مدرسة النخب

حدد جلالة الملك في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية ملامح خارطة الطريق التشريعية للمرحلة المقبلة، وأوضح الأهداف والمرجعيات، مشددا على احترام مقتضيات الدستور الجديد في كل تفاصيل السلوك والأداء والعلاقة بين المؤسسات، لكن، من جهة ثانية، كانت لافتة أيضا إشارة جلالة الملك للبرلمان، ليس فقط كمؤسسة تشريعية، وإنما باعتباره «فضاء للحوار البناء، ومدرسة للنخب السياسية بامتياز»، داعيا أعضاءه إلى جعله «فضاء أكثر مصداقية وجاذبية، من شأنه أن يحقق المصالحة مع كل من أصيب بخيبة الأمل في العمل السياسي وجدواه في تدبير الشأن العام». كما توقف المتتبعون، في السياق نفسه، عند دعوة جلالة الملك إلى بلورة مدونة أخلاقية ذات بعد قانوني، تقوم على ترسيخ قيم الوطنية وإيثار الصالح العام، والمسؤولية والنزاهة، والالتزام بالمشاركة الكاملة والفعلية، في جميع أشغال البرلمان..
الخطاب الملكي، إذن، دعا إلى اعتبار السنة التشريعية الجديدة منعطفا تاريخيا حقيقيا، محملا المسؤولية إلى البرلمانيين أنفسهم، أغلبية ومعارضة، وحاثا إياهم على التحلي بما يلزم من الحزم والشجاعة، والقطيعة مع الممارسات المتجاوزة من أجل التطوير الجذري للممارسة البرلمانية.
إن تاريخية اللحظة البرلمانية والسياسية اليوم في بلادنا، لا تفسر فقط بحجم وكثافة الأجندة التشريعية المطروحة، وإنما أيضا بحجم الاختلال والتراجع الذي بات يميز عمل المؤسسة البرلمانية، وهذا ما يفهم من التوجيه الملكي الذي جاء بمثابة صرخة قوية تعلن:
كفى من كل هذا، وتدعو إلى القطيعة مع الممارسات المتجاوزة.
لقد كان البرلمان  في السابق، على كثرة علاته الدستورية والسياسية، منتجا للنخب والزعامات السياسية الوطنية عالية الشأن والقامة، لكنه منذ سنوات توقف عن القيام بهذا الدور، وبات الضعف واضحا في المستويات المميزة لغالبية تركيبته البشرية، وهذا طبعا ليس مسؤولية البرلمان نفسه، وإنما مسؤولية التدبير العام للعمليات الانتخابية، ومسؤولية نسق سياسي عام، وعقلية اصطدمت اليوم بالجدار، لكنها تسببت للبلاد في أن السياسة لم تعد جاذبة للناس، والعمل السياسي صار منفرا، والزعامات السياسية والنخب الحقيقية صارت متواجدة خارج البرلمان والمؤسسات.
إن التذكير الملكي اليوم بكون البرلمان يجب أن  يكون مدرسة للنخب السياسية بامتياز، هو في الواقع دق لناقوس الخطر، ودعوة لإعادة الاعتبار للسياسة، وللعمل على جعل الأحزاب الحقيقية والجادة، أحزابا قوية وذات مصداقية، لأنها هي صمام الأمان الحقيقي في تقدم البلاد واستقرارها ونجاحها الديمقراطي.
وإذا تم احترام التعددية الحزبية الحقيقية والمنتجة، ودعمت الأحزاب ذات الجدية والمصداقية، واحترمت استقلاليتها، ونظمت انتخابات نزيهة بقوانين وإجراءات متقدمة، فإننا سنكون قد ساهمنا في تأهيل حقيقي لمنظومتنا السياسية الوطنية، وبالتالي طورنا تركيبة البرلمان، ما سيؤثر في أدائه، وفي مستوى إنتاجه التشريعي والسياسي، أي أنه سيتحول حقيقة إلى سلطة فعلية، وإلى مدرسة تنتج النخب والزعامات وأطر الدولة، ويكون الفضاء الرئيسي للحوار السياسي الوطني، ولممارسة الديمقراطية وتطويرها.
[email protected]

Top