في قضية “التطبيع الثقافي”؟

ضرورة قطع الحبل السري بين السياسي والثقافي

لربما سينشغل المثقفون العرب مستقبلا بقضية “التطبيع الثقافي” مع إسرائيل. وسيُرى إليه (وهذا هو الواقع) كأُلهية توجدها بعض الأنظمة العربية وبدون مضاضة، لإخفاء السؤال الأساسي وهو مشروعية هذه المفاوضات التي تجريها هذه الأنظمة مع إسرائيل، خاصة وأنها (=المفاوضات) أتت وتأتي في أسوء مرحلة يشهدها العرب في تاريخهم الحديث.
في كنه التطبيع الثقافي وآلياته:

تفترض في قضية “التطبيع” أن كل أنماط التطبيع ومستوياته قد تحققت، فلم يبق إلا المجال الثقافي، وهذا نوع من التزييف للواقع يهدف لا محالة إلى إخفائه. وحين ينشغل المثقفون بمقاومة التطبيع والتصدي له.. وبالشعارات المرفوعة الآن، فإنهم يكونون، بدون شك، قد سلّموا ضمنا بأنهم لا يعترضون على التطبيع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وسواء كان المروج لهذه “الأُلهية” الأنظمة السياسية العربية أم إسرائيل ذاتها فالنتيجة واحدة: الانشغال بالجزئي عن الكلي، ومناقشته بمعزل عنه. ويبدأ هذا الفصل بين الجزئي والكلي بالقول: إن السياسة هي فن التعامل مع الواقع، وبذلك يخلق المثقفون تبريرا للسلوك التفاوضي السياسي، الذي لن يلبث أن يطال السلوك الثقافي.
غير أن المشكل الذي يبدو غائبا هو أن أي نمط من أنماط التطبيع إنما يتم مع نظام عنصري تسلطي قمعي وفاسد حتى ولو اتخذ شكل دولة “منتصرة”. وليس من الطبيعي ولا من المنطقي أن يقبل المثقفون أي شكل من أشكال التعاون مع مثل هذا النظام، وهم (وهذه مفارقة) في ذات الوقت يدينون أمثاله داخل أقطارهم حتى ولو اتخذ شكل “حكومات”. إن مسألة الأمر الواقع تبدأ بتنازل واحد، ثم لا تلبث أن تتوالى، والوقوف الآن عند حدود “التطبيع الثقافي” والتغافل عن غيره معناه أنه قادم لا محالة وأن المسألة مسألة وقت ليس إلا؟؟.
الثقافة العربية في ظل
الانهيار الشامل:

بناء على ما سلف، ومع الانهيار المتسارع الذي تشهده المنطقة العربية، تبدو الثقافة العربية وكما هو حال الشعوب، عاجزة تماما عن التّصدي الفعّال لما يحدث… لا أدل على ذلك (ومنذ حرب الخليج الثانية) من مفاوضات السلام الجارية التي ستُقرر لا محالة في مستقبل المنطقة العربية للعقود القادمة. وإذن، فأي دور للثقافة وأي دور للفكر في مواجهة هذه التحديات؟ بل أي دور للشعوب كلها؟
نعتقد حدّ الجزم (وهذا اعتقادنا منذ مدة ليست قصيرة) أنه لم يعد هناك أي دور للمثقفين والمفكرين في الزمن الراهن تجاه أدنى قرار سياسي يتخذه النظام العربي؟؟، وهو ما يدعو قسرا إلى إعادة النظر في أولويات المهام المطروحة أمام الثقافة؟؟.
لربما آن الأوان للمثقف العربي أن يقطع الحبل “السري” الذي يربطه دائما بالسياسي تأييدا أو رفضا، فيظل يدور في إطار “رد الفعل” دون “الفعل”. إن مهام الثقافة الوطنية الديمقراطية، ثقافة الحرية والاستنارة والعقلانية، لم تنجز بعد مرور أكثر من قرنين على بداية عصر النهضة. لقد كان كل إنجاز تعقبه كبوة لا تقضي عليه فحسب، بل تدفع الوضع إلى الوراء خطوتين أو أكثر. والمطلوب الآن تدارس الكبوات جيدا وتفهم أسبابها، وفي اعتقادي أن أهم أسباب انحسار إنجازات الثقافة الوطنية أن التّنوير الذي تم هنا أو هناك ظل يتحرك في إطار “النُّخَب” دون أن يطال عمق المجتمع. الدليل على ذلك أن مظاهر التحديث التي صاحبت أفكار التنوير لم تكد تتجاوز المدن الكبرى، بل بعض أحيائها، دون القرى والجموع..
ضدا على التراجعات والانكسارات:

وعليه والحالة هذه، فمهمة المهمات التي ينبغي أن يحملها المثقفون على عاتقهم هي كيف يصل التّنوير إلى مستحقيه، وكيف السبيل إلى خلق جدار مقاومة صلب من “الناس” ضد الانكسارات والتراجعات؟ إذ لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يحس “الناس” صوت المثقف في قضاياهم، لأن أصوات المثقفين تعلو اعتراضا واحتجاجا حين يقصف قلم أو يعتقل مفكر أو يقتل كاتب، لكنهم لا يرون المواطن المهان دائما في كل لحظة من لحظات اليوم.
إن المثقفين يعيشون بوعيهم في العواصم ويكتبون عن الفقراء وحين يتحول دفاع المثقف عن “حقوق الإنسان” إلى دفاع عن حق المواطن في أن يتنفس هواء نظيفا ويشرب ماء نظيفا ويأكل طعاما غير فاسد، هي تندرج تحت مفهوم حقوق الحيوان أساسا، فربما يحس المواطن أن المثقفين مواطنون مثله وليسوا جزءا من جهاز السلطة القمعي. هنا يستعيد المثقف مواطنته وقد تستعيد الثقافة وطنيتها.

< بقلم: عبد الله راكز

Related posts

Top