أحب في بداية هذه الورقة التنويه بأمرين اثنين يخصان المسرح المغربي الناطق بالأمازيغية خلال هذه الدورة من المهرجان الوطني للمسرح:
1 – إنه لأول في تاريخ المهرجان، يحضر هذا المسرح بشكل لافت بنسبة وصلت إلى ربع العروض المسرحية المتبارية ضمن المسابقة الرسمية.
2 – إن هذه التجربة المسرحية تجاوزت ذاتها باختيارها الانفتاح على المسرح المغربي وفعالياته وواصلت تجاربه ولم تكسر حلقات تطوره. ففي العروض المسرحية المشاركة نجد أن أكثر من خريج من المعهد العالي للفن المسرحي قد أسهموا فيها تأليفا وإخراجا وسينوغرافيا، مما أثر في إخراج هذه التجربة من تقليدانية تحكمت في العرض الأمازيغي نحو أفق تجربة مسرحية متفاعلة مع الاتجاه العام للمسرح المغربي. وبالطبع يتواصل معهم في هذا السياق مسرحيون قادمون من عمق المسرح الجامعي ومن مسرح الهواة بزخمه وشموخه.
أريد بهذا التنويه التأكيد على أن المسرح المغربي الناطق بالأمازيغية، هنا والآن، وبالمظهر الذي رأينا من خلال عرض مسرحية “أمناي”، والذي سنراه في عروض لاحقة، يكشف أنه صار جزء من معادلة إبداعية مغربية متواصلة مع فضائها العام ومتقاسمة أسئلته ومتفاعلة مع أحلامه.
يشكل عرض “أمناي” نافذة تجدد في ملامسة أسئلة ترتبط بالإبداع المسرحي المغربي عموما:
سؤال موقع النص – سؤال الإخراج – سؤال التشخيص.
ففي تقديري الشخصي (وهو تقدير محمول على الخطأ) يعاني المسرح المغربي من سوء تقدير لموقع النص وأثر نسجه كفعل درامي متراص مع غيره من أفعال، وهو مؤثر بأقدار فيها، حيث يكون “ضميرها” الحاضر والمستتر يقوي أبنيته وإيقاعاته ويحكم منطقها، فنتجاوز بالتالي إبلاغات بلاغات خارج “داخل النص”.
يتأسس عرض أمناي (الفارس باللغة الأمازيغية)، على نص مسرحية “أيام التبوريدة” (بالدارجة المغربية) للمسرحي ابراهيم رويبعة، نص رائق، يسرد مسرحيا لحظة نهاية “وقت” الواعر(اسم الشخصية داخل النص الأصلي / واسمه علي داخل نص العرض)، وإيذانا بزمن جديد، زمن الرحلة بعيدا عن مآسي الماضي ودفنا لأسراره وقتلا لهواجسه.
وعلى الزمن الذي سيقضيه علي / الواعر للخروج من المكان سيستغل الـ “سويعة” التي لا زالت أمامه، يقول لأنير: “ماشي شغلي.. أنا باقي لي ساعة ديال المكانة ونطج من هنا، وما كرهتش نعيش هاذ السويعة بالطول والعرض، بالديطاي زعما، ومن بعد كان هنا، مشى”.
“نطج” بما تحمله الكلمة من انسلاخ، وما تعكسه من “كره” من الـ “هنا” وتشي بفرار غير معلن، هروب من “عار”، بعد ضياع الذات و”الخدم والحشم”، لحظة تتعرى الذات من أغطيتها، لكن هل التعري من “الخارج” يكشف عن عري الداخل.
هنا تلعب شخصيتا “أنير” وتتريت” أدوار بمثابة عوامل للكشف عن الماضي، ليتكشف لنا علي / الواعر عن شخصية هشة كانت تستمد قوتها من موقعها في هرم “سلطوي” ساهم في “تجبره” ضعف الناس في محيطه ونفاقهم وجبنهم ومسايرته له ولنزواته.
كان علي يظن أنه “صندوق” (سوارتو عند ماليه) ما دام أنه كان منبطحا وذيليا لمن هم في الأعلى. يقول علي لتتريث: “راكي عارفة الوقت والخدمة هي اللي كتخليني نولي بحال الكلب، ونتسيف على الناس، عارفة السربيس ملي كا تجي الأوامر من الفوق، لازم علينا انخرجو… البلاد باغيا الهنا واتهنا”.
لا يستقيم بوح على بتبرير سلوكه، إذا لم يجد في الآخر مرآة تغريه، تفككه وتعيد بناء تاريخه، ترهقه في الانتقال بين اللحظة والفلاش باك.. ينكسر علي، ينتهي وقته، وقد تساقطت كل أوراق التوث عنه. ويبقى المكان في انتظار علي آخر ومنافقين آخرين.
من هنا يمكن تقدير أن دراما العرض تتأس على ثلاث مفاتيح أساسية:
1 – التفكك – 2 – الاهتزاز والهشاشة – 3 – الخداع
وأقدر أن هذه المفاتيح، هي التي حكت شكل العرض. فعلي مستوى السينوغرافيا، ينبني المكان على صناديق متفككة يتم جمعها وتفكيكها والجمع فيها، وتحريكها وفق حاجات محددة ترتبط بما تحتاجه اللحظات الدرامية، في راهن اللحظة أو في لحظات التذكر.
وينسحب الأمر نفسه على أداء الممثلين، والذي اتسم بطابع الشخصيات، فقد كان حقا يقارب دراما العرض وإنسانيته، فـ “علي” المهزوز حركة وصوتا، الضعيف في قوته، و”أنير” و”تتريت” المخادعان الغبيان والضعيفان، كانا كل مرة يتنوع أداؤهما، وفق الوظائف التي تثري دلالات اللحظات الدرامية.
كل هذا قدم لنا وتحرك في عالم بصري أنيق يخضع لرياضيات تتحكم في حركته وتحركه، ففي العرض لا مجال للحركة الفائضة، مما يجعل العرض يبدو وكأنه عملية حسابية، جبرية وهندسية، فكل شيء كان يتحرك ويتراجع وينبني ويتكسر بحساب. (عدا لحظات قليلة تراخى فيها المخرج أو الممثلون فأسقطوا العرض في سلب غير موجب).
* قدمت هذه الورقة في جلسة مناقشة العرض المسرحي في إطار فعاليات الدورة 18 للمهرجان الوطني للمسرح (تطوان 2 دجنبر 2016)
> بقلم: بوسرحان الزيتون