«ليلة بيضاء» مسرحية من ذاك الجيل الهاوي

شهدت قاعة الندوات بدار الثقافة بتطوان يوم الأثنين 5 دجنبر 2016 حفل توقيع مسرحية الكاتب والمخرج بوسرحان الزيتوني « ليلة بيضاء» وقد قدمها لجمهور المهرجان الوطني للمسرح في دورته الثامنة عشرة الدكتور لعزيز محمد الذي عرف بصاحب المسرحية والجيل الذي ينتمي اليه ، كما عرف بطبيعة الكتابة الهاوية خلال عقد الثمانينات وهواجس المبدعين المسرحيين آنذاك وما تحب لبه مسرحياتهم من هواجس ورؤى، وفيما يلي ملخص لما ورد في تلك الورقة:

نحتفي اليوم بهذا الإصدار الذي تكفل به المركز الدولي  لدراسات الفرجة كبادرة نتمنى أن تتلوها مبادرات من نفس العيار خدمة للمسرح المغربي وللكتابة الدرامية الهاوية التي نوشك على فقد تراث كبير أنجزه هؤلاء الهواة خلال فترة السبعينات والثمانينات في سبيل أرشفة مسرحنا وحفظ تراثه الضخم والطلائعي الذي لا يزال معظمه في رفوف أصحابه .ومسرحية ليلة بيضاء، عرضت لأول مرة بمدينة مكناس مدينة المسرح آنذاك سنة 1987 قبل أن تعود إلى في نفس السنة إلى الدار البيضاء وبالضبط بمسرح مولاي رشيد كان ذلك قبل حوالي ثلاثين سنة من اليوم، أي أن نشرها جاء بعد جيل بكامله.
فهل لا تزال تلك الليلة بيضاء فعلا ؟وإلى يومنا هذا؟ ألم تصب بالصدأ و الشحوب والبهوت؟ ألا يزال النص يملك راهنيته؟ تم لماذا يصدره صاحبة بعد كل هذه السنين؟ ركام من الأسئلةتطرح بصدد النص لا يسع المقام في الاجابة عنها جميعها ولكن مع ذلك نستطيع بواسطتها أن ندفع قارئها المفترض إلى ايجاد جملة من المداخل لقراءتها ، ووضع افتراضات بإزائها خصوصا وأن مفرقاته عديدة تمتد تلك المفارقات منذ زمن تشكله إلى الآن ، ومن تلك المفارقات أنه نص بعدي والنصوص المسرحية قبلية بالضرورة تسبق العروض وعليها يتكئ المخرجون ،تكمن المفارقة الثانية في ما يحمله العنوان من تضاد لوني ودلالي ،إننا أمام نص بالأبيض والسود :الليلة بما هي ظلام يقابلها بياض النهار. والليلة واحدة الليل،والليل ما يعقب النهار بعد الظلام بعد مغرب الشمس وقبل طلوعها غير أن ليلة بوسرحان ليلة ليلى، أو هي ليلاء بمعنى شديدة وصعبة، تحول لونها من السواد إلى البياض، تماشيا مع مقولة  تحول الشيء إلى ضده إذا زاد عن حده،  هي ليلة ليلى لأنها أشد حلكة وظلمة أي طويلة وقاسية، ثم أليست ليلة بيضاء ترجمة حرفية ل  blanche nuit .والتي تعني السهر واليقظة بدل النوم والاستراحة ؟ وتكمن المفارقة الثالثة في نوع  تعاطي المؤلف بوسرحان الزيتوني مع هذا النص، فإذا كان كل المبدعين يعتبرون إبداع كتاب لحظة ولادة باذخة ينتشي بها صاحبها ويفرح بمولوده الجديد، نجد المؤلف على العكس من ذلك تماما يعلن بنوع من الحسرة في مقدمة الكتاب أن (لهذا النص طعم المرارة ..هذا النص طعم المرارة) ص5   فهل يذكره الأمر بما كان عليه منذ 30 سنة خلت أيام الشباب والعنفوان، أم للمسرحية آثار وشمت الذات والذاكرة ، وبذلك يصبح النص  تأس على تاريخ وعمر ضاع؟ أم أن المرارة يرشح بها الزمن المغربي نفسه سنوات الثمانينات من القرن الماضي؟ الثمانينات بأوضاعها السياسية والاقتصادية وتدخلات الآخر فينا وانسداد آفاق الوطن أمام شباب تلك المرحلة التي كانها بوسرحان ومجايلوه آنذاك؟
