تاريخ العلاقات المغربية الإفريقية .. الجذور والامتدادات -الحلقة 7-

من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.

أحمد المنصور السعدي

أما فيما يخص العامل الاقتصادي، الذي بالغ البعض في تصنيفه، بعيدا عن ما هو قائم، فمنطق استفادة المغرب منذ الفترات السابقة من الذهب، الذي كان يوجد في أكثر من موضع، وأنتجته غانة بصفة خاصة، كان حاضرا، لكن ليس بالمنظور التي تهوله بعض الدراسات. فالمغرب كانت له صلات مع عدد من الممالك الإفريقية في مجال تجارته، وكان يقوم بدور الوسيط في المبادلات التجارية القائمة عليه. بل إن معدن الملح، كان بدوره خاضعا لسيطرة المغرب، فمعظم الممالح تقع في جهات غير سودانية، تناوب المغرب وممالك السودان السيادة والإشراف عليها.
أما تجارة العبيد، فإنها بدورها ظلت في حدود ما هو مألوف في التجارة العادية، التي كانت تقوم في حوض المتوسط منذ فجر التاريخ. وإن كان المنصور قد أعلن صراحة أن هدفه من نيل موارد السودان هو القيام بمشروعه الجهادي ضد الأورييبن، حيث قال في رسالة بعثها إلى السلطان العثماني ” وهدفنا الأخذ بمخانق من جاورنا من فئة التثليث وعبدة الصليب”. وفي رسالة أخرى إلى السلطان العثماني مراد الثالث يقول : ” …، مواصلة البكر والآصال …، لإقامة فريضة الجهاد …، فنحن بحمد الله دائما في الأهبة له والاستعداد، وارتباط الصافنات الجياد لإرهاب أعداء الله أهل الكفر والعناد” .
لقد كان أحمد المنصور يهدف في سياسته العامة، إلى جعل المغرب في مقدمة القوى السياسية القائمة آن ذاك، وذلك عن طريق تحقيق ثلاث أهداف إستراتيجية. أولها محاولة استعادة الأراضي الإسبانية، ومن ثمة حاول كسب دعم العثمانيين في البداية، ثم البريطانيين، والهولنديين، لكنه فشل في ذلك بحكم قوة التحالفات الأوربية، وعدم مصداقية تعاونهم. فحاول من جانب آخر الاستيلاء على المستعمرات الإسبانية في الهند وجزر الهند الغربية والشرقية، حيث صمم العزم على إعادة الحكم المغربي إليها، وخاصة منها جزر الكناري التي كان يعتبرها تدخل في المجال الترابي المغربي. لكنه اصطدم بتخاذل البريطانيين. بينما الهدف الثالث، تمثل في مداهمة امبراطورية سنغاي، وضمها إلى المغرب بعد أن ألحق امبراطورية كانم بورنو عن طريق البيعة العامة بالدولة المغربية الشريفة. كل ذلك يصب في مفهوم خاص، يتمثل في الحيلولة دون تطويق المغرب، ومن ثمة ينطبق على ما عبر عنه أحد الدارسين “بتقليم مخلبي القط” في شرق السودان، حيث لا يبتعد الأتراك كثيرا، وغربه حيث البرتغاليون. ومن ثمة دفن الأطماع التركية والبرتغالية إلى الأبد. فاستصدر فتوى من العالم محمد العربي الفاسي، صاحب كتاب مرآة المحاسن حول جهاد العدو من قرب أماكن تواجده، تعطي للمنصور الحق في القيام بالحملة، وتجعل من واجبه أن يحتل بلاد السودان الإسلامية، وأن يبقى فيها ما دام الخطر يتهددها. وإذا لم يفعل فهو في محل عصيان أوامر الله سبحانه وتعالى، وتقول هذه الفتوى وفق ما جاء في كتاب “الجواهر المختارة” لعبد العزيز الزياني “الجهاد فرض عين على من نزل العدو به أو قريبا منه