أعاد فايروس كورونا المستجد إلى الذاكرة معاناة البشرية الطويلة مع الأوبئة والجوائح الجرثومية، خاصة تلك التي غيرت مجرى التاريخ. فمثلما كان للطاعون “الفضل” في انحسار دور رجال الدين والكنيسة في القرن الرابع عشر، وظهور عصر النهضة، يطرح فايروس كورونا، اليوم، أسئلة حول مصير النظام العالمي والعولمة، وإلى أي مدى سيكون لحالة الرعب الراهنة دور في إعادة رسم ملامح خارطة العالم اقتصاديا وصحيا وبيئيا واجتماعيا وسياسيا.
تتجاوز الأوبئة تداعياتها الصحية؛ فكلما اجتاح العالم وباء كبير فتح الباب أمام تغيرات مفصلية. ويحتل الطاعون أهمية كبرى في هذا التاريخ. وكانت له آثار هائلة على تطور الحضارة الحديثة. يعد هذا المرض أحد أسباب انهيار الإمبراطورية الرومانية. لكن ذكره يأتي غالبا عند الحديث عن النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر.
إذا ساهمت العولمة في انتقال البضائع وتدفق المعلومات ورأس المال، فقد ساعدت أيضا على انتشار أمراض معدية عن طريق الهواء، والماء والدم والاتصال المباشر، بالإضافة إلى الحشرات وحيوانات. وعلى غرار كورونا اليوم، كان للسفر و”العولمة” التجارية دور في انتشار الطاعون وانتقاله من آسيا إلى أوروبا. نشر الطاعون الموت الأسود في أوروبا. وكان لتداعياته مظهران، الأول اقتصادي صناعي حيث تسببت وفاة 50 مليون شخص تقريبا (60 في المئة من سكان أوروبا) في فقدان اليد العاملة، وبالتالي ارتفاع الأجور. وكان ذلك سببا في تسريع وتيرة التحديثات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية.
ويتمثل المظهر الثاني في ظهور ثنائية الشرطي ورجل الدين، ضمن صراع انتهى لصالح الأول، ووضع لبنة الدولة المدنية العلمانية في أوروبا. مع انتشار الطاعون وسقوط الملايين من الضحايا، شعر الناس بعجز الكنيسة ورجال الدين عن إنقاذ أرواح البشر، وبالتالي حل الشرطي محل الكاهن.
يمكن القول إن هذا الوباء فتح الباب أمام مراجعة جذرية لمكانة الدين السياسية، بحيث كان لإنشاء الشرطة دور كبير في حماية حياة الإنسان وضمان الأمن.
وبالتالي ولدت الدولة الحديثة والعقلانية العلمية كإحدى نتائج هذا الصدام بين عالمين من جراء وقوع هذه الكارثة الصحية، حيث كشفت عن عجز السلطة الدينية والسياسية عن إنقاذ أرواح البشر، وبذلك حل الشرطي محل الكاهن.
ثم تكرر الأمر في نهاية القرن الثامن عشر عندما حلّ الطبيب محل الشرطي. بمعنى أن الإنسانية مرت خلال قرون من سلطة قائمة على الإيمان إلى سلطة قائمة على القوة والإكراه لحفظ الأمن، ثم مرّت بعد ذلك إلى سلطة قائمة حول دولة القانون. بمعنى أنه بعد أي جائحة أو وباء يحلّ، يتوقع أن يطال التغيير نظم ومعتقدات العالم الذي يظهر فيه الوباء.
أول ما يطرحه التحول الوبائي هو علاقة الإنسان بأمراضه التقليدية والمحتملة، وهذه دائما في ارتباط وثيق بالتحولات الإحيائية والبيئية. ذلك أن التحولات الوبائية تنجم بالأساس عن تفاعل المحددات والأنماط الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، بخاصة أن دورة التحول الوبائي تمرّ دائما بخمس مراحل رئيسية، هي: الأوبئة والمجاعات، انحسار الأوبئة، الأمراض التناكسية (أمراض مزمنة)، الأمراض المتأخرة، والأمراض المنبثقة والمستجدة، ولكلّ منها سماتها الخاصّة بها في كل مرحلة تاريخية معينة.
هل يخرج العالم من رعب كورونا إلى نهضة جديدة؟
الوسوم