مشروع قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها يعد مراجعة جذرية لكن زوايا خلافية تظل قائمة

أكد المستشار عبد اللطيف أوعمو أن مشروع قانون رقم 19 .46 المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يتضمن ايجابيات عديدة ومراجعات عميقة تستدعي التصويت بالإيجاب لصالحه.
وداعا عبد اللطيف أوعمو، في الجلسة العامة التشريعية ليوم الجمعة الماضي، مع ذلك إلى التفعيل الحقيقي للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمحاسبة وربط المسؤولية بالمسائلة، وضبط تأطير مجال الصفقات العمومية، التي تجسد إحدى مظاهر الخلل في منظومة الحكامة التدبيرية للمرفق العام. فيما يلي النص الكامل للمداخلة.

السيد رئيس المجلس،
السيد الوزير ،
السيدات والسادة المستشارون،
يشرفني أن أتناول الكلمة في إطار الجلسة التشريعية المخصصة لــ مناقشة مشروع القانون رقم 19 – 46 المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
المشروع الذي جاء استجابة للتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى تخليق الحياة العامة وتعزيز النزاهة ومحاربة كل مظاهر الفساد. وجاء أيضا تجاوبا مع انتظارات المواطنين وتطلعاتهم إلى الاستفادة من الخدمات العمومية وفق متطلبات الشفافية والنزاهة والجودة، والحرص على توفير شروط الإنصاف والفعالية من أجل تحقيق تنمية مستدامة ومدمجة لجميع الطاقات، تضمن الكرامة والرفاهية للأجيال الحالية والمستقبلية، في أجواء عامة تتميز بتنامي آفة الفساد وامتداداتها الوخيمة على مختلف مجالات الحياة العامة.
واعتبارا لكون المشروع يعد مراجعة جذرية وعميقة للقانون الحالي للهيئة، سواء تعلق الأمر بمهامها أو بنظام حكامتها أو بكيفيات اشتغالها، حيث تأكدت ضرورة نسخ القانون رقم 12-113، والتوجه نحو إعداد إطار قانوني جديد يأخذ بعين الاعتبار بعدين أساسيين، يتمثلان في تحصين المكتسبات الدستورية ذات الصلة بالهيئة، و تثبيت وتدقيق مجموعة من الاختصاصات المخولة لها وتوسيع وتقوية وتعزيز استقلاليتها ومبادرتها الذاتية.
فبعد أزيد من سنتين على تخليد المغرب لليوم الوطني لمكافحة الرشوة، في 6 يناير 2019، بعد تعيين جلالة الملك في 13 ديسمبر 2018 لرئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، تفعيلا لمقتضيات الفصلين 36 و 167 من الدستور، حيث تتولى مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة.
وبعد فترة من إطلاق الحكومة المغربية للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، التي تهدف إلى جعـل الفساد فـي منحـى تنازلي إلى حدود النصف في أفق سنة 2025؛ وتحســين ترتيب المغرب فــي التصنيفــات الدولية المتعلقة بهذا المجال أملا في تعزيز ثقة المواطنين من جهة، وثقة المجتمع الدولي في المغرب بوصفه بلدا مستقرا، غير متسامح مع الفساد من جهة أخرى .
ويعكس الواقع إحساسا متناميا في أوساط المجتمع السياسي والمدني على حد سواء برسوخ ظاهرة الفساد واستفحالها، وبانعكاساتها السلبية على التنمية وعلى تدني منسوب ثقة المواطنين في المؤسسات والإحساس بعدم الأمن والاستقرار، تفاعلا مع خطورة هذه الظاهرة، حيث حصل إجماع بأن للفساد تأثير سلبي في قواعد الديمقراطية، ويقوض سيادة القانون، ويحد من الولوج للموارد والتوزيع العادل للثروات، كما يكرس الهشاشة الاجتماعية والمجالية.
فالفساد والرشوة يحرمان المغرب من ما بين 5 إلى 7% من الناتج الداخلي الصافي، وهو ما يمثل خسارة ما بين 5 و7 مليارات دولار.
ولكن بالرغم من الوقع الإيجابي لإطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وبالرغم من وجود خطاب ونوايا سياسية سابقة ومعبر عنها باستمرار، واعتبارا لكون مشروع القانون هذا يعد مراجعة جذرية وعميقة للقانون الحالي للهيئة، فإن زوايا خلافية تظل عالقة، حيث طالبنا بــتوسيع صلاحيات المأمورين في التحقيق والبحث والتحقيق في شبهات الفساد في جميع المؤسسات بدون استثناء بما فيها القضاء والأمن، بالتعاون مع النيابة العامة.
وتوقفنا عند صلاحيات المأمورين في الدخول إلى المحلات المهنية التابعة للأشخاص الذاتيين والاعتباريين والمقرات الاجتماعية للأشخاص الاعتباريين الخاضعين للقانون الخاص وفروعها شريطة مشاركة ضابط أو عدة ضباط للشرطـة القضائية في الأبحاث والتحريات التي يتم القيام بها، مؤكدين على ضرورة الانتباه لمضامين المواد التي قد تخالف أو تعارض القوانين المعمول بها في المجال القضائي أو المرتبطة منها بالسر المهني للمواطنين، المصان بحكم القانون.
