الأسرة بين الأمس واليوم

تعتبر الأسرة اتحادا ذا طبيعة أخلاقية، لأن المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع، في نظر أوغست كونت، إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية، ولا شك أن الميل المتبادل بين الزوجين والعطف المتبادل بينهما من جهة والأبناء من جهة أخرى والمشاركات الوجدانية الموجودة بين أفراد هذا المجتمع الصغير في تربية الأطفال والنزعة الدينية التي يغرسها الأبوان في أولادهم والحقوق والواجبات المترتبة لكل عضو في الأسرة قبل العضو الآخر، كل هذه الأمور ترجع في طبيعتها إلى وظيفة الأسرة الأخلاقية.

لقد تعددت الدراسات والأبحاث حول الأسرة، منطلقة في معظمها من وصف حياتها وتحديد مفاهيمها ووظائفها داخل المجتمع، حيث اجتمعت مختلف هذه الدراسات على كون الأسرة تنظيما اجتماعيا، لها سلطة على أفرادها إذ تتحكم في سلوكهم اليومي وفي روابطهم الاجتماعية، كما توجه كل اختياراتهم، بل تحكم وتحدد مصيرهم الاقتصادي، إلى جانب ذلك اهتمت دراسات أخرى بالأسرة كخلية اجتماعية تقوم بالإنجاب وتزويد المجتمع بالأفراد.
لقد ساعد ظهور علم الاجتماع الأسري، على جعل الأسرة موضوعا خاصا موضحا كل وظائفها وأدوارها.. كما ساهمت النظريات الاجتماعية التي تناولت الموضوع في تحليل وإغناء موضوع الأسرة.
ساعد ظهور علم الاجتماع الأسري أيضا على تحول اهتمام الباحثين من القضايا التاريخية للأسرة إلى تناول مجالات قوتها وأسباب وعوامل تفككها وعلاقاتها بنظام القرابة، فبروز علم الاجتماع العام إنما هو تطور فرضه تشعب الحياة الاجتماعية، كما فرضه تعدد وتنوع القضايا المعاصرة للأسرة، أدى إلى فهم الأحداث والوقائع الأسرية في إطار هذا التخصص، وقد ساهم هذا التنوع والتباين في مقاربة الأسرة في تشخيص أوضاعها، كما أعطى دفعة في تنوع نظريات علم الاجتماع الأسري، إذ لم تعد النظرية أو المقاربة الوظيفية وحدها المسيطرة والمفسرة لقضايا الأسرة، بل ظهرت إلى جانب ذلك البنيوية والتفاعلية الرمزية والمقاربة التنموية..

تعريف الأسرة

يمكن تعريف الأسرة الإنسانية، أنها جماعة اجتماعية وبيولوجيا نظامية تتكون من رجل وامرأة، {يقوم بينهما رابطة زواجية مقررة} وأبنائهما.
ومن أهم الوظائف التي تقوم بها هذه الجماعة، إشباع الحاجات العاطفية، وممارسة العلاقات الجنسية، وتهيئة المناخ الاجتماعي والثقافي الملائم لرعاية وتنشئة، وتوجه الأبناء.
ويلاحظ أن الجماعة التي تتكون على الأساس السابق وتمارس هذه الوظائف تختلف في بنائها اختلافا واضحا، ومن ثم يتعين عند تعريف الأسرة أن يتضمن التعريف الإشارة إلى النماذج المحتملة لهذه الجماعة.
• وتتألف الأسرة البسيطة الإنسانية البيولوجية العامة من الآباء وأبنائهم، وقد تشتمل الأسرة البسيطة أبناء بالتبني الرسمي ويطلق على هذا الشكل مصطلح الأسرة النووية أو الأسرة المباشرة أو البيولوجية أو الأسرة الأولية أو الأسرة المحددة. يتفق معظم العلماء على أن هذا الشكل البسيط للأسر منتشر في كافة المجتمعات.
ويقوم هذا النموذج من نماذج أسر أخرى متعددة كالأسرة النووية والأسرة الممتدة الزواجية التي تتكون عن طريق إضافة أزواج آخرين {زواج الإخوة من امرأة واحدة البوليجامي}
وقد واجه علماء الاجتماع صعوبة بالغة من معالجة الأسرة نظرا لأنها تخلط بين سمات بيولوجية عامة لدى البشر، وسمات أخرى عديدة.
فنجد مثلا هناك من عرف الأسرة قائلا: “إن الأسرة جماعة تعرف على أساس العلاقات الجنسية المستمرة على نحو يسمح بإنجاب الأطفال ورعايتهم، غير أن هذه المحاولة للتوصل إلى تعريف ينطبق انطباقا عاما، تعتمد أساسا على الأهمية الاجتماعية لإحدى الوظائف البيولوجية الأساسية، ومن ثم فهي تتجاهل طائفة كبيرة من الجوانب الثقافية الكامنة في الأسرة، غير أن هناك من اهتم بالعامل البيولوجي، إلا أنه يؤكد مدخلا تاريخيا هاما في علم الاجتماع وهو الطابع النظمي الذي تتخذه الأسرة لما تؤديه من وظائف مجتمعية هامة. إن المدخل يعد ضروريا لدراسة الأسرة، إلا أنه يتعذر استخدامه كأساس وحيد لتعريفها لأنه يتجاهل العديد من الوظائف الشخصية للأسرة ونتيجة ذلك، يتحدث علماء الاجتماع في الوقت الحاضر عن التحول الذي طرأ على نظام الأسرة، حين تتجه إلى أن تصبح نوعا من الرابطة أو التفاعل المستمر بين بعض الأشخاص أو ما يسمى “بالمرافقة”.
لكن هذه النظرة أيضا تغفل أهمية الأسرة كجماعة إنسانية عامة.
ومجد روبرت لوي R .N LOWIE يكتب عن الأسرة قائلا: “إن الأسرة هي الوحدة الاجتماعية القائمة على الزواج”، أي أنه يجعل من الأسرة ظاهرة ثقافية خالصة، على حين أنه يلاحظ عند باقي الباحثين أنهم يصفون الأسرة بأنها “جماعة اجتماعية تربط بين أعضائها روابط القرابة”.
ويحتاج هذا التعريف بالطبع إلى تحديد معنى القرابة أو روابط القرابة، حتى يمكن إدخال الزوجين ضمن الأسرة، وهكذا نلاحظ أن أي تعريف مقبول للأسرة يجب أن يأخذ في الاعتبار كلا من الجانب الثقافي والبيولوجي، ويحسب حسابا للخصائص النظمية والشخصية على السواء.
ويحاول باقي الباحثين أن يحدد أهم خصائص الأسرة من خلال وضعها في الإطار البيولوجي الثقافي الملائم، فهي:
• أولا تتميز بوجود رابطة زواجية بين عضوين على الأقل من جنسين مختلفين.
• ثانيا: تعترف ببعض صلات الدم التي تنبني عليها مصطلحات القرابة والتزاماتها.
• ثالثا: تشير إلى شكل معين من أشكال الإقامة.
• رابعا: تقوم على مجموعة وظائف شخصية ومجتمعية تمارسها الأسرة.
ويعرف بيرجرس E.W BURGESS ولوك H.J.LOCKE الأسرة في كتابهما الأسرة بأنها: “جماعة من الأشخاص يرتبطون بروابط الزواج والدم أو التبني ويعيشون معيشة واحدة، ويتفاعل كل مع الآخر في حدود أدوار الزوج والزوجة، الأم والأب، الأخ والأخت، ويشكلون ثقافة مشتركة”.
وتعرف الأسرة النواة بأنها، جماعة صغيرة تتكون من زوج وزوجة وأبناء غير بالغين وتقوم كوحدة مستقلة عن باقي المجتمع المحلي.
ويعتبر هذا الشكل الخاص من أشكال الأسرة من أهم خصائص المجتمع الصناعي الحديث، لأنه يعبر عن الفردية التي تنعكس في حقوق الملكية والأفكار والقوانين الاجتماعية العامة في السعادة والإشباع الفردي، كما يعبر أيضا عن عمليات التنقل الاجتماعي والجغرافي في هذا المجتمع.
وتعد الأسرة النواة ظاهرة بارزة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، لأنها تعتمد في تماسكها على الجذب الجنسي والصداقة التي تقوم بين الزوج والزوجة، وبين الآباء والأبناء، غير أنه سرعان ما تضعف الروابط الأسرية عندما تكبر، سواء من خلال تأثير جماعات الأصدقاء، أو نتيجة لعمليات التنقل الاجتماعي والجغرافي.

الأسرة تنظيم جماعي

تعتبر جماعة ذات تنظيم داخلي خاص، كما أنها وحدة في التنظيم العام للمجتمع، وعلى حين أننا نستطيع أن نبدأ بدراسة بعض مظاهر التنظيم الداخلي للأسرة، إلا أن العلاقات التي تتميز بها والعمليات التي تجري فيها لا يمكن تفهمها إلا إذا اعتبرناها انعكاسا لموقف الأسرة كجزء متفاعل في مجتمع معين.
وهناك تقسيمات متعددة للأسرة من بينها:
* أسرة نواة
نموذج أسري يتميز أعضاؤه بدرجة عالية من الفردية والتحرر الواضح من الضبط الأسري، مما يترتب عليه أن تعلو مصلحة الفرد على مصالح الأسرة ككل.
وتمتاز الأسرة النواة بصغر حجمها، حيث تتكون عادة من زوج وزوجة وأبنائهما غير المتزوجين ولا يحدث إلا نادرا وفي ظل ظروف استثنائية أن يعيش أحد الأبناء المتزوجين مع والدهم. ويرى كثير من الباحثين في علم الاجتماع الحضري أن هذا النموذج من الأسرة هو الذي يتزايد انتشاره في المجتمعات الحضرية.
* أسرة زواجية
أحد نماذج التنظيم الأسري الذي تكون العلاقات الأساسية فيه قائمة على محور العلاقة بين الزوج والزوجة أكثر من قيامها على العلاقات الدموية وتقوم بالأدوار الهامة في هذا النموذج، الزوج والزوجة وأبناؤهما غير المتزوجين وإذا ضمّت الأسرة أقارب آخرين فإن دورهم يكون سطحيا وثانويا ولا تشكل الأسرة في هذه الحالة أو تتحول إلى أسرة ممتدة.
* أسرة المرافقة {الرفقة}
الأسرة التي يقوم السلوك فيها على العاطفة والاتفاق المتبادلين بين الأعضاء، وقد وصفها كل من “أونست بيرجيس F.W BURGESS ” و”هارفي لوك H.J LOCKE ” بأنها نموذج مجرد أو نمط مثالي في مقابل النمط المثالي للأسرة النظامية.
وقد ارتبط ظهور أسرة الرفقة بانهيار الاقتصاد التقليدي، واختفاء الوظائف التربوية والدينية والترفيهية التي كانت تقوم بها الأسرة التقليدية وتلاشت معها علاقات الحوار والمظاهر التقليدية الأخرى التي كانت تشكل أحد مصادر الضبط غير الرسمي وخصوصا في المدينة الحديثة. ويرى كثير من دارسي الأسرة في الوقت الحاضر وخاصة في المجتمعات الغربية أن تبادل العواطف أصبح يمثل وظيفة جوهرية لأسرة اليوم ومصدر شامل لضبط سلوك أعضائها.
* أسرة مركبة
نموذج أسري يصاحب نظام تعدد الزوجات أو تعدد الأزواج حيث تحدد أسرتان نوويتان أو أكثر عن طريق الزوج المشترك أو الزوجة المشتركة.
* أسرة قرابية {دموية}
أحد نماذج التنظيم الأسري الذي ينصب التأكيد الأساسي فيه على روابط الدم بين الزوج والزوجة. ومعنى هذا أن علاقات القرابة الدموية تعلو على علاقة الزوجية وتشكل الأسرة القرابية أو تتحول عادة إلى أسرة ممتدة يعيش في نطاقها جيلان أو ثلاثة.
* أسرة التوجيه
وتسمى أيضا المولد وهي تشير إلى الأسرة النووية التي ولد وتربى فيها الفرد.
* أسرة زواجية
وتسمى أيضا أسرة التناسل وهي أسرة نووية يكونها الفرد بالزواج وإنجاب الأطفال.
* الأسرة المشتركة المتصلة
يستخدم هذا المصطلح بنفس المعنى الذي يستخدم به مصطلح الأسرة الممتدة كما أنه يستخدم لوصف أشكال معينة من الأسرة الممتدة. ويدل بهذا المعنى الآخر أحيانا على أشكال الأسرة الممتدة التي تتكون من أسر نووية ترتبط فيما بينها بروابط القرابة، والزوج {كالأخوة والأخوات المتزوجين وأسرهم…} أو يدل على ترتيبات أخرى خاصة ناتجة عن ترابط عدة أسر نووية.

