منذ البدء نعلن هنا رفضنا للخطوة الخرقاء التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي ترامب، وإعلانه القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وعزم بلاده نقل سفارته إليها بدلا من تل أبيب، ونعلن اصطفافنا المبدئي إلى جانب الشعب الفلسطيني وكل القوى المحبة للسلام عبر العالم التي أدانت قرار الرئيس الأمريكي.
القدس لها رمزيتها، القدس لها خصوصيتها، القدس لها حمولة تاريخية ودينية وسياسية، وهي بذلك لا تهم فقط الفلسطينيين أو طرفي الصراع المباشرين في الشرق الأوسط، وإنما هي تعني العرب، وتعني المسلمين، وتعني المسيحيين، وهي يجب أن تكون مدينة التسامح والتعايش والانفتاح والسلام.
إن ما أقدم عليه ترامب اليوم، وللتذكير فكل رؤساء أمريكا لم يقدروا على الإقدام عليه برغم كل ضغوط اللوبيات الصهيونية، يجعل كل هذه الملايين من الناس في العالم معنية بموضوع القدس، ورافضة للقرار الأمريكي الأهوج.
ونتيجة للقرار المعلن عنه، فإن مآسي الشرق الأوسط (الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مأساة سوريا، الوضع في لبنان، الوضع في العراق، كارثة اليمن، المشاكل والتداعيات التي تؤثر في الأردن…)، تضاف إليها اليوم كذلك مشكلة جديدة لا تقل خطورة وتعقيدا، وهي ترتبط بالقدس، أي أن نيرانا أخرى أشعلها قرار الرئيس الأمريكي في هذه المنطقة التي هي أصلا المنطقة الأكثر اشتعالا ودموية في عالمنا المعاصر، وبالتالي شعوب المنطقة والسلام العالمي يتجهان، جراء هذا القرار، نحو المجهول.
كل مقررات مجلس الأمن الدولي المتصلة بالقضية الفلسطينية وبوضعية القدس، تمنح للمدينة المقدسة وضعا خاصا، ومن ثم فقرار الرئيس الأمريكي يعتبر متناقضا مع كل هذه القرارات الأممية نفسها.
وفضلا عما سبق، فإن الخطوة الأمريكية تضع كذلك حدا لكل المبادرات والجهود والمخططات التي تروم الوصول إلى حل، بما في ذلك المبادرات الأمريكية ذاتها، وأيضا هي تضع واشنطن خارج أي دينامية للحل وللسلام في المنطقة.
لقد أعلن ترامب أن بلاده خصم للسلام، ونزع عنها أي حق أو مصداقية أو شرعية للمساهمة في صياغة أي حل للقضية الفلسطينية، أو أن يكون لها أي دور في الوساطة أو في البحث عن حل، وإنما هي باتت خصما صريحا ومعلنا.
ومن جهة ثانية، فإن القرار الأمريكي، الذي لم تخف دول أوروبية وأخرى غيرها رفضها له واستياءها من اتخاذه، هو قرار متطرف ولن ينجم عنه إلا تنامي التطرّف المضاد في مواجهته، وهذا ما يهدد المنطقة والعالم ببؤر أخرى تنبعث منها المآسي والويلات والنيران، وتضع العالم كله في توترات جديدة لن تسلم هذه المرة أيضا من صراعات دينية اعتبارا لحساسية مدينة القدس ورمزيتها لدى المسلمين والمسيحيين، كما أنها ستجعل المصالح الأمريكية نفسها مهددة، وتمنح للجماعات الإرهابية والمتطرفة حجة أخرى لتقوية خطابها وفعلها..
هذا الانزلاق الخطير الذي يقود إليه قرار ترامب اليوم المنطقة والإنسانية كلها، يفرض أن يتحمل المجتمع الدولي والرأي العام الأمريكي والعالمي مسؤوليته، ويجب أن تتحرك الدول العربية والمسلمة والقوى الإقليمية الأخرى ومنظماتها، وأن تنسى خلافاتها وحساباتها، وذلك لإنقاذ الوضع في المنطقة وإسناد الشعب الفلسطيني في هذه المِحنة الجديدة ودعم صموده، والضغط على واشنطن، للتراجع عن هذا القرار المتطرف والمجنون، وللعمل من أجل حل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام العادل في المنطقة.
محتات الرقاص