وتوقفنا كذلك عند تداخل اختصاصات الهيئة ورئاسة النيابة العامة فدعونا إلى توضيح علاقة الهيئة مع النيابة العامة، بما يضمن فعالية التعاون والتكامل بين المؤسستين، حرصا على ضمان التوازن، لا سيما فيما يهم صلاحية تتبع الهيئة لملفات الفساد إلى حين البت فيها وتمكينها من كافة المعطيات الخاصة بكل حالة على حدة.
وتساءلنا عن مدى صحة الأساس المعتمد لمنح الهيئة حق التنصيب كطرف مدني في القضايا التي حققت فيها أو تدخل فيها مأموروها، بجانب الوكيل القضائي الذي يمثل مصالح الدولة والإدارة. وبقي الجواب معلقا حتى الآن.
كما طالبنا بـتوسيع و تدقيق تعريف وتحديد جرائم الفساد لتشمل مختلف الأفعال التي تدخل في نطاقه طبقا للممارسات الفضلى في التشريعات واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. كما حرصنا على تقوية حماية الضحايا والمبلغين عن الفساد ضمن المشروع وضمن قانون المسطرة الجنائية على حد سواء.
وتجدر الإشارة إلى أن إنشاء الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، يجب أن يكون معززا ومدعما بشروط استقلالية الهيئة كمؤسسة دستورية، إلى جانب الاستقلال الوظيفي والمالي والشخصية الاعتبارية، على غرار بعض المؤسسات مثل هيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة المنافسة، والتي تنص قوانينها على أنها مؤسسة دستورية مستقلة، مع توفير عناصر ومقومات السلطة القانونية اللازمة لمحاربة كل جرائم الفساد، وتوفير الموارد البشرية والمادية الضرورية لإنجاز مهامها، من منطلق أن الفصل 159 من الدستور منح الاستقلالية الكاملة والشاملة لجميع هيآت الحكامة، وأن الاستقلال المالي يندرج ضمنيا ضمن الاستقلالية التامة للهيئة.
هذا، مع التأكيد على أن صفة الاستقلالية اللازمة والضرورية لا يجب أن تمنع من مساءلة الهيئة أمام اللجان البرلمانية، والتأكيد على أن الرقابة المالية على الهيئة موكولة للمجلس الأعلى للحسابات، فيما الرقابة القانونية تبقى من اختصاص القضاء الإداري من خلال الطعن في قرارات الهيئة التي لها طابع إداري أمام المحكمة الإدارية، دون المساس بجوهر استقلالية الهيئة أساسا.
كما أن تطور المنظومة الجهوية يقتضي التسريع بإحداث المراكز الجهوية للهيئة، وتمكينها من الموارد البشرية والمادية الضرورية لإنجاز مهامها بفعالية واستقلالية.
ونثمن بالمناسبة، ما تضمنه البند الرابع من المادة 4 من المشروع بخصوص التنصيص على اختصاص الهيئة المتمثل في السهر على إعداد استراتيجية وطنية متكاملة للتنشئة التربوية والاجتماعية على قيم النزاهة ولاسيما في مجالي التربية والتكوين، نظرا لأهمية التربية على قيم المواطنة والنزاهة وزرعها في الناشئة منذ نعومة أظافرها، مع الإشارة إلى اختصاص الهيئة في ما يخص تقديم توصيات واقتراحات بخصوص ملاءمة التشريع الوطني مع الاتفاقيات الدولية في مجال نشر قيم النزاهة والوقاية من الفساد، بجانب مهام وضع منظومة لرصد الفساد ومكافحته ضمن مهام الهيئة، خصوصا وأن مهام المبادرة والتتبع والتنسيق والتنفيذ قد منحها الدستور للهيئة.
السيد الوزير ،
السيدات والسادة المستشارون،
إذا كان التوجه صريحا وأكيدا، نحو إعداد إطار قانوني جديد يأخذ بعين الاعتبار بعدين أساسيين، يتمثلان في تحصين المكتسبات الدستورية ذات الصلة بالهيئة، وتثبيت وتدقيق مجموعة من الاختصاصات المخولة لها، فإن الترسانة القانونية، مهما كانت دقتها وتفاصيلها، فهي تحتاج إلى إرادة سياسية قوية، قوامها القدرة القوية والفعالة على تحويل التعهدات إلى برامج ناجعة، وتفعيل مؤسسات الحكامة، وتوفير الموارد والقدرات اللازمة لذلك.
إن النقاش الدائر حول اعتماد نموذج تنموي جديد، لا يمكن مقاربته دون الانكباب بجدية وبمسؤولية على مكافحة الفساد، والقضاء على أسس اقتصاد الريع وتضارب المصالح، وخصوصا بتقوية دولة المؤسسات، والحرص على توازن السلط واستقلالها.
وأن النموذج التنموي الجيد والحكيم هو الذي يساهم في معالجة مكامن الخلل المرتبطة بالحكامة الجدية وتنفيذ القانون والضمان الفعلي لاستقلالية القضاء، وتقوية مكانة مؤسسات المجتمع المدني التي تساهم في توطيد قيم الشفافية ومراقبة صرف المال العام، وحماية وسائل الإعلام المستقلة والمواطنة من بطش الاضطهاد والمحاصرة.
كما يقتضي الأمر تفعيلا حقيقيا للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، مع تعزيز الشفافية والمحاسبة وربط المسؤولية بالمسائلة، وضبط تأطير مجال الصفقات العمومية، التي تجسد إحدى مظاهر الخلل في منظومة الحكامة التدبيرية للمرفق العام.
ولكل هذه الاعتبارات، واستحضارا للإيجابيات العديدة والمراجعات العميقة التي أتى بها مشروع القانون هذا، فإننا كمستشارين لحزب التقدم والاشتراكية بمجلس المستشارين سنصوت بالإيجاب لصالحه.

> عبد اللطيف أعمو

Related posts

Top