سجل المهتمون، طيلة شهور حالة الطوارئ الصحية، إصدار الحكومة لعدد من الدوريات والقرارات التي تقيد عمل الجماعات المحلية وتقزم صلاحياتها، وتحد من ممارستها للعديد من أدوارها، وأدى هذا إلى شبه شلل على صعيد برامج التنمية المحلية، وفِي أدوار مؤسسات الديمقراطية المحلية.
من المؤكد أن تدبير حالة طوارئ صحية له إكراهاته العملية والتمويلية والتخطيطية، ويفرض، بالتالي، تسطير أولويات محددة، ولكن الظرفية الصحية والمجتمعية الصعبة كانت تستوجب استثمار الجماعات المحلية والجهات لتطوير الخدمات العمومية الموجهة للساكنة، وأيضا إشراكها في مواجهة تداعيات تفشي الوباء والتخفيف من الصعوبات الميدانية، وذلك بدل جعل كل المبادرات والتحركات والبرامج بين يدي السلطات الإدارية وحدها.
الجماعات المحلية لم تستطع حتى عقد دوراتها واجتماعاتها الدورية العادية، وذلك برغم ما شهدته عديد مدن وأقاليم من إجراءات تخفيف الحجر الصحي وإمكانيات العمل ضمن التدابير الاحترازية المعمول بها، ومن ثم تفاقمت الاختلالات، وتراكمت التأجيلات، وجرى توقيف… الحركة.
اليوم، أضيفت لمبررات حالة الطوارئ الصحية، تخوفات الاستغلال الانتخابوي، وتواصلت دوريات تقييد حركة وعمل الجماعات المحلية، ودخلت هذه الوحدات الترابية التمثيلية، التي يحدد الدستور مرتكزاتها القانونية وصلاحياتها، إلى واقع الجمود و… العدم، وصارت الدوريات الحكومية تقضم شهورا عديدة من عمر الولاية الانتدابية للجماعات الترابية، وتضع اختصاصاتها بين أيدي السلطات الإدارية.
إن الرصيد التاريخي الذي راكمته بلادنا على صعيد الممارسة التمثيلية والديمقراطية المحلية، والتطلع المجتمعي العام لتطوير منظومة الجهوية واللا مركزية، لا يسمح اليوم بكامل هذا السلوك التراجعي، والإصرار على تغييب دور الجماعات المحلية.
أما إذا كان الأمر يتعلق باستغلال انتخابوي أو حزبي أو بتجاوزات ومخالفات ومظاهر فساد، فإن القوانين وجدت لتطبق في حق من يخرق القانون ويتجاوز صلاحياته، ولكن لا يمكن بداعي شبهات الاستغلال أو التجاوز، الإقدام على خطوات إدارية تعيد مسار بلادنا عقودا إلى الوراء.
بلادنا تستعد لخوض عام انتخابي السنة القادمة، وستكون هذه الاستحقاقات المرتقبة محاطة بسياق دقيق، وتلفها تحديات عديدة وأساسية، وعكس ما تذهب إليه الدوريات التي تتهاطل هذه الأيام، فقد كان يجب السعي إلى تمتين عمل الجماعات الترابية وتطويره وتقوية منجزه التنموي على أرض الواقع، وذلك بما يحفز على المشاركة الشعبية، ويوطد ثقة الناس في الديمقراطية التمثيلية المحلية والجهوية، ويطور برامج التنمية المندمجة والحكامة الترابية الجيدة في الواقع الملموس.
هذه الخطوات الإدارية المتتالية في حق الجماعات الترابية، وعلاوة على أنها تعمد إلى سحب صريح لعدد من اختصاصاتها، فهي تمثل مقدمات عملية لعودة وصاية إدارية وسلطوية عتيقة على عملها وتقييد لحركيتها، أي العودة إلى منظومة عمل من زمن سياسي مغربي سابق.
زمن الجائحة وتداعيات تفشي الوباء لا يجب أن يقود بلادنا نحو هذا التراجع، لأن ذلك معناه أننا لم نستوعب أي درس من دروس زمن كورونا، ولكن، بدل ذلك، يجب أن يحفز على تطوير المكتسبات والدفع بها إلى الأمام نحو ديمقراطية محلية وجهوية أكثر متانة وتأهيلًا، وأن نستثمر الظرفية القاسية لتمتين تعبئة شعبنا وتقوية مشاركته السياسية والانتخابية، والثقة فيه والتواصل معه، والسير ببلادنا نحو تعاقد سياسي جديد عبر تفعيل إصلاحات حقيقية يلتف حولها الجميع، وتكرس تعاقدات مجتمعية أخرى على المستوين الاقتصادي والاجتماعي، وتهتم بتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنات والمواطنين على أرض الواقع.
وضمن هذه الرؤية السياسية العامة، يجب منح الجماعات الترابية صلاحيات أقوى، وذلك لتكون، بدورها، من ضمن الرافعات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والصحية ببلادنا لمواجهة تداعيات الجائحة، والمساهمة في بناء مغرب ما بعد كورونا.
<محتات الرقاص