يجيب بوسرحان في المقدمة ويقول : (كان علامة فارقة في حياتي) وحين يبحث قارئ النص عن أسباب وظروف هذه العلامة الفارقة نجد أنه انبنى في لحظات « الحوار الساخن والمعارك غير المنجزة» و» أزمنة الخصام المر» و»الزمن العنيد» حيث كان « في خضم صراع نرسمه في الأوراق» كما يقول .لقد كان الحال آنذاك بهذه التوصيفات خصوصا وأن» الثورة على شفا حفرة من امتداد العين، كنا منقسمين بين حمر وسود نتسابق على إعلان العصيان» هذه الشذرات والجمل من مكتوبه في الصفحتين الأولتين الشارحتين لظروف تخلق النص (ليلة بيضاء) بما يمكن وصفها بالظروف الموضوعية للكتابة، وأما الظرف التاريخي الشخصي الذي كتب فيه بوسرحان ليلته البيضاء فقد تميز بيناعة الشباب وفورة الإنتاج الشعري ، لقد كان بوسرحان شاعرا زمن المراهقة وزمن الشباب أيضا، والشعر عند ذلك الجيل وعاء الآلام ، ومستودع الاحباطات، ومكمن الضيق غير أنه في الآن نفسه وسيلة لتجاوز كل ذلك وأفق للخروج من ضنك الوقت، يقول المؤلف في هذا الصدد « الافتتان بالشعر كان سمة الوقت لأن الشعر كان اعتقاد بوجود، أو هو وجود اعتقاد»  وبالتالي كان الشعر – من جهة أخرى – مدخلا للمسرح، وبوابة طبيعية للدراما في زمن جيلي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.    
لا أزال أذكر الأجواء التي تم فيها استقبال عروض ليلة بيضاء بمسارح الدار البيضاء ، لقد كانت أجواء ثقافية مطبوعة بالحماس اتجاه الإبداعات المسرحية «الملتزمة» طبعا،ذات المضامين الفكرية المتنورة والتي تتسم بالجرأة في الطرح الفكري في ظل احتقان ايديولوجي وسياسي، ولعل هذه العوامل هي التي وقفت وراء شهرة الرجل بإضافاته الركحية والمضمونية للأعمال التي تشكل ليلية بيضاء إحدى واجهاتها.وحين نمعن النظر في هذه الليلة نجدها منقسمة إلى ثلاثة  أشواط وفاصلتين وردت عناوينها على الشكل التالي:
الشوط الأول: أراك تنتصب أمامي كمهزلة
الفاصلة الأولى: ليس في الدنيا اسهل من شراء الكلاب
الشوط الثاني: الذاكرة لا تنسج إلا رماد الوهم
الفاصلة الثانية: كاينة ظروف
الشوط الثالث: الصورة سكرى بالخمر وباشياء أخرى
 وفي خاتمة الكتاب نجد مقالا لمحمد سيف الناقد والفنان  العراقي الذي يعيش بفرسنا تحت عنوان : انطباعات تشبه القراءة في ليل أبيض تجريب وتعدد أساليب ولوحات مشهدية  .
تدور الأحداث في زمن غروب الشمس وفي أجواء باردة ومسائية تنمو عبر ثلاثة أشواط تتناسج مع بعضها البعض لتحكي حكاية شخصيتين لا اسم لأي منهما يكتفي الكاتب بتسميتهما بأرقام ألأول والثاني يقول الأول عن نفسه:» إني مجرد رجل مسكين يعيش بين المدرسة والمقهى والبيت،» وهي شخصية تبدو متصالحة مع واقعها، في حين أن الثانية شخصية متوترة وغاضبة وغير منسجمة مع الواقع،هما  شخصيتان متقابلتان  تختلفان من حيث الخوف والجهل والتجاهل والتعامي عن واقع تراه الشخصية الأخرى بمنظار الرافض والمتمرد والمقهور والمغلوب والثائر، وتتصاعد هذه الأشواط من حيث بناؤها الدرامي لتصل في الشوط الثاني إلى وسم التاريخ والجغرافيا بالأحزان والآلام  وتفسير أسباب تلك المواجع