره لقطع خطوات رائدة في هذا الباب، دون خوف من التأويلات الدينية التقليدية، أو وجل من الاصطدام مع مبادئ ومسلمات الهوية.
> بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي