ماكرون ينسف فبركة الذاكرة التاريخية من طرف النظام الجزائري

تناولنا أكثر من مرة ظاهرة السرقات الموصوفة التي احترفها النظام العسكري الجزائري ووقفنا في أكثر من محطة على عمليات تزوير حقائق تاريخية وصناعة أساطير وأبطال من ورق، وتسويق لأرقام مشكوك في صحتها عَلًها تغدي المخيال الجماعي المحلي من جهة، وتكون مظلة شرعية للجنرالات للحكم ولو بالحديد والنار وخارج الآليات الديمقراطية المعترف بها من جهة ثانية.

لكن أن يتساءل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ مضيفا أن “هذا هو السؤال”، فإنه كلام يلزمنا التوقف عنده كثيرا سواء من حيث توقيته أو من حيث انتقاء مصطلحاته وقوتها؛ لأن ماكرون ليس بالرجل العادي، فهو رئيس دولة لها وزنها التاريخي والاقتصادي وفاعل كبير في المعادلات الدولية، كما أن الرئيس ماكرون نفسه يعلم جيدا أن كلامه له أثر تاريخي وقانوني وله ما بعده من كلفة سياسية.

لكن استرساله بالحديث عن النظام الجزائري بتلك الطريقة يخرجه من احتمالات زلات اللسان ويجعل حديثه عن النظام الجزائري نابعا من تفكير عميق وقناعة قوية، الأمر الذي جعل السؤال الموجه إلى المؤرخين والمفكرين والجغرافيين والشباب مستفزا لجنرالات الجزائر ووضعهم أمام مرآة الحقيقة.

فالتوقف عند كلام ماكرون أثناء استقباله لشباب عشريني مزدوج الجنسية ومن أصل جزائري، والمنشور في صحيفة “لوموند” الفرنسية، له ما يبرره؛ لأنه تضمن مصطلحات قوية ذات حمولات دينية وفكرية وتاريخية. فقد استعمل الرئيس الفرنسي مصطلح “الأمة” بدل مصطلح “الدولة”، واذا عملنا أن الدولة الجزائرية قد أنشأت فقط بعد الاستقلال سنة 1962، فهل يقصد ماكرون أن سكان تلك المنطقة لم تكن تتوفر لديهم العناصر المكونة للأمة عند الاستعمار الفرنسي سنة 1830؟ أم لم تكن لهم الأفكار والمرجعيات التي تساعد في تكوين “الأمة”؟ وهل أراد أن يرمى بالحجر في مياه تعدد القبائل والشعوب بتلك المنطقة بين سكان الشمال الأمازيغ والطوارق الرحل في الصحراء والقبائل العربية الأخرى خلال الاحتلال الفرنسي؟ 

في الحقيقة فإن كلام الرئيس ماكرون حول تواجد الأمة الجزائرية من عدمها قبل الاستعمار الفرنسي سنة 1830، يدفعنا إلى مراجعة العديد من التعريفات الخاصة بمصطلحي “الدولة” و”الأمة” لكل من Renan وHerder  وGellner وHobsbawm وغيرهم.

كما لامس كلام الرئيس ماكرون حقيقة تبثها جنرالات الجزائر في ديباجة دستورهم الجديد، إذ قفزوا على العديد من المراحل التاريخية واختزلوا تاريخ الجزائر في العهد النوميدي إلى الفتح الإسلامي ثم إلى الحروب التحريرية حول الاستعمار فهل كانوا يعنون بالاستعمار فقط الاستعمار الفرنسي؟ أم أيضا فترات الإمبراطورية العثمانية وفترات بسط سلاطين المغرب حكمهم على مناطق شاسعة في الجارة الشرقية؟ وهل الهدف من تزوير الحقائق التاريخية وتفصيلها على مقاسات جنرالات الجزائر هو رهن مستقبل الجزائر بمصير “الحرس القديم”؟

لقد كانت مدفعية ماكرون موجهة أساسا للنظام العسكري الجزائري ودون الرئيس الذي ظهر كما يبدو من خلال كلام ماكرون، أنه ليس سيد قراراته ومغلوب على أمره. لذلك وصف النظام الجزائري بالسياسي العسكري وجمعها في مؤسسة واحدة وليس مؤسستين مختلفتين، بل النظام العسكري هو من يقود البلاد من داخل ثكنات عسكرية ببدلات عصرية وربطات العنق، وليس من داخل المؤسسات الديمقراطية كمقرات البرلمان والحكومة.

أكثر من هذا سيضيف ماكرون أن هذا النظام “العسكري” بني على “الريع المرتبط بالذاكرة”، وهو بهذا يعري عن حقيقة عيش جنرالات الجزائر على أنقاض جثث المقاومين الأحرار والمحافظة على امتيازات السلطة بإسم شرعية مقاومة الاحتلال.

فعمليات نسج أحداث وخلق أساطير ترضي طموحاتهم الشخصية وتضمن لهم الخلود في السلطة على رقاب الشعب باسم الدستور الذي تضمن فقرات تمجد وتقدس العسكر في الجزائر، وتجعل الشعب مدينا للعسكر إلى أجل غير مسمى، فهذا يدخل في نطاق ريع الذاكرة التاريخية.

كما يتجلى ريع الذاكرة التاريخية أيضا في عدم رغبة جنرالات الجزائر في الخروج من أساطيرهم وتخيلاتهم والمشاركة الفعلية والعلمية في إطار “لجنة الذاكرة والحقيقة” والتي جاءت كإحدى توصيات المؤرخ الفرنسي ذي الأصول الجزائرية “بنجامين ستورا” في تقريره “ذاكرة الاستعمار والحرب الجزائرية” الذي قدمه للرئيس ماكرون في يناير 2021، وهو بالمناسبة التقرير الذي رفضته الجزائر وبعض مؤرخي الثكنات العسكرية الذين وصفوا التقرير تارة أنه يتماهى مع التوجه اليميني الفرنسي وتارة أخرى يخدم أجندات انتخابية.

لكننا نعتقد أن كلام الرئيس ماكرون يحمل تحديا قويا للنظام العسكري الجزائري المنهك بفعل الحراك الشعبي منذ فبراير 2019، وأن هذا التحدي جاء بعد اطلاعه حتما على الأرشيف الفرنسي/الجزائري وأيضا ما جاء به تقرير المؤرخ سْـتورا. ومما زاد من قوة حديث ماكرون هو قوله من داخل القصر الرئاسي الفرنسي الإليزيه في لقاء وصف بمصالحة الشعوب وجرح الذاكرة، وأمام شباب عشريني فرنسي مزدوج الجنسية ينحدر من أفراد الجيش الشعبي والحركي والأقدام السوداء.

 كل هذه الرسائل التاريخية والسياسية القوية أراد من خلالها ماكرون تعرية النظام الجزائري والكشف عن ريع الذاكرة المشتركة الفرنسية – الجزائرية المفعم بجرعات الكراهية التي دسها الجنرالات في تاريخ الجزائر.

فهل هي دعوة الشباب إلى إعادة قراءة تاريخ الذاكرة من زاوية الحقيقة التاريخية فقط -خاصة وأن لا الرئيس الفرنسي ماكرون ولا الشباب الحاضر في لقاء الإليزيه قد عاش تلك الفترة أي 1954 ـ 1962- وهو ما يميل إلى الدعوة لكتابة جديدة لفترة تميزت بتدافع فكري أو أيديولوجي كبير بين معسكر ليبرالي أو اشتراكي وأدبيات القومية العربية وطموحات شخصية لبعض قادة المقاومة مما أفرغ العديد من السرديات التاريخية من الموضوعية وغيب عنها الحقيقة التاريخية الصرفة.

لذلك فالكتابة الجديدة للذاكرة التاريخية الجزائرية لا يجب أن يستفرد بها الجنرالات دون غيرهم، بل عليها أن تشمل أيضا كل مكونات تلك المرحلة لتتضمن وجهات النظر المختلفة سواء كانت للجيش الشعبي أو الحركي أو الأقدام السوداء.

لقد أصاب كلام الرئيس ماكرون النظام العسكري الجزائري في مقتل، وكل ما قاموا به هو استدعاء سفيرهم بباريس للتشاور، وهو رد فعل تعودت الديبلوماسية الجزائرية مع فرنسا، مثلما فعلت عندما بثت قناة فرنسية برنامجا عن الحراك الشعبي الجزائري. كما رفع ماكرون سقف التحدي عاليا بإعلانه نية التضييق على أشخاص ضمن النظام الحاكم بخصوص طلبات التأشيرات إلى فرنسا، وهذا يعني التوفر على لوائح أسماء أشخاص غير مرغوب فيهم في فرنسا. فكيف سيرد النظام الجزائري على الدولة الفرنسية بعيدا عن جعجعة إجراءات سحب السفير وإرجاع السفير.

  • بقلم: د. عبد الله بوصوف

Related posts

Top