والأحزان والضنك والمتجلية في مداهمات القمع البوليسيي المقتحم للبيوت والباحث في الكتب والأشياء والأقوال مبررا التعذيب والاستنطاق والقمع بأشكالها المتفننة بلعبها بالأجساد النحيفة. وتصل الأشواط إلى ذروتها في الشوط الثالث الذي تتم فيه محاسبة الزمن المغربي عن طريق محاسبة إحدى الشخصيتين للأخرى، والبوح بكل الأوهام التي كبلت جيلا بكامله،وتنهار نماذج مصغرة لأسماء عبرت التاريخ ، في زمن تبدلت فيه القيم وكثر اللغط واللغو في الأمور الجدية حتى صار الأمر « تراجيديا الزمن الميت» كما يقول النص ، وقد وظف فيه المؤلف أيقونات ورموزا اسطورية وتراثية كثيرة (مثل موسى وابراهيم عليهما السلام، و سيزيف،وكاسترو وشيغيفارا ، و تميم بن مقبل الشاعر الجاهلي صاحب البيت المشهور:ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر      تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
وغيرهما من الشخصيات التي اختارها بوسرحان لتعبر عن جغرافيته الروحية المغتربة داخليا، وتصل في بعض مقاطعها إلى تحجر المشاعر الإنسانية، والتي  تعبر عن حالة اغتراب وتفتت داخلي بموجب أحداث الزمن التي تفعل فعلتها في الإنسان ، وبموجب حالات الاعتقال والسجن ورطوبته دفاعا عن جسد تحجر بسياط وطن يعيش ليلا أبيض .
في مقابل ضلك تتواشج الفاصلتان في حكاية السيد وخادمه بسيط بن صعب بن سهلة والكلب ريمو الشخصية الانسانوية التي تحتل موقعها ضمن شخصيات مجتمع ليلة بيضاء،بل إننا نجد في الفاصلتين ركاما من المواضيع الاجتماعية والسياسية والهلوسات الفنية المومئ إليها فيهما كتنويعات على واقع .
كتب النص بلغة عربية مغربية أنيقة يمتزج فيها السردي بالشعري ، وتحضر فيها لغات ركحية متعددة يشدد المؤلف خلال الإرشادات المسرحية على مكون الإنارة وتموضعات الممثلين وتحركاتهم، وعلى الأشياء المسرحية. هي كتابة نصية ولكن بعين مخرج مسرحي هاو يجعل من ليلة بيضاء نصا يحمل مقترحه الدراماتورجي الراصد للعب الممثلين وحركية الخشبة .
لقد استطاعت ليلة بيضاء ( وغيرها من إبداعات بوسرحان الزيتوني) أن تجد لها موطأ قدم ضمن إبداعات عمالقة الهواة زمن تألق المسرح الهاوي،  واستطاع بها أن يصنع مقامه إلى جانب قامات من قبيل محمد تيمد ،ومحمد قاوتي ونشيخ ووردة ابراهيم  والطبعي وعوزري والصديقي واللائحة طويلة وكانت للرجل فرادته وإضافاته النوعية نضجت بفعل تنامي إبداعاته، وبفضل تطور اجتهاداته  المعتمدة على رؤيته الخاصة وتصوراته المحددة ، التي يحضر فيها بريشت بقوة شأن الكثير من الهواة المغاربة سواء بمرجعياته الفكرية أو بتقنيات التغريب ومكانة الجمهور في العمل و الاهتمام بقضايا الناس …   
ستظل ليلة بيضاء عملا دخل تاريخ الهواة المغاربة لأنه كتب بحرقة جيل ، وبنسغ شوكي ضدا على واقع لم يهادن شبابا يتطلع إلى أفق مغربي لم يتحقق لهم ولم يتيسر ايجاده من تم راحوا يبنون واقعا بديلا بأعمال من طينة ليلة بيضاء أتمنى أن  يسعف الزمن باقي الهواة لإخراج ونشر تحفهم التي لم يعشها جيل الشباب اليوم، كي تطلع الأجيال اللاحقة على تراثها قبل فوات الأوان…

 بقلم: الدكتور لعزيز محمد

Related posts

Top