ثمة منطق أعوج يقف وراء المعاندة والصلف اللذين يتصرف بهما أركان “العهد” في لبنان، من حزب الله، إلى بقية توابعه، وفي مقدمتهم الرئيس ميشال عون.
فهم يريدون “تدويل التمويل”، ولكنهم لا يريدون “تدويل الأزمة”. وذلك باعتبار أن دول العالم يجب أن تقدم معوناتها ومساعداتها وتمويلاتها حبا في سواد عين حسن نصرالله.
وهم يريدون البقاء في السلطة رغم أنهم يعجزون عن حل مشكلاتها.
وهَبّ أن الفساد قدر من الأقدار التي لا مفر منها، وأن الإصلاحات غير مرغوب بها، وأن حزب الله يخوض معاركه الدونكيشوتية داخل وخارج لبنان، انطلاقا من واجبه كحزب “مقاومة وممانعة”، فإن ذلك لا يغني عن الحاجة إلى حلول اقتصادية على الأقل. ولكن حكومته تعجز عن تقديمها. وهي جربت التسول، إلا أنها لم تحصل على شيء يستحق اعتباره حلا، أو مدخلا لحل.
وعدا الحكومة فهناك برلمان ورئيس خردة، ولكن هناك شعب أيضا. وكان يفترض بالمنطق، أن حكومة لا تقدم شيئا ولا حتى لنفسها أن تستقيل، وبرلمانا لا يخدم ممثليه أن يعلن عن حل نفسه، ورئيسا يتلقى التوجيهات من تحت عمامة زعيم تنظيم إرهابي، أن ينأى بنفسه عن الإهانة، إلا أحدا لم يفعل ما يمليه المنطق.
وحتى ولو كان انفجار مرفأ بيروت مأساةً اقتصاديةً وإنسانيةً إضافية فوق مآسي لبنان السابقة، فقد نظر إليه نصرالله على أنه فرصة، وذلك على مطمع من أجل تحويل التعاطف الدولي مع شعب لبنان إلى غنيمة يفوز بها النظام.
وليس واضحا من “الفرصة” أكثر من كونها تسولا بالمآسي التي يعيشها اللبنانيون قبل الانفجار وبعده. والتسول دليل على انحطاط الفرصة، ودليل على انحطاط العقلية التي تقف خلفه أيضا. وهو علامة واضحة على مدى سفاهة المنطق حيال بلد لا ينظر إلى نفسه إلا برفعة وشموخ، ولا يقبل الذل الذي يريد نصرالله أن يفرضه عليه كبلد يعيش على “معونات طوارئ”. ولكن ذلك، على أي حال، هو كل ما بقي لحسن نصرالله من خيارات.
ولا يريد نظام الرئيس عون شريكا في إدارة الأزمة، لأنه لا يريد حلولا يقترحها أي شريك. فإذا كانت الإصلاحات هي حجر الزاوية لأي شراكة، وهي الشرط المسبق لأي دعم دولي، فإنها آخر ما يمكن أن يقبل به حزب الله والرئيس الخردة التابع له.
وفي الواقع، فإن كل الدافع من وراء مجيء حكومة حسان دياب هو معاندة الإصلاحات. وحتى عندما بدأت هذه الحكومة بالتصدع باستقالة وزير خارجيتها ناصيف حتّي، فإن التعيين السريع لشربل وهبة كبديل عنه، كان نوعا من التأكيد على تلك المعاندة. وبعد فشل مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، وتداعي الرهانات على “الشرق”، لم يبق إلا الشحاتة، حتى وقع انفجار مرفأ بيروت ليقول إن السيل بلغ الزبى بدولة الفشل.
ولكن، فقط عندما طافت مجاري الفساد بعجزها، أصبحت الدعوة إلى “حكومة وحدة وطنية” أمرا ممكنا. ولم يسأل أحد من أركان العهد نفسه “وحدة وطنية على ماذا؟”، وإذا كانت الإصلاحات مطلوبة فيها، فلماذا تم رفضها من الأساس؟ ولئن كانت الأزمة خانقة، وتزداد سوءا كل يوم، فلماذا الصلف حيالها؟ ولماذا اختار حزب الله أن ينفرد بالشعب اللبناني لكي يسدد له زيادة في المآسي؟ وهل كان من الصحيح، وضع لبنان على حافة الهاوية، استنادا على رهانات فاشلة؟ أم أن المطلوب من “الوحدة الوطنية” أن تكون غطاء فحسب للفشل، ونافذة للهرب من المسؤولية عما آلت إليه البلاد؟
وعندما اتضح أن أحدا لا يريد أن يشارك حزب الله في ما صنع، فقد وجدت حكومته حلا آخر لا يقل فشلا، بالدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة. والغاية التي لا تخفى على أحد هي أن تعيد تلك الانتخابات إنتاج الهراء الطائفي نفسه، بينما يريد اللبنانيون نظاما سياسيا جديدا.
