من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.
ازدهار العلاقات المغربية الإفريقية في ظل توجهات جلالة الملك محمد السادس
مع اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، وقع تحول جذري في السياسة الخارجية المغربية بشكل عام، تمثل ذالك بالأساس في العودة إلى إفريقيا، حيث صارت إفريقيا في صلب اهتمامات الدبلوماسية المغربية. فقد عبر جلالته عن وعيه التام بصلب المشاكل التي تتخبط فيها القارة الإفريقية، وموجبات تجاوز تلك المعضلات حيث قال جلالته خلال مأدبة العشاء التي أقامها الرئيس السنغالي على شرفه، أثناء زيارته إلى السنغال يوم الأربعاء 23 مايو من العام 2001 “إذا كان من شأن التقدم الذي تم إنجازه في الكثير من البلدان الإفريقية على درب الديمقراطية والنمو الاقتصادي والاجتماعي أن يشكل مبعث ارتياح لنا، فهذا لا ينسينا ما نراه من تزايد مظاهر عدم الاستقرار السياسي، وتكاثر بؤر التوتر في عدد من مناطق القارة الإفريقية. إن هذه الوضعية تشغل بالنا وتؤرقنا، وترهن لأمد طويل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لبلداننا. وقد يصبح من الصعب التحكم فيها، إذا لم يتم وضع آليات حقيقة وفعالة في إطار سياسة متشاور بشأنها، وشجاعة، للتخفيف من عبء الديون، خاصة من خلال تحويلها إلى استثمارات من قبل المجتمع الدولي، وذلك لتمكين الدول الأكثر مديونية من الخروج من دائرة التخلف” .
إن التجسيد القوي والعملي لهذا التوجه لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، جاء بشكل قوي من خلال الزيارات المكثفة، التي قام بها جلالته للعديد من الدول الإفريقية، هذه الزيارات التي يراها مراقبون مغاربة، على أنها ديناميكية جديدة في العلاقات مع هذه الدول.وذلك لكونها أعطت دفعة قوية للتعاون بين المغرب ودول الجنوب، تعاون شكل خياراً إستراتيجياً للمملكة المغربية.
وهكذا تواصلت هذه الزيارات إلى المضي قدماً في سبيل الوصول إلى سلسلة من اتفاقيات التعاون في مجالات التنمية الاقتصادية والتقنية والاجتماعية والثقافية والإنسانية مع عدد من الدول الإفريقية، من قبيل مكافحة الفقر والأمراض، والزراعة والصناعات الغذائية، والصيد التقليدي والتربية وتدبير المياه والري، علاوة على البنى الأساسية، والتهيئة الحضرية وتكنولوجيا الاتصال. وقد عبر جلالته عن هذا التوجه في الرسالة التي وجهها إلى المشاركين في ندوة العالم العربي وإفريقيا…، تحديات الحاضر في 6 أكتوبر من العام 2003، قائلا : “…، لم يفتنا في قمة الجمعية العامة للدورة الحالية أن أعربنا عن التزامنا الثابت بالتضامن الفاعل مع الدول الإفريقية الشقيقة، وتعميق التعاون معها في الميادين السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ومساندة المبادرات الإفريقية البناءة”.
ولم يقتصر الأمر على هذا التوجه فحسب، بل انطلق الاهتمام في مجال العلاقات المغربية الإفريقية، أيضاً بالعنصر البشري، حيث أصر جلالة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة ، على جعل التنمية البشرية عنصراً أساسياً وضرورياً ضمن برامج التعاون مع الدول الأفريقية، من خلال الوكالة المغربية للتعاون الدولي، التي تسعى إلى نشر وتعميم الخبرة والمهارات المغربية لدى كوادر ومؤسسات البلدان الأفريقية الشريكة. وقد ذكر جلالته بهذا المعطى من خلال الرسالة التي وجهها إلى المؤتمر الدولي الخاص برصد التمويل للجامعة الافتراضية الإفريقية المنعقد بمراكش يومي 28و29أبريل في العام 2003، قائلا : ” إن إحداث هذه الجامعة ليستأثر باهتمامنا، لما يعبر عنه من إدراك شعوب إفريقيا، قيادات ونخبا، بأن المصير المشترك لبلدان قارتنا وتقدمها، رهين بمدى عنايتنا بالإنسان الإفريقي، واستثمارنا الأمثل لمواردنا البشرية، وتوفيرنا للمقومات الكفيلة بجعلها ترفع تحديات التنمية المستدامة، وتتدارك تخلفها التاريخي عن الثورة الصناعية، بالانخراط القوي في الثورة الرقمية” .
