تشهد ساحتنا الثقافية والتربوية تحولات سريعة ومتواترة، وقد بلغت هذه التحولات ذروتها بالموازاة مع تفشي الفيروس الوبائي.
كان اللجوء إلى التواصل الرقمي حلا مؤقتا للحفاظ على استمرارية النشاط الثقافي بمختلف أبعاده.
فما فتئ بين الفينة و الأخرى يظهر إعلان عن تنظيم لقاء ثقافي عن بعد بمشاركة أسماء تنشط في مجالات متعددة.
في كل مرة تظهر أسماء جديدة باعتبارها تبرع في هذا المجال أو ذاك.
أسماء في الإبداع القصصي والشعري والروائي وفي الفكر والرسم وغير ذلك. إلى حد يجعلنا نتساءل: أين كان يختبئ هؤلاء طيلة المدة السابقة؟
هل فعلا لهم حضور فاعل في مجال تخصصهم؟
ما هي إنتاجاتهم وما قيمتها؟
إلى غير ذلك من التساؤلات.
صار بالإمكان الاطلاع على ملصق إعلاني مزدحم بالوجوه المدعوة للمشاركة في لقاء ثقافي ما.
في وقت كان لا يتم إشهار شخص ما إلا إذا كانت له كاريزما وله حضور وازن في الساحة الثقافية بوجه عام.
إن السهولة التي صار يتم بها تنظيم اللقاءات الثقافية أدت إلى غير قليل من المجازفة بقيمة هذه اللقاءات الثقافية في حد ذاتها.
انتقل هذا المستوى من المجازفة إلى النشر الورقي، حيث رأينا كيف أن أحد الناشرين غامر بطبع ديوان شعري كل يوم، مع أن عملية الطبع تتطلب المرور من عدة مراحل: قراءة الكتاب المرشح للطبع من طرف لجنة خاصة، إعداد تقرير حول إجازة طبعه، عرضه على قسم التصحيح.. إلى غير ذلك من الإجراءات التي لا بد منها لأجل خروج الكتاب في مستوى مقبول نسبيا.
هل تمت مراعاة هذه الإجراءات كلها، أستبعد ذلك بالنظر إلى الوتيرة السريعة التي تمت بها عملية الطبع.
الأدهى من ذلك أن يتم الاكتفاء بإرسال أغلفة الكتب إلى المؤسسات الصحافية لأجل الإعلان عن صدورها.
وفي تقديري أن هذا السلوك لا يبخس عملية طبع الكتب فقط، بل يبخس ويحتقر كذلك المؤسسات الصحافية، باعتبارها لا تعدو أن تكون جهازا يمكن لنا أن نلقي إليه بأي شيء لكي يعمل على إشهاره بكيفية آلية.
مع أنه كان من المفروض أن يقوم الناشر بإرسال الكتب المطبوعة بكامل محتوياتها لأجل مقاربتها وتقديمها للقراء.
يحق لنا أن نتساءل كذلك حول ما بعد طبع كل تلك الكتب، مثلما نتساءل حول ما بعد انتهاء فيروس كورونا.
هل طبعها تم بناء على تصور معين؟
يمكن القول إن الساحة الثقافية في ظل التواصل الرقمي، اخترقها شيء مشين، وهو البوز. أي نعم البوز.
ذلك الطموح المرضي نحو لفت الانتباه بأي شكل من الأشكال.
وقد رأينا أخيرا كيف أن هذا السلوك قد اخترق الحرم الجامعي، حيث أقدم أحد الطلبة على مناقشة أطروحته بلباس عامل النظافة، لا لشيء سوى لأن موضوع الأطروحة له ارتباط بقضية البيئة، خالقا بذلك تشويشا في ذهن المتتبع.
ربما في المرة القادمة قد يأتي من يناقش أطروحته الجامعية حول الغوص في البحار بلباس الغواص، وسيتم تداول صوره كما سابقتها على نطاق أوسع، أليس هذا هو البوز في أحط صوره؟
فعلا، هناك تحولات متواترة تشهدها ساحتنا الثقافية والتربوية، يتم من خلالها تبخيس مختلف القيم بسبب سلوك مشين اسمه: البوز.
<عبد العالي بركات