تاريخ العلاقات المغربية الإفريقية .. الجذور والامتدادات -الحلقة 10-

من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.      فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته. في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي. 

التخلص من الاحتلال الأجنبي وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها

 لا يمكن فهم طبيعة العلاقات المغربية الإفريقية في المغرب المستقل، من دون تلمس طبيعة توجهات المملكة المغربية حينها، بقيادة عاهلها المغفور له محمد الخامس. فقد آمن جلالته بعد حصول المغرب على استقلاله، بأن هذا الاستقلال من حق جميع الشعوب الإفريقية، التي كانت لا تزال تحت نير الاحتلال. وأن معركة التحرير في المغرب وفي الدول الإفريقية والعربية والإسلامية التي ابتليت بالاستعمار، هي معركة واحدة. فهدفها هو التخلص من الاحتلال الأجنبي، وتمكين الشعوب من تقرير مصيرها. وضمان سيادتها وكرامتها. فكان أن تجسد هذا المبدأ عمليا في حضور المغفور له محمد الخامس مؤتمر الدول المستقلة بأكرا الذي انعقد بغانا في 15 أبريل من العام 1958، كان بمثابة  ركيزة أولى في بناء أسس الصرح الوحدوي الإفريقي. بل شكل اللبنة الأولى التي تتحدث عن تأسيس منظمة تجمع الدول الإفريقية. يكون هدفها وحدة القارة وشعوبها. وقد ترك للدول المشاركة المجال للتفكير في الكيفية والشكل في إطار تشاركي ووحدوي مستقبلي. كما رفض المؤتمر سياسة التمييز التي يمارسها جنوب إفريقيا، مع تأييد الشعب الجزائري، وكل الشعوب الإفريقية في نضالها من أجل التحرير، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، مع التمسك بمبادئ مؤتمر باندونغ، وقد حضر المؤتمر ممثلون عن ليبيا ومصر والسودان وأثيوبيا وغانا وليبيريا.   بل أقر المؤتمر بمبدأ أساس، أصبح ملزما للشعوب الإفريقية في الوقت الراهن من أجل تحقيق نمائها، ويتمثل في الاهتمام بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية في القارة السمراء. مع العمل على بناء جسور التعاون الثقافي بين الدول الإفريقية، بالتنسيق مع منظمة اليونسكو للتربية والثقافة العلوم. وقد أصبحت هذه المبادئ السمات الرئيسة للمؤتمرات الإفريقية التي تلت هذا المؤتمر. وبهذا حدد المغرب منذ بداية استقلاله توجهاته المحورية في علاقاته بالدول الإفريقية، في إطار جد متقدم، مبني على تشارك وحدوي، وبناء اقتصادي وتنمية ثقافية واجتماعية. هذه الأسس، تم تدعيمها عمليا من خلال بعث المغرب لتجريدة عسكرية في إطار عملية حفظ السلام إلى الجمهورية الكونغولية. وقد عبر المغفور له محمد الخامس في خطابه الموجه إلى الضباط والجنود المتوجهون إليها في يوم 15 يوليوز من العام 1960 عن ذلك التوجه قائلا: “تلبية للنداء الذي وجهته إلينا الجمهورية الكونغولية، واستجابة لطلب منظمة هيئة الأمم المتحدة، قررنا أن يشارك المغرب مع بقية الدول الإفريقية في تكوين قوة إفريقية تتوجه إلى الكونغو لمساعدة حكومتها وللمحافظة على استقلالها ووحدة ترابها”.  لقد جاءت أزمة الكونغو في بداية الستينات لتصبح علامة بارزة في تاريخ النضال والتحرر الإفريقي، حيث أدت هذه الأزمة إلى صراع قوي بين قوى الاستعمار من ناحية، وقوى التحرر الوطني في إفريقيا من ناحية أخرى. فوقف المغرب ممثلا في الملك محمد الخامس آن ذاك، بكل شجاعة ووضوح مع قادة التحرر الإفريقي في ذلك الوقت (الرئيس جمال عبد الناصر، الزعيم الغيني سيكوتوري، والغاني كوامي نكروما، مودبيوكيتا الرئيس المالي)، مساندا لزعيم الاستقلال الكونغولي الوطني باتريس لومومبا، حيث طلب هذا الأخير في 11 يوليو من العام 1960، من الأمم المتحدة إرسال قوة دولية لحفظ القانون والنظام في الكونغو لوقف التدخل البلجيكي. وطلب من أصدقائه في إفريقيا، ومن بينهم الملك محمد الخامس أن يشاركوا في هذه القوة، غير أن الظروف ازدادت تعقيدا  بعد استجابة رئيس الجمهورية كازافوبو للمخططات الاستعمارية. وأصدر قرارا بعزل لوممبا، رئيس الوزراء، زعيم الأغلبية في البرلمان، فأصبحت بالبلاد سلطتان، علاوة على قوة الأمم المتحدة. فجاءت مرة أخرى المبادرة الحكيمة للملك الراحل محمد الخامس رحمه الله،  في الدعوة إلى عقد مؤتمر الدار البيضاء في الفترة الممتدة ما بين 3 و 7 من شهر يناير من العام 1961. والتي عبر عن قيمتها الملك الراحل الحسن الثاني قائلا: “…، ونحن لا نستطيع أخيرا أن ننسى محمد الخامس نفسه، هو الذي كان في أوائل عام 1961، الموحي بمؤتمر الدار البيضاء، الذي انبثقت منه منظمة الوحدة الإفريقية، وهذا قد نص دستورنا في مستهله على أن تحقيق الوحدة الإفريقية هو من المهام الدائمة للأمة المغربية “.  