لقد دأب المغرب على تمتين روابطه مع الدول الإفريقية، ولعب دورا محوريا على مستوى المنظمات الأفريقية الإقليمية، خاصة منها المجموعات الاقتصادية،وتقوية علاقاته بها، بغية زيادة قيمة الاستثمارات والمبادلات التجارية والتقنية وتنويعها، وبالتالي تقوية التعاون مع هذه المجموعات على صعيد القارة الأفريقية. علاوة على الاهتمام بقضايا التنمية في أفريقيا، وخاصة في الدول الأقل تقدماً، وذلك من خلال تنظيم المغرب للملتقيات التي تعالج القضايا ذات الأولوية بالنسبة للقارة الأفريقية. فما فتئ جلالة الملك محمد السادس يذكر بهذه الإستراتيجية التنمية، في مناسبات عدة، حيث صرح في خطابه إلى قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي، الذي احتضنته العاصمة الصينية بكين يومي رابع وخامس نوفمبر من العام 2006، قائلا: “…، نؤكد استعدادنا الكامل لمساعدة الدول الإفريقية، لاسيما الدول والواقعة جنوب الصحراء، في إنجاز مشاريعها التنموية، وكذا العمل سويا مع الصين والدول الإفريقية لإقامة تعاون ثلاثي في إطار الشراكة الصينية الإفريقية الجديدة…، ومن شأن هذا التعاون أن يمكن من نقل التجارب والخبرات التي تتوفر عليها إلى شركائنا الأفارقة في ميادين متعددة، كالفلاحة وتدبير الموارد المائية والبنى التحتية والصيد البحري والصحة وتكوين الأطر، متوخين العمل جنبا إلى جنب مع الصين لتسخير إمكانياتنا التقنية والعلمية ومواردنا البشرية لخدمة أهداف التنمية المستدامة والمندمجة في القارة الإفريقية”.
ووفق هذا النهج، ظلت الدبلوماسية المغربية حريصة دوماً على جعل قضية التنمية في القارة الإفريقية في صلب اهتمامات المجموعة الدولية، وخاصة داخل المنظمات التابعة لهيئة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة.
كما شكل التعاون الثلاثي الأطراف وسيلة متجددة وذات مردودية، فيما يتعلق بنقل الخبرات والمهارات المغربية إلى الدول الإفريقية.وقد عبر عن هذا المنحى جلالة الملك محمد السادس في خطابه الموجه إلى قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي، قائلا:
” إن المغرب، بحكم موقعه الجغرافي المتميز واتفاقيات التبادل الحر المبرمة بينه وبين العديد من الدول ومجموعات من الدول، لقادر على تمكين شركائه الأفارقة من الاستفادة من تجربته في مجال التبادل الحر والمفاوضات ذات الطابع الاقتصادي والمالي”.
تجسيد هذا التعاون تم بفضل التمويلات الثنائية أو المتعددة الأطراف، التي ساعدت في نقل التكنولوجيا صوب الدول الإفريقية، التي هي في حاجة إليها، من أجل تنفيذ برامجها التنموية. فحرصت المملكة المغربية، مع عدد من الممولين – مثل فرنسا وبلجيكا واليابان والاتحاد الأوربي ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، إلى جانب وكالات تنموية أخرى – على تنفيذ مشاريع كبرى في دول أفريقية مثل: البرنامج الخاص بالأمن الغذائي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، والذي ينخرط في تنفيذه خبراء مغاربة منذ سنة 1998.
ويقدم خبرة معترفاً بها في مجالات تدبير المياه وتربية الماشية والصيد التقليدي. فضلاً عن المشروع الذي يجري تنفيذه في دولة النيجر بمشاركة 27 خبير مغربي. ويعتبر نموذجاً واضحاً لمجال التعاون البناء. كما أن هناك مشروعاً مماثلاً في دولة بوركينا فاسو. إلى جانب ذلك، هناك مشروع نموذجي آخر أتاح الفرصة لإرسال 200 مهندس مغربي إلى ثلاث دول أفريقية في منطقة الساحل، يجري تمويله من طرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وفرنسا.
كما يشارك المغرب في إطار علاقاته التنموية مع إفريقيا في المجال الزراعي، وذلك بحكم خبرته المتميزة في مجال البحث الزراعي – في تدريب العديد من التقنيين الأفارقة، وذلك بتعاون مع دول أخرى، مثل فرنسا. وتمثل المراكز الجهوية للتعليم المتخصص في الزراعة المنظمة من طرف معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة نموذجاً لهذا الطراز من التعاون المغربي الإفريقي.
>إعداد: محمد حجيوي