في روايته “العفاريت”، ينتصر الروائيّ المغربي إبراهيم الحجري لأولئك الجنود الذين حاربوا ضد النازية في الحرب الكونية الثانية.. جنود من شمال إفريقيا دافعوا عن تراب المستعمر الفرنسي. ولعلها هي مفارقة ملفتة، رواية تقدم الغرائز رمزا.. تلك الغرائز التي تتنفسه قباب الأولياء.. حين حوّلها الحجري إلى أوكارا للذة، كما نسج لنا بهجة الحضرات… حين تتحول إلى مواسم لإشباع الغرائز والشهوات الجسدية، هذا ما يبدو للوهلة الأولى. لكننا إذا ما تعمقنا في الرواية، وقرأناها أكثر من مرة، متابعين حياة الراعي “بوشعيب” كراعي غنم في ضيعة لقائد متواطئ مع المحتل الفرنسي الذي يتم إرساله كمقاتل في صفوف الجيش الفرنسي ضد قوات هتلر، قبل عودته المهزومة إلى قريته بعد نهاية الحرب، وهزيمة النازية، ليعيش بجوار قبة ولي يقضي أوقاته في ملاحق نساء الضريح من أجل الإيقاع بهن في شركه الشهواني.
تسعة فصول، وذلك الراعي العسكري يحلق بالقارئ، ككائن شهواني لم تسلم منه حتى البهائم”، يعبر الفراغ الفاصل بينه وبين إسطبل البغلة الشهباء (التي لم يمسسها حمار من قبل)كفأر سارق..تضحك البغلة في تواطؤ، وتنكشف في خيلاء لعريسها في ليلة الدخلة… تبعد رجليها قليلا لتوسعللفرس الغريب مدخلا اشتهاه…” إلى آخر وصف مشهد ممارسة جنس إنسان مع حيوان..مع ترميز مفصل.
ولم تسلم حتى منه نساء فرنسا بعد انتهاء الحرب”أضحى العسكري الهائج كلبا مسعورا لا يمل من ركوب الصهباوات… لا يميز بين بكر وثيب.. متزوجة أو مطلقة. منتصبا يقضي نهاراته ولياليه يفتش عن خصر ناحل وردف مكور وبطن مقبب ونهد نافر ومؤخرة بارزة” ولا المريضات المترددات على ضريح الولي سيدي مسعود، بعد عودته من فرنسا “يجلس في الزاوية نفسها قبالة رأس الضريح، ويرفع رأسه دونما خجل، غارزا عينيه الثاقبتين في المؤخرات والصدور الناهضة، متأبطا عقله الصغير وفحولته الضخمة”.
ولما تشتد به الرغبة يقصد منازل الوسيطات، يقول الراوي: “وفور عودته، يقصد الماخور القريب من ضريح الولي مسعود بن حسين، حيث تعرض عليه المرأة “النعامية” ما لديها من بائعات الهوى. يختار أجملهن، ويقصد غرفته المعلقة بالسطح،ليغلق عليه ثلاث ليال بنهاراتها، فلا يخرج إلا وقد أستنفد شهواته”.
ولم يكتفِ بنساء بلدته، بل رحل يبحث عما يروي شهوته في أضرحة أخرى.وحين وصوله، يجد أن سمعة فحولته قد سبقته إلى نساء تلك البلدة، لتتهافت عليه النساء. ويختار أكثرهن لحما ورغبة ليدخل عليها: “وبعد هنية سُمع الزفير والشهيق.. وارتجت الأواني في البيوت المجاورة… كأنما عاصفة هبت في الغرفة السرية التي لا يدخلها سوى الجراحين والجراحات”.