الأهمية النظرية لدراسة الأسرة

تعتبر الأسرة الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاتها الأولية وتتكون من أفراد تربط بينهم صلة القرابة والرحم، يساهمون في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية والروحية والعقائدية والاقتصادية ولما كانت الأسرة بهذه الأهمية والانتشار والأدوار المتعددة المتطورة والمتغيرة التي سبقت دور الدولة في تأمين الاحتياجات العاطفية والمادية والمعنوية للأفراد، فإنه يمكن القول بأن أفضل السبل نحو بناء المجتمع هو البدء من اللبنة الأولى والأهم في البناء الاجتماعي والاقتصادي والإنساني ألا وهي الأسرة.
ونظرا للأهمية البالغة، والمكانة الرفيعة التي تحتلها الأسرة في المجتمع البشري، فقد كانت ولا تزال محط اهتمام الكتاب والباحثين، والذين أولوا جل اهتمامهم للأسرة وقضاياها، وحل المشاكل التي من شأنها أن تقف حاجزا في طريق الأسرة لتحل بينها وبين الهدف الذي تروم الوصول إليه. فالأسرة هي إحدى العوامل الأثيرة في بناء الكيان الإنساني، وتسهيل عملية التطبيع الاجتماعي ولقد تعددت الدراسات والأبحاث حول الأسرة منطلقة في معظمها من وصف طبيعتها وتحديد مفاهيمها ووظائفها داخل المجتمع، واجتمعت جل الدراسات على كون الأسرة تنظيما اجتماعيا، له سلطة على أفراده إذ يتحكم في سلوكهم اليومي وفي روابطهم الاجتماعية، كما يوجه كل اختياراتهم، بل يحكم ويحدد مصيرهم الاقتصادي، إلى جانب ذلك اهتمت دراسات أخرى بالأسرة كخلية اجتماعية تقوم بالإنجاب وتزويد المجتمع بالأفراد.
والنقطة الأساسية التي تثير اهتمامنا هنا أن علم الاجتماع هو العلم الذي يتميز عن غيره في دراسة الأسرة في حد ذاتها وذلك بتحليل بنائها وعملياتها والنظر إليها كجماعة إنسانية في الوقت الذي يركز على دراسة التفاعل الجمعي الذي هو بمثابة الجوهر الحقيقي للحياة الأسرية، مما يؤيد الاتجاه السوسيولوجي في دراسة الأسرة، وجدير بالذكر أن علم الاجتماع الأسري، جعل الأسرة موضوعا خاصا له، ساهمت النظريات الاجتماعية التي تناولته في تحليل وإغناء موضوع الأسرة، فتحول بذلك اهتمام الباحثين من القضايا التاريخية للأسرة، إلى تناول مجالات قوتها، وأسباب وعوامل تفهمها، وعلاقاتها بنظام القرابة مما أسهم في فهم الأحداث والوقائع الأسرية في إطار هذا التخصص وقد ساهم هذا التنوع والتباين في مقاربة الأسرة وتطوير دراساتها، وفي تشخيص أوضاعها، كما أعطى دفعة في تنوع نظريات علم الاجتماع الأسري، إذ لم تعد النظرية أو المقاربة الوظيفية وحدها المسيطرة والمفسرة لقضية الأسرة، بل ظهرت إلى جانب ذلك اهتمامات ودراسات أخرى بالأسرة كخلية اجتماعية تقوم بالإنجاب وتزويد المجتمع بالأفراد.

