الأحزاب

التذكير باستحالة قيام وتطور البناء الديمقراطي في أي بلد عبر العالم من دون وجود أحزاب قوية ومستقرة وأيضا مستقلة، لا يعدو كونه مجرد تكرار قول بديهي، ويعتبر من صميم مقتضيات الديمقراطية الحديثة، كما أنه ليس هناك من يختلف علنا بهذا الخصوص، بما في ذلك هنا والآن في بلادنا.
لكن واقع الممارسة يفرض الإصرار على التذكير، وتشديد الإمساك بهذا المبدأ مهما كان يبدو بديهيا في الأدبيات أو متفقا عليه من لدن الجميع في القول النظري وفِي التصريح للإعلام وفِي الخطب.
وعليه، فإن ما تحياه هذه الأيام بعض أحزابنا الوطنية العريقة لا يجب أن يسر أحدا يمتلك الحد الأدنى من وضوح النظر ومن الغيرة على مستقبل وطننا ومجتمعنا، وما تعانيه بعض هذه الهيئات من استعصاءات داخلية أو تراجعات إشعاعية أو قوة إعلامية لا يجب أن يواجه بالشماتة والتشفي أو بالتحلل من كل اهتمام بداعي الطبيعة الداخلية والتنظيمية لما يحدث، ولكن يجب أن يحث الجميع على التأمل والتفكير في الوقائع وخلفياتها وارتباط ذلك بمتانة ممارستنا الحزبية الوطنية وديناميكية حقلنا الحزبي وحياتنا الديمقراطية والمؤسساتية.
من المؤكد أن أوضاع بعض أحزابنا الوطنية تطرح اليوم أسئلة وجودية وإستراتيجية على مناضلاتها ومناضليها وأطرها وقيادييها، وتحملهم مسؤولية تاريخية لإعادة امتلاك المبادرة الذاتية وإنتاج توافقات داخلية إيجابية وبانية لمستقبل مختلف، ولكن البلاد برمتها كذلك يواجهها اليوم سؤال حماية التعددية السياسية والحزبية، والحاجة إلى أحزاب وطنية حقيقية تحيى وحدة داخلية واستقرارا تنظيميا وقوة إعلامية وإشعاعا ميدانيا، وكذلك استقلالا في الموقف والقرار، وتمايزا في الأطروحات والتقييمات وزوايا النظر.
هذه الأحزاب الممتلكة لمقومات مصداقيتها، وذات الأصل والتاريخ، هي التي تعكس، فعليا، قوة الدولة والمجتمع، وفي المقابل، ضعفها أو إضعافها هو أيضا إضعاف للدولة والمجتمع ولكامل البنيان السياسي والمؤسساتي للبلاد.
لقد جرى في بلادنا في الماضي تجريب أساليب التضييق والمنع والاعتقال في حق المناضلين السياسيين، ثم تم اللجوء إلى إغراءات التدجين والاختراق، ثم عمدت الدولة، في فترات أخرى، إلى خلق أحزابها وجمعياتها لمواجهة مد الأحزاب الحقيقية ذات التأسيس الطبيعي، لكن كل هذه “الوصفات” لم تجد نفعا، كما أن التفرج على ما تعانيه بعض أحزابنا اليوم أو إشعال نيرانه بطرق مختلفة وافتعال التشهير والشماتة والسخرية حواليها، كل ذلك أيضا لن ينفع في شيء، وإنما سيفضي إلى العكس تماما، أي إلى تجريد وطننا من صمامات أمانه الحقيقية، وسيترك البلاد عارية من دون وسائط مجتمعية وسياسية تتوفر لها الشرعية والمصداقية.
هذه الأحزاب مهما نالت منها اليوم إكراهات الوقت، ومهما أضعفتها أخطاؤها الذاتية وتحولات السوسيولوجيا الانتخابية، فهي تبقى القادرة على حمل البلد والدفاع عن قضاياه والتعبير عن انشغالات الناس والنزول لديهم في الميدان للتفاعل والحوار معهم، أما الهيئات الطارئة أو الوافدة أو المصطنعة عسفا، فقد تجلى عقمها في أكثر من مناسبة  أو استحقاق خلال السنوات الأخيرة، ومهما تغيرت ألوانها ورموزها ووجوهها، فهي لن تقود وقتنا المغربي سوى نحو الضياع وفِي اتجاه… “الحيط”.
الخلاصة إذن هي أن ما تحياه بعض أحزابنا الوطنية العريقة ليس من مصلحة بلادنا ومستقبلها الديمقراطي، وواهم من يعتقد أنه بإضعاف القوى الوطنية الديمقراطية التاريخية وذات الأصل والمصداقية سيبني هو مجده أو بروزه الانتخابي، كما أنه مخطئ من يعتقد أن التعبئة السياسية ومواجهة تحديات البلاد يمكن أن تتما عبر تجميع عناصر مصلحية ولوبيات نفعية والرمي بها في الساحة من دون شرعية الناس ومن دون رصيد التاريخ ومصداقية الفكر والانتماء.
إن إنجاح الدينامية السياسية والديمقراطية لبلادنا يتطلب، ضرورة ووجوبا، صيانة التعددية السياسية والحزبية والإعلامية والجمعوية، ووجود أحزاب قوية ومستقرة وموحدة وذات تاريخ ومصداقية.

محتات الرقاص

[email protected]

الوسوم

Related posts

Top