في الواقع فإن مؤتمر الدار البيضاء لم يشكل فحسب دعامة قوية في إطار العلاقات المغربية الإفريقية، بل وضع اللبنة الأساس لبناء صرح الوحدة المؤسساتية الإفريقية، وبالتالي وضعه لركيزة قوية لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية. حيث وقع المجتمعون فيه (نيكروماـ جمال عبد الناصر، سيكوتوري، موديبو كيتا، حماني ديوري، ممثلين عن جبهة التحرري الجزائرية وعن ليبيا) على ميثاق لتنظيم العلاقات فيما بينهم، تضمن أربع مبادئ أساس: – مبدأ الوحدة الإفريقية (الفقرة الأولى من ديباجة الميثاق) – مبدأ عدم الانحياز – مبدأ محاربة الاستعمار القديم والجديد بجميع أشكاله – مبدأ المحافظة على سيادة الدول ووحدة أراضيها، وتحقيق التعاون فيما بينها. وبذلك مثل المؤتمر ترجمة لطموح البلدان الإفريقية في تحقيق وحدة جيو-سياسية واستقلال اقتصادي، مع تجاوز الأوضاع الإفريقية المحتقنة. لقد افرز ميثاق مؤتمر الدار البيضاء عدة لجن، لتنسيق العمل بين الدول، وتحقيق التعاون في جميع المجالات،كما جاء في المواد الأولى من الميثاق، وهي لجنة سياسية إفريقية، ولجنة اقتصادية إفريقية، ولجنة ثقافية إفريقية، وقيادة إفريقية مشتركة عليا، ومكتب اتصال. وفي سياق متصل تم عقد مؤتمر منروفيا، عاصمة ليبيريا في الفترة ما بين 8 و12 مايو من العام 1961، حضرته دول مجموعة البرازافيل  12 إضافة إلى سبع دول (إثيوبيا، ليبيريا، نيجيريا،سيراليون،الصومال،تونس، الطوغو)، وقد اتخذت مجموعة الدار البيضاء خطا معاديا تماما للاستعمار الغربي، بينما اتخذت مجموعة منروفيا خطا معتدلا ومحافظا، وكانت تؤمن باستمرار التعاون مع الدول الغربية.   وبهذا شكل مؤتمر الدار البيضاء آلية إفريقية لتأطير مطالب الشعوب الإفريقية في الوحدة والتنمية والتعاون البناء. وهو ما جعل بطرس غالي يعتبر أن أهم نتائج مؤتمر الدار البيضاء، توقيع القادة التحرريين الخمسة في ميثاق، كان نواة تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية. بل أشاد بدور محمد الخامس رحمه الله في التوفيق بين أعضاء منظمة الدار البيضاء ودوره في الجمع بين إفريقيا العربية وإفريقيا غير عربية، وهذا أمر يحسب للمغرب في مساعيه الدبلوماسية البناءة، وفي مجال علاقاته الإفريقية إلى اليوم. لقد شكلت العلاقات المغربية الإفريقية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، عمق توجه سياسيته الخارجية، إلى جانب توجهات عربية وإسلامية وأوربية، وتأكيدا لهذا التوجه، قال الملك الراحل الحسن الثاني في خطاب له في 8 دجنبر من العام 1973: “…، إن المغرب يقع في ركن الزاوية اليسرى من القارة الإفريقية، وكان له في هذه القارة تاريخ حافل ومجيد، فعليه أن يفكر في سياسته بالنسبة للقارة الإفريقية” . كما أن هذا التوجه يجد تفسيره في تأكيد ديباجة الدستور المغربي على الانتماء الإفريقي للمغرب جاء فيه: ” المملكة المغربية (…)،بصفتها دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية”.    فقد ساهم المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في قيادة عدد من المصالحات داخل القارة السمراء، ومكن العديد من الدول الإفريقية من إتباع المسالك السلمية، لحل جملة من المشاكل التي كانت تعصف بالأمن والسلم الإفريقيين.مع التأكيد على ضرورة تسوية مختلف الخلافات العارضة بالتراضي والاحتكام إلى مفهوم التضامن الإفريقي. كما أن الملك الراحل الحسن الثاني، كان دائما في إطار دعمه للقارة السمراء، وتمتينه لروابط المغرب بها، يدعو المنتظم الدولي إلى ضرورة دعم الدول الإفريقية وتنميتها، هذا المضمون جاء صريحا في كلمة الملك الراحل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ربط بين دفاعه عن القضايا العربية والقضايا الإفريقية، كان ذلك في شتنبر من العام 1983.

>إعداد: محمد حجيوي

Related posts

Top