هل كتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية؟

حلت في شهر ديسمبر الماضي ذكرى ميلاد الأديب العربي الراحل نجيب محفوظ (ولد في 11 ديسمبر 1911)، وعادة ما تشكل ذكرى ولادة الأدباء والمفكرين الراحلين مناسبة سانحة لتجديد التفكير في بعض القضايا والأسئلة المرتبطة بتجربة الكتابة لديهم، وتجديد قراءة ما خلفوه لنا من تراكم أدبي وفكري متنوع .هكذا، إذن، ارتأيت، بهذه المناسبة التذكرية، تجديد التفكير في واحد من أسئلة التلقي التي شغلت النقد الأدبي العربي، بمثل ما شغلت الكتاب أنفسهم، إنه سؤال كتابة نجيب محفوظ لسيرته الذاتية.

 لقد اهتم النقد الأدبي والإعلام الثقافي بمختلف مكوناته، المكتوب والمرئي والمسموع، بمطارحة سؤال كتابة نجيب محفوظ لسيرته الذاتية، وعلى مدى فترات زمنية متفرقة، فبحث النقاد عن عناصر السيرة الذاتية في كتابات نجيب محفوظ الروائية وفي أحاديثه الصحفية الموازية، وذلك قبل صدور كتابه “أصداء السيرة الذاتية” سنة 1995، الذي اعتبره النقاد مجرد “أصداء” فقط، وليس سيرة ذاتية صرفة، بالمفهوم المتعارف عليه لهذا الجنس الأدبي.

وإذا كانت الكتابة السيرذاتية لدى مجموعة من الأدباء والمفكرين العرب، قد تبلور تراكمها النصي وقسماتها الكتابية بالشكل السردي المتداول والمتكامل، فإن الأمر قد يختلف كثيرا عند نجيب محفوظ، ولذلك مبرراته الذاتية والموضوعية وشروطه التاريخية والكتابية…

لقد انشغل النقاد والباحثون والمهتمون بالتجربة الإبداعية لنجيب محفوظ بسؤال الرواية عنده تحديدا، في حين لم يحظ البحث في سؤال السيرة الذاتية بما يستحقه من اهتمام نقدي وتحليلي، باستثناء ما جاء عبارة عن أسئلة موازية وجهت لنجيب محفوظ حول جوانب من الموضوع نفسه، في تركيزها، مثلا، حول سؤاله، وعلى مدى فترات زمنية، عن سبب عدم إقباله على كتابة سيرته الذاتية.

وانطلاقا من أهمية تجربتي الحياة والكتابة وزخمهما واستثنائيتهما عند نجيب محفوظ، بماحققتاه معا من امتداد في الأجيال وفي العالمية، وخصوصا بعد نيل نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب، فقد كان لابد من إعادة طرح سؤال السيرة الذاتية عنده، في ثرائها وامتدادها في مجموعة من الأزمنة والأمكنة والمحطات والتراكمات النصية والمواقف والأجيال، في وقت ما فتئ فيه العالم الأدبي يشهد تزايد الاهتمام بسؤال السيرة الذاتية، كتابة وتنظيرا ونقدا، كما تعددت أساليب الإجابة عنه وتنوعت قنواتها، وذلك إلى حد أصبح فيه هذا السؤال يطرح على مستويات أخرى، خارج نصية، أي كأحاديث واستجوابات مكتوبة وسمعية – بصرية.

وبالعودة إلى كتاب “أنا هي شخص آخر: السيرة الذاتية من الأدب إلى الإعلام” لمؤلفه الباحث فيليب لوجون، أحد أكبر المنظرين الأوربيين للسيرة الذاتية، سنجد أن تنظيراته وتحاليله النصية تسعف كثيرا في مقاربة العديد من التجارب الكتابية والسمعية البصرية، في ارتباطها بالسير الذاتية لبعض كتابنا ومفكرينا، وبالأخص لدى أولئك الذين تحاشوا، لهذا السبب أو ذاك، كتابة سيرهم الذاتية بشكل مباشر وصريح ومكثف، فقاموا بتمريرها عبر قنوات أخرى غير الكتابة السردية المباشرة.

