نظّم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، ندوة نقدية حول العوالم السردية في رواية “حابي” التي صدرت سنة 2019 للأديب الكويتي طالب الرفاعي. وتوزّعت المداخلات بين الناقد المغربي عبد الرحمن غانمي، مدير مختبر السرد والأشكال الثقافية بكلية الآداب ببني ملال، والناقدة المصرية دينا نبيل، إلى جانب الروائي طالب الرفاعي، فيما أدار اللقاء الأديب منير عتيبة، مدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية.
وشكّلت هذه الندوة محطّة لإضاءة آليات الاشتغال اللغوي والسردي في رواية (حابي)، فضلا عن مضمراتها الفكرية وما تنطوي عليه من رؤى وخطابات. وفي هذا السياق، فقد تناول الناقد المغربي عبد الرحمان غانمي سرديات الذات المتشظية داخل الرواية، من خلال البناء اللغوي أولا، حيث تحول الضمير المحيل على الشخصية المحورية بين التأنيث والتذكير، ثم من خلال الإحالة التناصية للعنوان مع أسطورة إله الخصوبة في مصر القديمة الذي يتشكل من جزء ذكوري مفتول العضلات، وجزء بتضاريس الأنوثة، فضلا عن اضطراب الأوعاء، وتضارب القيم، والقلق المهيمن على الوقائع وأفكار الشخصيات.
فتحوّل (حابي) من الأنوثة إلى الذكورة –حسب الناقد- هو تحوّل شكليّ على مستوى الجسد فقط، إذ لم يحقّق تصالحا جوهريا مع الذات، ولا مع المجتمع، ولم يُتِح تجاوز الصور المتراكمة في الذاكرة مما سيفضي إلى تعميق التوتر السردي من خلال السفر خارج الوطن، ثم من خلال التوجس الدائم من الرغبة الجنسية اتجاه شخصية (جوى) التي تنطوي –لغويا- على الحب وعلى الألم والقلق أيضا.
وهذا اللاتناغم مع الواقع، هو ما يؤدي إلى تصعيد الموقف، وتصعيد الحالة والرؤية، ويتمظهر سرديا من خلال شبكة العلائق والوقائع، وهو اشتغال فني ربطه الناقد بالكتابة الروائية عند دوستويفسكي حيث تكون الأفكار والأحاسيس مبأرة في ذهن الشخصية في لحظة حاسمة – مثل لحظة التحوّل في رواية “حابي”-، وتتمظهر سرديا في صور التأزيم والتعقيد والصراع على النحو الذي تشتغل به رواية “الإخوة كرامازوف”.
وعلى مستوى أعمق، فإن الناقد عبد الرحمان غانمي لا يرى في هذه المادة الحكائية عالما مخصوصا بالأقليات الجنسية وأسئلتها، ولكنها بالمقابل تحيل على التحولات الثقافية والهويات الملتبسة. وفي هذا السياق فإن الإخصاء النفسي للشخصية هو إخصاء للكينونة الجماعية وللراهن الثقافي وليس للذات فقط، ومن هنا فإن شخصية (حابي) تغدو مجرد علامة دالة رمزيا وثقافيا وأنثروبولوجيا، ويغدو تشظيها هو تشظّ لكل من حولها، إذ لا يتحركون إلا ضمن واقع تخييلي مرتبك وقلِق، وهو ما تقدّمه بنية المرآة التي تتكرر في الرواية، حيث الصور مشروخة متشظية وضبابية..
ولم يفت الناقد عبد الرحمان غانمي أن يشيد بالمستوى الفني والإبداعي للرواية من خلال التوقّع والأثر اللذان يفضيان إلى انخراط القارئ في أجواء النص وتحولاته السردية التي تعكس هذه التمظهرات العميقة.
ومن جهتها فقد تناولت الناقدة دينا نبيل–صاحبة كتاب “بلّورات سردية”- أدب الترانسجندر باعتباره أدب معاناة تجاه الذات وهويتها، مشيرة إلى كونه مغايرا لأدب الشذوذ، وأنه ممتد في الأسطورة الإغريقية، لكنه غير موجود في الأدب العربي. وبهذا فرواية (حابي) هي بذرة أولى على المستوى العربي، يسعى من خلالها الكاتب طالب الرفاعي إلى تتبع اضطراب الهوية الجنسية ومحاولة التصحيح الذي مرّ عبر الاستلاب والمرارة.
ولبناء صور التشظيعلى المستوى السردي فإن الكاتب استند –حسب الناقدة- إلى أربع سياسات أو استراتيجيات روائية هي :
– كسر الطابو اللغوي: من خلال تذبذب استخدام الضمير مما يؤدي إلى التقمص العاطفي الذي يتجاوز التعاطف، وبالتالي يعيش فيه القارئ نفس المعاناة التي يعيشها/تعيشها ريان.
– كسر الطابو الثقافي: أو السرد الماورائي، وذلك لكون الرواية تسير وفق خطين سرديين، خط أساسي تمثّله كتابة ريان الذي يمثّل صوته صوت التحدّي والشذوذ عن المؤسسة الاجتماعية، وخط آخر يمثّل قصة الرواية.
– الجسد باعتباره نصا: أي أنه ليس كتلة صماء، ولكنه يعكس الباطن والهوية، ويتم تقديمه جسدا ذاتيا مقدّسا، يستمد قداسته من خالقه، مقابل الجسد الثقافي الذي يقبل التغيير على مستوى التجميل، ولا يقبله على مستوى التحوّل.
– العنوان المشطور: وتقصد به الناقدة تجزيء العنوان في فصليْ الرواية (حا) و (بي)، إذ ترى فيه تشظيا ووعدا بعدم الاكتمال، ذلك أن قَدَر الشخصية المحورية في نهاية المطاف هو أن تعيش وهي تحتضن الهويتين معا.
إن هذا التشوه، تقرأ فيه دينا نبيل تشوّه المجتمع في تعنّته، أي أنه تشوّه ذو رمزية مقصودة تمتد إلى الفضاء النسقي، وتدفع بالمتحولين إلى تغيير فضاءاتهم قسرا بالرحيل خارج الوطن.
ولم يفت الناقدة أن تعلن دعوتها إلى الاحتفاء بهذا النص باعتباره لبنة أولى في أدب الترانسجندر العربي، متسائلة عن إمكانية إصدار أعمال أخرى في هذا الإطار، ومدى استعداد القارئ العربي لاستقباله.
وفي مداخلة الأديب طالب الرفاعي، تحدث عن مهنة الكتابة وطقوس القراءة والإبداع لديه، مشيرا إلى أن هذه الرواية انطلقت من جملة عابرة التقطها في طقس “الديوانية” في المجتمع الكويتي، تتحدث عن خبر تحوّلِ بنت إلى رجل، وهي جملة دفعته إلى البحث عن الحالة الإنسانية الحقيقية، لإيمانه أن الانفتاح على جزء من العالم الحقيقي هو جوهر الكتابة الإبداعية، ذلك أن الانتقال من الواقع إلى التخييل هو جوهر الرواية عموما.
< متابعة: الحسين والمداني