من أهل مدينة أو غيرها، إذا علم أنه يجب علينا أن ندافعهم عن الاستيلاء على وطن من أوطان المسلمين قبل استيلائهم عليه، وعلة وجوبه قبل الاستيلاء موجودة بالأحروية بعد الاستيلاء، ولم يختلف الناس في بقاء الحكم مع بقاء العلة، وإنما اختلفوا في بقائه مع زوال العلة، ولا يتوهم متوهم أن ترك المسلمين مدائن المسلمين في أيدي الكفرة يدل على عدم الوجوب. لأن ذلك من تقصير الملوك . وهم بذلك في محل العصيان لا في محل الاقتداء بهم والاستنان”.
لقد تطلبت الحملة عددا من المعطيات اللوجيستيكية والنفسية، منها تمهيد الجسر الطبيعي نحو السودان، عن طريق فتح الصحراء الوسطى والسنغال (1584م) . وتعين خليفة للسلطان ما وراء درعة (الأمير أبو الحسن). مع تجهيز الطريق الغربي (طريق جؤذر) بالمحطات واللوازم. وجمع المعلومات الكافية عن السودان (كتاب الحسن الوزان وصف إفريقيا وما به من خرائط). فضلا عن توثيق الروابط بين أمراء وعلماء السودان والصحراء( الأسر المغربية، المناشيرـ استمالة قاضي تنبوكتو، توطين قبائل مغربية على الطرق). هذا فضلا عن إعداد القيادة العسكرية والتشكيلات المسلحة ضمن ما يعبر عنه بالجيش الجوفي (حوالي 23 ألف جندي)، وتنظيم التداريب النوعية، وتوفير الآلات الحربية، مع ما يلزمها من مؤن وغيرها من موجبات تحركات القوات.
وبعد أن استتب الأمر للدولة السعدية بالسودان مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي، أي ذلك المجال الذي كان تحت سيطرة إمبراطورية السونغاي في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1516 و 1597 ، ويشمل بلاد مالي إلى المحيط الأطلسي، أما في الشرق والشمال فإنها بلغت إلى جبال إير وأكاديس وكبى (كانطا)، وإلى منتصف بلاد الموسى الوثينين في الجنوب، وهو التحديد الذي وضعه السعدي لمملكة السونغاي، كان طبيعيا أن يصبح طابع العلاقات يحمل بعدا قانونيا وتنظيميا خاصا، باعتبار تلك المناطق خاضعة للحكم المغربي المباشر، حيث اعتبر المنصور أن تلك المناطق خاضعة للرابطة القانونية، المبينة على ممارسة واجبات الخلافة الإسلامية. والثاني مرتبط بمفهوم البيعة العامة، ومن تم اعتبار تلك المناطق السودانية، على اختلاف وتنوع الأحكام التي كانت مطبقة فيها، بمثابة إحدى عمالات المغرب، التي تسير وفق موجبات الظهير الخليفي الشريف، وتعليمات السلطان المكتوبة (الأوامر السلطانية)، المنبثقة في الأحكام والتوجيهات من الدين الإسلامي والمذهب السني المالكي.
وقد خضعت التنظيمات الإدارية لتطورات مسترسلة. فبعد سنتين من فتح السودان، أي في العام 1593م، وقع توزيع جديد لإيالات المغرب عامة، حيث أصبحت اثنتي عشر إيالة. فضلا عن وجود قضاة ذوي سلطات نافذة ومستقلة، بل كان هناك قضاء عسكري، ينظر فيما يختص بالجوانب العسكرية. فضلا عن تنظيم البريد ضمن خطوط خاصة، منها : تنمبكتو مراكش، تنمبوكتو ميناء الصويرة، تنبوكنو ديني، تنبوكتو غاو، تنبوكتو أروان، تنبوكتو الجهات البعيدة، وهو نوعان رسمي، وتجاري واجتماعي (كان يطلق على الرسالة في السودان البراوة)، وأصحاب البريد كانوا يتقاضون أجورهم من الإدارة المركزية.