وفي هذا الإطار، نعثر على أكثر من “حدث” و”استجواب” و”كتاب” يرصد التجربة الحياتية والكتابية لنجيب محفوظ، في عديد من محطاتها المتضافرة فيما بينها، موازاة مع مكرورية حضور سؤال السيرة الذاتية على مستوى تجربته السردية، سواء كهاجس إبداعي أو كتفكير نقدي، أي من منطلق كونه سؤالا جوهريا يضع السيرة الذاتية عند نجيب محفوظ في تواز إبداعي مع سؤال الرواية تحديدا، ومع غيرها من الاهتمامات الأخرى الموازية لديه.

والمتتبع لنماذج من “ردود” نجيب محفوظ حول غياب كتابته لسيرته الذاتية (مكتملة)، سيلمس أنها ردود بقيت وفية، في البداية، لموقف كاتبنا الثابت بخصوص سؤال كتابته لسيرته الذاتية، إما بشكل مباشر، أي من خلال تصريحاته بهذا الخصوص، وإما بشكل ضمني، حيث تتسلل الإجابة عن سؤال السيرة الذاتية، داخل هذا الحديث أو ذاك الاستجواب، أو داخل هذا الكتاب أو غيره، باعتبار منحاه السيرذاتي…

هذا الوضع، إذن، يجعل “السرد الذاتي” عند نجيب محفوظ، سواء كان سردا مكتوبا أو شفويا، ذا طعم خاص واستثنائي، حيث إن هذا السرد، بمختلف تمظهراته الكتابية والسمعية – البصرية، قد مر عند كاتبنا بثلاث مراحل أساسية؛ إذ لا يمكن لملمة “سيرة نجيب محفوظ الذاتية”، في اعتقادي، إلا من خلال تتبع مستويات هذه المراحل الثلاث، في امتدادها الزمني وتشابكها الحكائي، فكل مرحلة تكمل الأخرى وتضيف إليها وتضيئها في الآن ذاته.

  • مرحلة الكتابة النصية الضمنية: يمكن أن نقف هنا عند تجلي جوانب أساسية من “السيرة الذاتية الضمنية” لنجيب محفوظ، بالنظر إلى أن مجموعة من عناصر هذه السيرة تبقى متشظية، بشكل أو بآخر، داخل بعض رواياته. ويكفي أن نشير، هنا، إلى “الثلاثية”، وتحديدا ما يخص منها علاقة “نجيب محفوظ” بالشخصية الرئيسة “كمال عبد الجواد”، وهو ما يزكيه نجيب محفوظ نفسه، في قولته الشهيرة: “أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية”، كما يحكي نجيب محفوظ في ثلاثيته وتحديدا في روايته “قصر الشوق”، حسب تصريحه، عن إحدى قصص الحب التي عاشها، وكذلك يستحضر مرحلة طفولته في روايته “حكايات حارتنا”.

أما في رواية “المرايا”، فيستوحي نجيب محفوظ، بشكل ضمني، بعض الملامح العامة من مراحل حياته الثلاث: الطفولة، الشباب، الشيخوخة. وهذا الوضع الكتابي يشترك فيه نجيب محفوظ مع مجموعة من الروائيين، ممن تتخلل كتاباتهم الروائية عناصر من سيرهم الذاتية. وقد يصعب، في هذا السياق، حصر لائحة أسماء هؤلاء ونصوصهم. ومن بين ما يميز هذه المرحلة نصيا، عند نجيب محفوظ، صدور رواية “المرايا”، مع ما استتبع هذا النص من أسئلة لها علاقة مباشرة بسؤال السيرة الذاتية تحديدا.

لماذا رواية “المرايا”، وهي النص الذي لم يحظ باهتمام نقدي كبير بمثل الاهتمام النقدي الذي انفردت به مجموعة كبيرة من روايات نجيب محفوظ الأخرى، بالرغم من الأهمية التي يكشف عنها هذا النص، سواء على مستوى طبيعة مضامينه (حكاياته)، أو من حيث طريقة بنائه النصي والسردي، باعتباره صورا ومرايا.