الأسرة والتحليل السوسيولوجي

حسب علماء الاجتماع سواء كانوا من أنصار النظرية البنيوية أو الوظيفية مع “دور كهايم” فإن العائلة هي عبارة عن مجموعة اجتماعية داخل نسق اجتماعي.
فبالنسبة “لدور كهايم”، العائلة هي نتاج لتنظيم اجتماعي وفي نفس الوقت يقول، “كلود ليفي شتراوس” في كتابه: ” la structure alimentant de parantaine” فلأن كل مجتمع يؤسس على التبادل فقد كان من الضروري بسط فكرة زنى المحارم على كل المجتمعات حتى البدائية منها، فلما نمنع الزواج الفردي من العائلة القريبة يجعل هذا الفرج جاهزا لزواج من عائلة بعيدة أو مجموعة حتى يتسنى للمجتمعات بقيام علاقات تصاهر وبالتالي الحصول على السلام والدخول في علاقات نسبية ترغم أعضاءها على التعامل والتضامن.. ومن جهة أخرى يدافع عالم الاجتماع الوظيفي “بار سوس” عن الفكرة القائلة إن التطور الذي شهدته العائلة النووية كان نتيجة التطور الاقتصادي للمجتمع المعاصر. وهذا مما نتج عن صعوبة العيش داخل ما كان يسمى العائلة الموسعة كما أنه تحدث عن علاقة التحول الظاهرة بين التطور الوظيفي للأسر وتطور المجتمع بشكل عام، فعلى المستوى الاقتصادي فالعائلة لم تعد مركزا للإنتاج، ومنذ صعود وظيفة المأجورين صارت العائلة مجرد وحدة استهلاكية، فلما كانت حماية الأفراد اختصاص العائلة صارت تلبي هذه الاختصاصات من طرف الدولة، {مؤسسات التأمين}.

الأسرة بين التقليد والتحديث

العائلة متغيرة في المجال والمكان وكذلك أشكالها في الزمن. ففي العصر الوسيط مثلا في زمن لا يحتاج الأشخاص فيه إلا للحماية والأمان خوفا من الغزوات والحروب وعليه كانت الهيمنة للعائلة الأصيلة أو الموسعة أو العشيرة المتكونة من أجداد والزوجة والأولاد، أما في الحاضر فرغم الحضور الدائم للعائلة لكنها منافسة لبنيات عائلة جديدة التي بدأت نتيجة العزوف عن الزواج والتنامي الذي حصل نتيجة موضوع الطلاق فعوضته العائلة القانونية بحل السكن بين الرجل والمرأة أو الأب يعيش وحيدا مع أبنائه العازبين.
وتتكون الأسرة النووية من زوجين وأولادهما ويعيشون تحت سقف واحد، هذا ما يميز مجتمعنا الحالي ولا يجب خلطها مع القرابة حيث يضم أفرادها تحت سقف واحد لا تجمعهم أية علاقة زوجية.
وعلى هذا الاعتبار فالعائلة ليست ظاهرة بيولوجية فقط، لأن العائلة لها وظائف اجتماعية عدة.
فالمجتمعات هي مكان للتوالد البيولوجي ومكان للعلاقات العاطفية والتضامن. ومكان للنشأة،{التدرب اللغوي وتعلم العلاقات مع الآخرين} وهي مكان تمارس فيه عدة نشاطات اقتصادية.