لقد كان دور المغرب فاعلا في الرفع من القيمة البنيوية للنشاط الاقتصادي بالسودان، حيث أحدث تغيرات جذرية في كمية ونوعية الإنتاج، في التصنيع والتجارة. كما ساهمت ظروف الأمن والتنظيم الإداري الجديد والقوانين التجارية، في تطوير ونمو اقتصاديين كبيرين (وحدة إدارية، تزايد إقبال التجار على نقل بضائعهم إلى المغرب، ارتفاع قيمة الذهب، تنظيم الأسواق، ظهور الصناعة التحويلية، نقل بذار ومزروعات جديدة للسودان، تطوير الري، إدخال المكاييل والمقاييس، ظهور المصنوعات النحاسية والحديدية والزجاجية، تطور المنسوجات القطنية والحريرية والعطور، وانتشار الأصبغة والأدوية، والحلي، الملح التبغ، الجلود، الخيول، الكتب، الذهب الملح، ريش النعام، التوابل، الصمغ) وعرفت المرحلة تطورا للطرق البرية والنهرية، الطريق الأول من تالوين، تازاخنت، فم زكيد، درعة، فم الدفلي، مركلا، تندوف. والطريق الثاني من تالوين، طاطا، أقا، فم العشار، تندوف، أروان، تنبوكتو، كابارا . هذا فضلا عن طرق القوافل التي كانت تؤدي من مدن السودان الكبرى إلى القرى والواقعة في الأطراف الجنوبية للصحراء، ومن الشرق إلى الغرب، ( طريق بوريم تبابنكورت، تمبوكتو بوجبيهة نحو أوران في الشرق. كوندام راس الماء، نيتوكني ليرى، وغيرها من الطرق) ، فضلا عن التوفر على النزالات، والنشاط الموازي للنقل النهري على نهر النيجر.
إلى جانب المعطيات السابقة، والتي تبرز قيمة التطور الاقتصادي الذي عرفته بلاد السودان خلال العهد السعدي، فمن الأكيد أن ذلك التطور الاقتصادي، سيواكبه تطور على المستوى الفكري، حيث نشطت الحركة العلمية ببلاد السودان في القرن السادس عشر الميلادي بشكل عام، خاصة على مستوى الشرعيات وعلوم اللغة، والتاريخ والرحلات، والتراجم، والأدب وفن الكتابة. كما تطور الجانب التعليمي بشكل بارز، على مستوى تنوع الإجازات، والكتب والمكتبات (مكتبة تمبكت). فضلا عن انتعاش التصوف والحركة الإصلاحية.
كما كان للحضور السعدي ببلاد السودان، دور مهم على مستوى ملامح المجتمع السوداني (إدخال الحلاقة والكسكس، إدخال وجبة العشاء، الفطور المتكامل، الحلويات مثلا)، وخاصة على مستوى الحواضر الكبرى، تنبوكتو ديني وغاو، وفيما يتعلق باللباس والأطعمة، والفنون والأعياد (طقوس رمضان، عيد الأضحى، عيد المولد النبوي، صلاة الاستسقاء، العقيقة)، وأثاث البيوت، هذا فضلا عن الفن المعماري (إدخال مادة الكلس في البناء، الجير الطبيعي،المسامير الدقيقة،الأبنية ذات الطابقين، النوافذ…).إذا كانت هذه السمات العامة للعلاقات المتينة بين الشمال والجنوب قد وجدت لها امتداد في بلاد السودان، وجعلت من العلاقات المغربية الإفريقية، علاقات تتجاوز الإطار السياسي المحض، نحو البعد الحضاري، فإن طبيعة التحولات التي عرفها المغرب، بعد الحكم السعدي، وتراجع النفوذ المغربي يفتح الباب على مصراعيه للتساؤل عن مدى استمرارية هذه العلاقات، في ظل تصاعد الحركة الاستعمارية، وقوة الفعل العسكري الأوربي تجاه القارة السمراء بشكل عام.

>إعداد: محمد حجيوي

Related posts

Top