تعتبر “المرايا” النص السردي البارز الذي يتم تداوله بشكل لافت ومهيمن كلما تمت مطارحة سؤال السيرة الذاتية عند نجيب محفوظ. ويكفي، هنا، الرجوع إلى كتابين أساسيين، عبارة عن أحاديث لنجيب محفوظ حول تجاربه في الحياة والكتابة، لكي نلمس مدى الحضور اللافت لنص “المرايا” على مستوى تمثل الفضاء السير ذاتي لنجيب محفوظ. ويكفي أن نسوق، هنا، مثالين فقط، هما عبارة عن سؤالين متباينين على مستوى المصدر ومتماثلين على مستوى الجواب.

يقول صبري حافظ موجها سؤاله لنجيب محفوظ: “بقي سؤال آخر حول (المرايا). لقد قلت عن هذه الرواية في البداية إنها عمل ذو طبيعة خاصة أقرب إلى السيرة الذاتية الموضوعية. ولكنك عدت بعد ذلك وقلت إنها رواية …” (كتاب: صبري حافظ: نجيب محفوظ، أتحدث إليكم، دار العودة، ط1، بيروت 1977، ص 122).

هذا السؤال نفسه طرحه فؤاد دواره على نجيب محفوظ، في قوله: “لعل حديثنا عن سيرتك الذاتية يتطرق بنا إلى كتاب “المرايا” وإلى أي حد نستطيع أن نعتبره جزءا من سيرتك الذاتية…” (فؤاد دواره، نجيب محفوظ، من القومية إلى العالمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989، ص 254).

وتكاد إجابات نجيب محفوظ تأتي متشابهة، عن السؤالين السابقين، بالرغم من المسافة الزمنية، التي تزيد عن العقد، الفاصلة بين تاريخي هذين الحديثين، ونحن إذ نختار الجواب الثاني عن السؤال الثاني، فذلك فقط لتبيان بعض الجوانب المتصلة بالموقف الذي اتخذه نجيب محفوظ بصدد هذا النص (أي المرايا)، كما في قوله: “الحقيقة أن “المرايا” هي أقرب الأعمال التي بدأت وكأنها تنشد السيرة الذاتية بطريقة ما، وكذلك رواية “حكايات حارتنا” إلى حد ما.. الاثنتان بدأتا كنوع من السيرة الذاتية ثم تغير منهجهما، وسأوضح ذلك.. في “المرايا” أردت أن أكتب سيرة ذاتية من نوع جديد، تستطيع أن تسميها السيرة الموضوعية…” (ص 254).

في تساوق مع هذا التصور الذي ينفرد به نص “المرايا” بخصوص مطارحة سؤال السيرة الذاتية فيه، يمكن البحث في مستويات تمفصل سؤال كتابة السيرة الذاتية عند نجيب محفوظ، من خلال “تصريحاته وأحاديثه”. وهي أحاديث وجدنا أنها قد خضعت بدورها لنوع من التطوير والمراجعة، سواء على مستوى الوعي بأهمية سؤال السيرة الذاتية في مراحل تاريخية وإبداعية معينة، أو على مستوى الإرغامات التي كانت تؤخر، أو بالأحرى تكبل انطلاقة المشروع السير ذاتي عند نجيب محفوظ. ويكفي أن نجتزئ، هنا، ما قاله نجيب محفوظ في أحد تصريحاته، جوابا عن أسئلة صبري حافظ: “والحقيقة أن الترجمة الذاتية بصفتها الصريحة وبصورتها التقليدية المألوفة لم تكن جذابة لي في الطفولة، أو في غيرها من المراحل، ربما بسبب أن هذا الضرب من ضروب الأدب لم يكن ممكنا في بلدنا…”.

