عرف الكتاب الورقي في السنوات الأخيرة تراجعا ملحوظا وتهاويا واضحا نتيجة تراجع الإقبال على المعارض وتوقف مجموعة من دور النشر عن الاستثمار في هذا المجال، وذلك على الرغم من التقدم المبهر الذي شهدته الطباعة في وقتنا الحالي، من اختصار للوقت، وجودة في الورق، وأناقة في الإخراج والتصميم، وإغراء في المواضيع. ولعل العزوف عن القراءة بصفة عامة، ولدى الشباب بصفة خاصة يُنبئ بانحسار الكتاب الورقي، وتضييق مجال تحركه لصالح الكتاب الإلكتروني عند الفئة المثقفة والعامة من الناس، في مقابل القارئ المتخصص الذي لا مندوحة له عن الكتاب الورقي حيث يُسجل في هامشه الأفكار، ويضع خطا تحت كل فكرة تستهويه حتى يسهل عليه العودة إليها أثناء عملية التوثيق، وهو ما لا يتوفر في الكتاب الإلكتروني الذي تضيع منا فيه الصفحات الرقمية التي نحن في حاجة إليها خلال عملية تقليبها، فينفذ منا الكثير من الوقت، ونصرف جهدا مضاعفا دون أي فائدة نجنيها؛ بل قد ينقطع حبل الأفكار المتواترة التي كنا بصدد تصفيفها وموضعتها داخل الدراسة قيد البحث والكتابة، فنتوقف مكرهين، ونعيد الكرة مرة أخرى مضطرين أو بعبارة أدق مجبرين، عسى أن نحظى بالفوز بما كنا قد اعتبرناه في حيز الموجود والمتوفر في حضن اليد.
إن الكتاب الإلكتروني، بالرغم من مجانيته في الغالب الأعم، وسهولة الحصول عليه، لم ينجح في ربط علاقة آصرة مع القارئ، نظرا لارتباطه بعوامل خارجية وغير آمنة، فعطب في الحاسوب كفيل بضياع مكتبة كاملة، كما أن وضعية الجلوس الثابتة تجعلنا مقيدين في التحرك، هذا ناهيك عن الأضرار الناجمة عن البقاء لساعات طويلة أمام الشاشات وأجهزة القراءة الإلكترونية، وما يترتب عن ذلك من نقص في البصر، وألم في الرأس. قد نتحايل أحيانا على ذلك بطبع هذه الكتب في طابعة البيت لكن النتيجة أنه تتراكم لدينا في المكتبة، مع مرور الوقت، أعداد هائلة من الكتب التي يصعب علينا ترتيبها في مكتباتنا الخاصة، وقد تضيع وسط الكم الكبير من الكتب التي ننسخ فيصير الوصول إليها لحظة البحث عنها مغامرة قد نخرج منها بخفي حنين. بخلاف الكتاب الورقي الذي نهتدي إليه بمجرد الوقوف أمام المكتبة. قد نعهد بالكتاب الإلكتروني إلى بعض المكتبات المتخصصة في نسخ الكتب وإخراجها في صورة طبق الأصل للكتاب الورقي، لكن هذا تدليس ما بعده تدليس. وأغلبنا لا يُقدم على ذلك لأن هذا الفعل قد يؤدي إلى ترويج للكتاب في السوق السوداء، وما ينجم عنه من هدر لحقوق المؤلف والناشر في نفس الآن.