والسؤال الذي لا بد للمنطق أن يُمليه هو: هل يمكن لأي انتخابات أن تحل مشكلة الخبز؟ أو عجز الميزانية؟ أو متطلبات إعادة الإعمار؟ أو البطالة المتفاقمة؟ أو غيرها من المشكلات العاجلة؟
نوع من العمى هو الذي يجعل حكومة حزب الله عاجزة عن أن ترى أن الحل المطلوب عاجلا هو الإصلاح الشامل، وأن لبنان لا يقوى على انتظار إجراء انتخابات، كائنة ما كانت. وما لم يتوفر لتلك الانتخابات أساس جديد، فلا معنى من إجرائها أصلا.
فماذا بقي في جعبة الحاوي من حيل، لكي يدرك أن النظام الطائفي بلغ نهاية المطاف؟
لسان حال الرئيس عون، بعد الانفجار، كان هو نفسه لسان حال زعيم تنظيم حزب الله قبل الانفجار، وكلاهما يتخذ من اللبنانيين رهينة، ويقول: أعطونا مالا وإلا فإن الرهينة سوف تموت.
والرهينة أُشعبت قهرا، وتقطعت أوصالها وشلت قدرتها على النهوض بدمار مرفأ كان بمثابة شريان الحياة الأهم.
ولكن النظام هو الذي مات. ولم يعد منطقه الأعوج قادرا على ابتداع أي مخارج.
سلطة الرئيس عون اهترأت إلى درجة لا تسمح بأن تظهر كسلطة قادرة على التفاوض باسم لبنان، لا مع مؤسسات الإقراض ولا حتى مع المؤسسات الدولية التي يتعين أن تتولى تقديم وتوزيع المساعدات، “من دون أن تمر بأيدي الفاسدين”، بحسب تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وحكومة حسان دياب لن يعرفها تاريخ لبنان، إلا بوصفها حكومة عجز وفشل. فهي لم تقدم شيئا على الإطلاق. وذهبت كل رهاناتها سدى، وانتهت إلى حائط مسدود. حتى أنها لا تساوي قيمة الكراسي التي تجلس عليها.
والبرلمان لم يعد يستحق اسمه. فهو لا أكثر من “خيال مآته” ينصبه حزب الله كفزاعة وباب خلفي للمناورات القذرة. وأصبحت الاستقالات منه دليلا على الحاجة إلى التبرؤ من انعدام قيمته. والناس عادوا إلى الشوارع يطالبون بالتغيير.
حكومة يقودها تنظيم إرهابي، لن تقدم للبنان حلا. ونظام يهيمن عليه الطائفيون الفاسدون، لن يجرأ أحد على مد يد العون له. ولئن بدا الرئيس عون وسيده ورئيس حكومته يقفون وحيدين على تلة الخراب، لا هم قادرين على المغادرة ولا هم قادرين على البقاء، فلأنهم باتوا يرون الهاوية التي وصلوا إليها. ولبنان ليس صالحا، لا بطبيعته ولا بتكوينه ولا بتاريخه، أن يكون طرفا في المشروع الصفوي، ولا أن يكون بيدقا في رقعة شطرنج يتحكم بها الولي الفقيه. والسفاهة التي يتحدث بها حسن نصرالله لن تفعل إلا أن تزيد المأساة الاقتصادية سوءا، ولن تُنقذ أحدا ممن تضرروا بالانفجار، ولن تُعيد 300 ألف مشرد إلى منازلهم.
ولئن بلغ النظام نهايته بعجزه، وسقط من أعين اللبنانيين، فإن إعادة تدوير نفاياته ليست هي الحل.
والعالم الذي بدا وكأنه قادر على التخلي عن لبنان، لم يعد، بعد الانفجار، قادرا على الظهور بهذا المظهر. لبنان أكثر أهمية من أن يقع رهينة بيد تنظيم إرهابي. ويد العون سوف تمتد من أجل تحقيق التغيير. وطالما أن تدويل التمويل هو المطلوب، فإن تدويل الأزمة هو المنطق.
لبنان يمكن أن يكون واحدا من أول النماذج لدولة فاشلة يعود المجتمع الدولي لينتدب نفسه لها، مثله مثل العراق وسوريا لاحقا. وبالشروط التي يضعها لتقديم الدعم، فإنه يفعل ذلك أصلا.
وإذ لا يملك أصحاب المنطق الأعوج، إلا المعاندة، فإنهم ما عادوا يملكون بديلا للعيش إلا الشحاتة، إنما ليعاندوا أنفسهم على مواصلة الفشل.
> بقلم:علي الصراف