ويضيف كاتبنا، في هذا السياق نفسه: “والقيمة الحقيقية لأي سيرة ذاتية تكمن في كونها وثيقة حقيقية، أكثر من كونها عملا أدبيا. إنها تحتاج إلى شجاعة أدبية أكثر من حاجتها إلى موهبة أدبية، ولذلك، فإن قيمتها كوثيقة تعتمد على درجة صدقها…” (أتحدث إليكم، ص 82).

ويستطرد نجيب محفوظ في جوابه عن سؤال آخر لصبري حافظ: “فبعد أن كتبت (المرايا) طالبني كثيرون بكتابة سيرة حقيقية.. لكن، ما الفائدة في كتابة شيء لا يمكن إكماله أو التصريح به. والرجل الذي يستطيع أن يكتب سيرة ذاتية لنفسه لابد أن يكون من نوع الرجال الذين يكتبون مذكرات يومية مثل سعد زغلول (…)

وفي تصوري أن قدرة الإنسان على الخلق غير محدودة، وأن قدرته على التذكر محدودة جدا جدا جدا. وهذه حقيقة لا نعرفها إلا بالتجربة” (المرجع نفسه، ص 83).

وفي سياق آخر، وجوابا عن سؤال طرحه فؤاد دواره على نجيب محفوظ: “لماذا لم تفكر في كتابة سيرة ذاتية حتى اليوم؟”

يجيب نجيب محفوظ: “الحقيقة أن الأصدقاء جعلوا تفكيري في كتابة مثل هذه السيرة الذاتية عسيرا وصعبا، لأنهم في الإذاعة مثلا سجلوا لي نوعا من السيرة الذاتية أذيع على 30 حلقة، فعلوا ذلك مرتين، مرة لصوت العرب، وأخرى للبرنامج العام.. وكذلك أمليت الكثير من هذه السيرة الذاتية للأخ جمال الغيطاني ونشرت في كتاب بعنوان “نجيب محفوظ يتذكر”.

لقد كتبت سيرتي الذاتية ونشرت وأذيعت أكثر من مرة وبأكثر من وسيلة، ولو أنني حين أشرع في كتابتها بنفسي لابد أن أتذكر أشياء لم أقلها هنا ولا هناك. أي حقيقة الأمر أني كلما وجدت موضوعا يصلح لرواية فضلت كتابته على السيرة الذاتية (…).

ويضيف نجيب محفوظ في حديث آخر: “كل ما أستطيع قوله هو أن السيرة الذاتية مازالت لها ضرورتها الذاتية بالرغم من كل ذلك، لأن الواقع الفني غير الواقع الحقيقي (…) لذلك يصح أن تكون سيرتي الذاتية حين أكتبها جديدة بالرغم من كل شيء.. ولكن المسألة أنه ليس من المعقول أن يكشف الإنسان كل ورقه والمائدة مازالت ممتدة أمامه..” (نجيب محفوظ، ضمن كتاب فؤاد دواره، ص 253).

  •  مرحلة صدور كتب موازية تؤرخ لمحطات من سيرة نجيب محفوظ الذاتية: وهو مستوى آخر يعكس جانبا من تجلي سؤال السيرة الذاتية عند كاتبنا، تميزت بصدور كتابه “أصداء السيرة الذاتية”، وإن جاء كتابا “باهتا وشذريا”، ولا يضيف جديدا لسيرة نجيب محفوظ الذاتية، كما تميزت هذه المرحلة بصدور كتب حوارية، لكل من جمال الغيطاني في كتاب “نجيب محفوظ يتذكر”، (أخبار اليوم، القاهرة 1987)، ولأحمد محمد عطية في كتاب “مع نجيب محفوظ” (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1971)، فيما يبقى  كتاب رجاء النقاش “نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته” (مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1998)، من بين أهم الكتب البَعدية التي أعادت “كتابة” سيرة نجيب محفوظ، بدءا بالحديث عن فترة النشأة والطفولة والصبا، وصولا إلى جريمة الاعتداء على كاتبنا، مرورا بمجموعة من المحطات الحياتية والأدبية، بما يوازيها من تمرير لشهادات وآراء لنجيب محفوظ.