تجعل الرواية من حكايات الغرائز محورها الأساسي.،تلك الغرائز المتصلة بالمقدس: سياقات الرواية مبهرةحين تحكي عن مكانة الأضرحة في وجدان المجتمع وعقائدهم، لتأتي سياقات ثلاثضمن ما يوحي به النص. أو بالأصح ما يخفيه من معنى بين الصدور. فتلك الأضرحة لها عدة أوجه: الوجه الأول ما يتمتع صاحب الضريح من الصلاح في سنوات حياته، وصلاته بالغيبيات، بل واجتراحالكرامات… وتلك أوردها الكاتب مثل مسلمات لا جدال فيهامن خلال هزيمة السلطان وجيشه الذي وصل بنيّة بسط نفوذه وسلطانه على تلك النواحي، ليستخدم ساكن القبة الخضراء القطب مسعود قدراته الروحية، ويسخر كائنات السماء لتحارب في صف،وأولياء آخرين لهم خوارقهم، مثل: السير فوق الماء،شرب الماء المغلي، تزويج العوانس، ترويض الوحوش والثعابين والعقارب… وجمع المحبين.والوجه الثاني، تلك الأعداد من خدام الأضرحة الذينتكون لهم بركاتهم نهارا، قبل أن يتحولوا إلى كائنات شهوانية ليلا .. ليدرك القارئ أن غاياتهم إشباع رغباتهم ليس إلا وما بركات النهار إلا مصائد للنساء والتغرير بهن. ويكمن الوجه الثالث في كونأغلب النساء ممن يأتين من أنحاء البلاد متظاهرات بالمرض، ملتمسات بركات الضريح،يخفين هدفهن الحقيقي المتجسد في البحث عمن يلبي حاجاتهن الجسدية،بل إنهن يمارسن، ذلك، بوعي متعللات بأن جن يسكنهن، وأن تحت قبة الولي يتم إخراج تلك العفاريت على يدي خدام الضريح، الذين يدركوا وظيفتهم ويعرفون كيف يشبعوا رغباتهن، لتتحول ليالي تلك الأضرحة والمنازل المحيطة به إلى ماخور كبير. الكل يبحث عما يطفئ لهيبه، يقول الراوي في “العفاريت”: “يندفع الحفاظ الثائرة شهواتهم.. عيونهم تسابقهم إلى تضاريس الأنوثة الفادحة.. يحاولن القبض عليها .. لتخليصها من الجني الأسود أو الأحمر الذي يسكنها.. ولا يراه أحد سواهم.. يقتربون منها يتنافسون كالديكة .. يكادون يتهارشونها.. وأعضاء نشوى غائرة تتأهب للصراخ.. فاضحة جوعها التاريخي.. وغرائز شبقة تتحلب الآن في غرائزهم”.
يمثل ذلك الراعي “العسكري” رمزا للريفي البسيط، الشخصية المحورية للرواية، والذي يصوره الراوي مالك فحولة خارقة، كما أنه يمتلك عضوا لا ينافسه أحد في ضخامته، إضافة إلى أن شبقه لا يرتوي.ويقدمه الراوي كرمز للشباب الذين اقتيدوا للمشاركة في حرب النازية، والدفاع عن التراب الفرنسي الذي يحتل أرضه. يقدمه، فضلا عن ذلك، كضحية لفقره وجهل، وأيضا ككائن تسيّره غرائزه الحيوانية.