لكن هذا كله لا ينبغي أن يحجب عن أعيننا إيجابيات مهمة للكتاب الإلكتروني. وتتمثل في حصولنا في رمشة عين على موسوعات، ومعاجم ضخمة كان من المستحيل الاطلاع عليها والاستفادة منها في عهد سابق، لأن ذلك يقتضي السفر إلى المدن الكبرى أو الخارج وزيارة كبريات المكتبات. وأنا هنا ألفت انتباه القارئ إلى الموسوعات الخاصة بعلوم معرفية بذاتها، هذا بالإضافة إلى أن أجهزة القراءة الإلكترونية تسمح بالانتقال بين قراءة الكتب، والاستماع إلى نسخها الصوتية عبر خدمات تقدمها بعض الشركات مثل أمازون و”راكوتن كوبو” وغيرهما.. دون إغفال إمكانية الوقوف على معنى أي كلمة أو مصطلح عن طريق الاستعانة بقواميس مدمجة، أو معرفة ترجمتها باللجوء إلى خاصية الترجمة التي تتيحها بعض المواقع الإلكترونية أو الخاصة بالأجهزة نفسها، إلا أن نزول جائحة كورونا واستقرارها بكوكبنا الصغير أسهمت بشكل كبير في تراجع حركية الكتاب الورقي لصالح الكتاب الإلكتروني؛ نظرا للتوقف شبه الكامل لكبريات المعارض، وتراجع نسبة النشر نتيجة إغلاق عدد من دور النشر، وتقاعس الوزارات الوصية عن دورها في تقديم الدعم اللازم. ناهيك عن تباطؤ الملاحة الجوية والبحرية والبرية دون إغفال ارتفاع سعرها. لكن في ظل هذه الظروف المحبطة لا يزال عشاق الكتب يتكفلون بطباعة كتبهم، أو يعهدون بها إلى بعض دور النشر التي تعتبر نشر الكتاب رسالة حضارية ومؤشرا أساسيا في قطار التنمية ووسيلة ممتدة لخلق الجليس المفيد والمغذي للروح والفكر، رافعين شعار التحدي أمام كل المعوقات التي من شأنها أن تقف حاجزا أمام تناقص قيمة الكتاب الورقي أو الكتاب بصفة عامة.
والملاحظ أنه بعد توقف علاقتنا مع ساعي البريد لسنوات طويلة نتيجة طغيان التراسل الإلكتروني في جل المجالات، بدأت علاقة صلة الرحم تتوطد من جديد عن طريق العودة لتأصيل ظاهرة كانت قيد الاندثار، تلك المتمثلة في إرسال الكتب وإهدائها بين المثقفين الذين توصلوا إلى أن الكتاب قيمته تكمن في إمساكه بين اليدين، وفي استنشاق رائحة الورق، وفي مجالسة القارئ، وفي محادثته، وفي الوقوف في حضرته تعبيرا عن الطاعة والامتثال، ضاربين عرض الحائط التكلفة التي ستترتب عن عملية الإرسال، فوجود الكتاب في مكتبة القارئ هو حوار متواصل مهما انقطع اللقاء، ومهما بعُدت المسافات وطال الزمن، قد نقتني عددا كبيرا من الكتب في زيارتنا للمكتبات، قلما نعود إليها في دراساتنا العلمية أو أبحاثنا الأكاديمية، فقد يبقى عدد يسير منها رهن الاعتقال في مكتباتنا الخاصة. فليس كل ما نشتريه نقرأه. غير أن الكتب التي تصلنا من الأصدقاء محملة بالإهداء نجد أنفسنا متلهفين لقراءتها، والاطلاع عليها بكل حب وامتنان، فالمرسل أولا فكر بنا، وثانيا انتقى كلماته بعناية ليزين بها صفحة الكتاب الأولى، وثالثا اقتطع جزءا من وقته وماله ليرسله إلينا إلى عقر دارنا فكان الإهداء ماديا ومعنويا، لعمري كم تحمل هذه الإرسالية من أبعاد نبيلة، إنه أنا القادم إليك، والراغب في مجالستك في رحاب فضائك المؤنس لوحدتك، والمغذي لنهمك المعرفي دون أن تتعب نفسك في استقبالي أو تتكلف بواجب الضيافة…، يكفي أن تفتح دفتي الكتاب لنجلس ونتحدث ونتناقش، لك أن تختار مكان وزمان اللقاء، إن هذه الكتب المرسلة نُقبل عليها بشغف كبير، فبعد الانتهاء من قراءتها نرتبها بعناية في الرفوف الخاصة بالإهداء، إن الكتب التي وصلتنا في ظل الحجر الصحي، والتي لا تزال تحل ضيفة علينا في ظل هذه الجائحة تحمل أكثر من رسالة نبيلة، وتؤسس لتقليد راسخ بين الكتاب والمثقفين كاد أن يندثر مع طغيان الطفرة التكنولوجية، وتعسف الوقت، واستبداد المادة، وتحكم الأنانية. وهنا لنا أن نتساءل: هل الكتب الإلكترونية التي تصلنا كهدايا من أصحابها ومؤلفيها يُمكن أن تؤسس لمثل هذه الثقافة؟ هل نقبل عليها فعلا بنفس الحماس ونفس الشغف؟ أم أنها تأخذنا فقط في جولة سريعة للاطلاع على محتواها، وسرعان ما نُخزنها في مكان ما في ذاكرة الحاسوب؟
< بقلم: دة. كريمة نور عيساوي
*أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات / كلية أصول الدين / جامعة عبد المالك السعدي تطوان المغرب