من هنا، فإن كتاب “الأصداء” قد يكون جديدا في مادته وفي شكل كتابته، مقارنة بالطرائق التي كتبت بها مجموعة من السير الذاتية المعروفة، غير أنه كتاب يمكن اعتباره، مع ذلك، مجرد “تحية” من نجيب محفوظ لتلك الحياة الاستثنائية التي عاشها، بمسراتها وأحزانها، وتحية، أيضا، لتلك السيرة الغنية بالعطاء والعبقرية والذكريات والنظرات الثاقبة والرؤى الفلسفية. ويكفي هنا أن نجتزئ مقطعا من كتاب “الأصداء”، لكي نلمس فقط ما جاء به الكتاب من إضاءات طفيفة وأصداء تالية لسيرة نجيب محفوظ الذاتية، كما رواها لآخرين. يقول الكاتب/ السارد: “يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة” (أصداء السيرة الذاتية، دار مصر للطباعة، ب.ت، ص 84).

  • مرحلة الاستجوابات السير ذاتية في بعدها السمعي البصري: يعتبر هذا البعد الثالث، الأهم على مستوى تفعيل المشروع السيرذاتي وتحولاته عند نجيب محفوظ، كما مرره عبر “الاستجوابات” السمعية والبصرية التي أجريت معه. وهو مستوى يتحقق فيه المشروع السير ذاتي عند نجيب محفوظ بشكل مختلف ومهيمن هذه المرة، وإن كانت الملامح العامة لهذا المشروع تبقى مرهونة بما يسميه فيليب لوجون بـ “الصوت الذاتي” (autophone).

وهنا لابد من استحضار مثال آخر أساسي يوضح تشكل المشروع السيرذاتي عند نجيب محفوظ، على مستوى الإعلام البصري؛ يتعلق الأمر، هنا، ببرنامج تلفزيوني في خمس حلقات، يترصد حياة نجيب محفوظ، بالصورة والصوت والتذكر.

ففي هذه الخماسية المتلفزة، يتم تتبع المراحل الحياتية الثلاث عند نجيب محفوظ (الطفولة والشباب والكهولة)، وذلك في شكل من التداخلات والتشابكات الزمنية، انطلاقا من عمليتي الاسترجاع والاستباق، وانطلاقا أيضا من المعاينة المباشرة للأمكنة، بحيث تطفو القيمة (الوصفية)، هنا، على القيمة (السردية) بغاية تحقيق نوع من السرد الواقعي المباشر، المرتبط أساسا بالملاحظة والشهادة المباشرة على الأمكنة وعلى المسارات الحياتية والإبداعية التالية: الطفولة، الفضاء العائلي، الأصدقاء، الشباب، الفضاءات الروائية، الفضاء المهني، اللغة، المرأة، الحب، الكتابة، القراءة، أمكنة الكتابة وأزمنتها، الموسيقى، وجهات النظر، النقد، الهواية، الجمهور، الأشرطة السينمائية، الشهادات الغيرية، الرقابة..، وغيرها من السياقات والمكونات التي تنحو بالحكي الذاتي، في الخماسية، منحى شفويا ومرئيا.

يحدث هذا، في وقت كانت فيه الدعوة إلى الكتابة عن الذات وقتئذ قائمة، وتحديدا في تلك الفترة التي كان يوسف السباعي قد وجه فيها الدعوة إلى نجيب محفوظ، وإلى جيله، يلح عليهم على كتابة خواطرهم اليومية على أحد أعمدة جريدة (الأهرام). وهي الدعوة التي تجنب نجيب محفوظ الاستجابة لها والدخول في مغامرتها. وما يشبه دعوة السباعي، يمررها المستجوب لنجيب محفوظ في البرنامج التلفزيوني المذكور، وتتعلق بمدى قيام تفكير لدى كاتبنا في كتابة سيرته الذاتية؟ ويأتي الجواب من نجيب محفوظ بالنفي، مع تركيزه على إمكانية الاكتفاء بتمرير المكون السيرذاتي عبر المكون الشفوي، مذكرا، في هذا الإطار، بكونه سبق له أن سرد بعضا من سيرته شفويا بإذاعة مونت كارلو، وجزءا آخر ساقه في كتاب للغيطاني، وفي آخر لمحمد عطية…