لكننا نجد الراوي يستدرك، حين يتدخل، بشكل مباشر، في الفصل العاشر والأخير من الرواية، ليظهر لنا ذلك الراعي العسكري، صاحب القدرات الجنسية الخارقة حين يوحي مدافعا عنه كرمز وضحية “إن مثل العسكري وغيره ممن زُجّوا في حرب لا ناقة لهم ولا جمل فيها، لم يكونوا يعرفون الكذب والنفاق البتة. لذلك دافعوا عن وطن غير وطنهم الأصلي بالغالي والنفيس دون تردد أو تراجع، استجابة لنداء فطرتهم، وإيمانهم بقضيتهم.لم يكونوا يعرفوا الخيانة أو الخداع حتى مع أولئك الذين استغلوهم أرضهم، واستعمروا بلادهم، وانتهكوا حرمة أوطانهم. هؤلاء كانوا، بالنظر إلى سياق مشاركاتهم في تلك الحروب، مواطنين كوكبيين يتبنون قضايا الإنسان ويدافعون عنها”. هي نهاية رائعة إنشائيا. وقد اجتزأنا تلك السطور من فصل صيغ بشكل مقال. لا أدري هل ما جاء على لسان المؤلف كفصل أخير مجدي فنيا؟ أو أنه أراد أن يضفي على ذلك العسكري نبلا لا يعيه. بعد أن قدمه سرديا، طوال فصول الرواية التسعة، ككائن شهواني تغلب عليه غرائز حيوانية، مسير لا مخير لا يمتلك وعيا يذكرغير ضخامة عضوه وطاقته التي لا تنضب.
الرواية إذا استثنينا الفصل الأخير، الذي تمنيت لو أن الكاتب صاغ ما يريد في سياق سرد الرواية دون تدخل منه، رواية فارقة موضوعيا، إضافة إلى قدرة الكاتب من الناحية الفنية الإلمام بكل تلك المعارف وتوظيفها. وكذلك الإمساك بخيوط تلك الشخصيات رغم كثرتها حتى آخر صفحة. كل ذلك وغيره، يدخل القارئ في أجواء غرائبية: هي حياة مجتمعات الأضرحة، وما يدور تحت رمادها. كما نسج الكاتب بكل اقتدار، لغة الحوارات بالعامية، وذلك الفيض من الدلالات، ما يدل على أن الكاتب لم يشرع في صياغة مشروعه إلا بعد إطلاع واسع ودقيق في عوالم الأضرحة والطرق الصوفي. تلك الحوارات باللهجة الدارجة، تداعب كل حواس القارئ، ليسمع بأذنه، تلك اللهجة التي تقودنا إلى أعماق شخصيات الرواية، بل إلى عمق الإنسان المغربي وتعلقه بالغيبيات.
ويمكننا رؤية تأثير تلك الحوارات واللغة الصوفية إلى ما يدور في سياق الأضرحة، وإلى ملامح الشخصيات وزوايا الأضرحة، وصفوف المريدين، وزحام الداخلين والخارجين. بل، ويمكن للقارئ أن يتشمم روائح الأشخاص والأطعمة والنباتات، وتلك الحيوات الشعبية النابضة بالتآلف.
إنها رواية الجنس المقدس حين تلتقي النساء بكائنات الضريح، ليستفحل ويتحول إلى وصفات للتداوي. الجنس بروائح وأحاسيس مختلفة عن أي مكان. لقد جعل الكاتب المكان متحركا يتماوج بالغرائز والرغبات، ينثال بالخداع والممالأة.. بالتواطؤ والتمنع.. بالرفض والقبول. وهو بذلك، حشد عددا من المتضادات لمكانة الضريح في نفوس العامة، وأوصل كل ذلك للقارئ بزخم يفوح شذاه بمشاهد أسطورية، وتلك الجدلية، حين يتضخم المريد ويتحول قطبا لمعلمه، ليرحل، بعد أن يختار لزاويته مكانا مرتفعا ومميزا، وتصبح كراماته حديث العوام، وحين تتحول الراوية، بعد موته، إلى ضريح يحج الجميع إليه من أنحاء البلاد.
لقد استطاع الناقد والروائي إبراهيم الحجري أن يقدم لنا رواية نرى من خلالها عوالم المجتمع المغربي. بل ونعيش متعة الاكتشاف. وهو لم يختر، في ذلك، بيئة روايته المدينة التي تتشابه في الكثير مع المدن، بل اختار ما يميز المغرب، وهو مجتمعه الريفي.. بل وخصنا بمكان الأضرحة والأقطاب وعوالم الغيبيات حين تتماس مع آمال المجتمع.
> بقلم: الغربي عمران