يقول نجيب محفوظ، في سياق آخر شبيه بهذا، مجيبا عن السؤال نفسه الذي ظل يطارده من كاتب لآخر، ومن صحفي لمذيع لمستجوب: “أما فكرة السيرة الذاتية فهي تراودني كسيرة ذاتية وروائية. ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية، وبخاصة وأنني عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين. أحدهما اجتماعي تلفزيوني والآخر ينفت حياة أخرى في “الزمن”.

 وتلك إجابة تبقى قريبة إلى حد ما من إجابة جان بول سارتر، وهو يتحدث عن الأسباب التي تجعل عنده مشروع السيرة الذاتية مستحيلا، فهي عنده “عتامة العلاقات الاجتماعية الراهنة، حيث لم يكن من الممكن أن نقول كل شيء عن ذاتنا: “كأي شخص، عندي إحساس عميق، مظلم، والذي يرفض أن ينقال”، ويضيف سارتر أن الأمر لا يتعلق عنده باللاشعور، لكن بأشياء يعرفها ويحتفظ بها لنفسه.

وإذا كان الجانب الإعلامي في المشروع السير ذاتي لسارتر قد حظي باهتمام لافت وبمتابعة تحليلية مهمة، هي في مستوى سيرته الذاتية، فهو عند نجيب محفوظ لم يقرأ بعد بالشكل اللازم، حيث بقي مشروعه السيرذاتي الكبير رهين كتب، هي عبارة عن أحاديث و”مقاولات للمحادثة” entreprises de conversations، بتعبير فيليب لوجون.

غير أنه إذا كان المشروع السيرذاتي عند سارتر قد بدأ في شكل محكي سيرذاتي مباشر، قدمه سارتر في كتابه “الكلمات” (Les mots) المنشور عام 1963، مع وعد منه بـ “تتمة” لهذا الكتاب، لكنها لم تأت أبدا، مادام أن سارتر، منذ ذلك الحين، كان قد أعلن أن “الكلمات”، كانت بمثابة “وداع للأدب”. إلا أنه، بعد ذلك، ظهرت مجموعة من “الإنتاجات” الموازية في صيغ وتمثلات أخرى مغايرة لكتاب “الكلمات”، سواء تلك التي قدمها ناشره، أو تلك التي قدمها “سارتر نفسه” فجاءت بمثابة تتمة لـــ “الكلمات” (ومن بين تلك الإنتاجات الموازية، نذكر البورتريه الشخصي الذي أعده ميشال كونطا (Michel Contat) عام 1975، وفيلم “سارتر بقلمه” 1972-1976، والأحاديث المانيطوفونية التي تعهدتها سيمون دبوفوار…

إذا كان الأمر كذلك عند سارتر، فيظهر أن المشروع السيرذاتي عند نجيب محفوظ قد بدأ في شكل “عناصر ذاتية” متشظية في بعض نصوصه الروائية وفي إنتاجات أخرى موازية، محايثة لسيرته الذاتية (أحاديثه وحواراته وبرامجه الإذاعية والمتلفزة)، قبل أن تحل مرحلة صدور كتاب “أصداء السيرة الذاتية”، مع أنها مرحلة لم تضف شيئا كثيرا إلى مشروعه السيرذاتي.

ورغم هذا التعثر الذي اعترى كتابة نجيب محفوظ لسيرته الذاتية، على امتداد عقود زمنية مهمة، فيمكن القول إن كاتبنا، رحمه الله، قد تمكن من تنويع مستويات تشييده لسيرته الذاتية واستعادته لملامحها وتصريفه لها، عبر مجموعة من المراحل والقنوات والأساليب، والتي من شأنها مجتمعة أن تجيب عن سؤالنا الأول: هل كتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية؟..

بقلم: د. عبد الرحيم العلام

Top