التغيرات التي طرأت على الأسرة

وغني عن البيان أن التكنولوجيا أسست واقعا حقيقيا في حياة الإنسان والمجتمع، كونها تمارس أدوارًا مهمة وأساسية اجتماعية واقتصادية وتقنية وتدخل ضمن الأدوات والمقتنيات التي يتطلب الفرد والجماعة استهلاكها اليومي ومن ثمة باتت تؤثر داخليا وخارجيا على الأسرة وتساهم في التغير الاجتماعي، وما من شك أن تأكيد النظرة التكاملية إلى بناء الأسرة أو إلى وظائفها يؤدي إلى القول بأن تأثير التكنولوجيا عندما تتجاهل جزء أو وظيفة من وظائف الأسرة فإنه خليق بأن يؤثر في الأجزاء أو الوظائف الأخرى عن طريق التتابع أو الانتشار.
ولقد أرجع كثير من العلماء والباحثين التغير الذي طرأ على الأسرة جراء التضييع المطرد، حيث يرى ماركس أن أثر التصنيع على الأسرة يكون هداما ويؤدي بها إلى التفكك والانهيار، مما أدى إلى انقسام الأسرة الممتدة وبروز نمط الأسرة النووية التي أصبحت تحدد في الوالدين والأبناء. كما أن سرعة التصنيع والفحص الذي عرفته شعوب كثيرة وخاصة إبان القرن التاسع عشر مما أدى إلى هجرة أعداد كثيرة من السكان القرويين ونتج عن ذلك تفكك الأسر الممتدة الفقيرة التي لا تستطيع أن تتحمل تيار التصنيع الجارف، بينما تتمكن الأسر الغنية من الحفاظ على امتدادها عبر تسخير السياسة والإيديولوجيا للمحافظة على الأوضاع الاقتصادية، محاولة بذلك أن تحمي مصالحها من كل تدخل قد يضر بهذه الأخيرة، ويمكن أن نحدد بعضا من تأثيرات التكنولوجيا وحركة التصنيع على الأسرة فيما يلي:
انتقال المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي يهدم روابط الأسرة بروابط ويصبح أصحابها مجرد مأجورين يعتمدون على عملهم ويفقدون ملكيتهم للأرض، بالإضافة إلى نوع السكن بالمدينة الذي لا يسع إلا للأسرة النووية، فلم يعد هناك مكان لباقي أفراد العائلة، لم يعد الأب المعيل الوحيد للأسرة، حيث أصبح الأبناء يعملون هم أيضا ويتحررون من سلطة الأب مما قد يفرز تنشئة اجتماعية، لم يعد الأب فيها المتحكم الوحيد واقتصار الأسرة النواة على العلاقة المباشرة مع أقارب ووالدي الزوج والزوجة، فلم نعد نتحدث عن أبناء العمومة وأبناء الخؤولة، فبعد ما كان العمل عن المنزل يضطر معه رب الأسرة أو ربة الأسرة أو هما معا إلى قضاء وقت أطول خارج البيت مما يعود سلبا على تقوية العلاقة الأسرية وتماسكها.
ويمكن تلخيص ادعاءات بعض علماء الاجتماع من أثر التصنيع والتكنولوجيا الحديثة على الأسرة في عدة نقاط، من بينها أن التصنيع هو السبب في ظهور الأسرة النواة، وفي نقصان حجمها وتدعيم عزلتها، والقضاء على الروابط القرابية. فالأسرة هي المرآة التي تعكس صورة التغير الاجتماعي على المجتمع، وذلك عندما تتبنى مجموعة من الأسر شيئا جديدا، {تكنولوجي أو إيديولوجي}، فإنه بمجرد ظهور فائدة هذا الشيء تتبناه بالتدريج الأسر الأخرى حتى يشمل المجتمع بأسره.

المشاكل والعوامل التي تهدد الأسرة

إن العالم اليوم أصبح يعرف العديد من التحولات شملت معظم مجالات الحياة ولا تقتصر هذه التحولات على التقدم التكنولوجي الذي يُنظر إليه بإعجاب وتقدير لما وصلت إليه التكنولوجيا الغربية الحديثة من تقدم وتطور كبيرين، بل إن التقدم التكنولوجي أدى إلى التغيير في جميع مجالات الحياة ومرافقها ومنها الحياة الاجتماعية وعمليات التنشئة الأسرية. إن الدراسات تؤكد أن هذا التقدم الحاصل للأجانب إيجابية لا يمكن لأي فرد أن ينكر أهميتها ووجودها في حياته اليومية، وفي الوقت نفسه لها جوانب سلبية بدأت آثارها تظهر وأصبحت تنذر بمخاطر ومشاكل أكبر في حالة عدم الانتباه إليها. ومن أهم مظاهر التغيير التي يواجهها العالم اليوم هو تأثير العولمة، فالإعلام وما أفرزه من نحو على مظاهر الحياة الاجتماعية سواء على مستوى الفرد في الأسرة أو على مستوى المجتمعات بصورة عامة. حيث أن “شبكة الأنترنيت” مثلا وما يصاحبها من استخدامات سلبية نظرا لطغيانها في يومنا هذا، أصبحت كذلك تتدخل في خصوصية الأفراد، تتمثل في غالبيتها سرقات فكرية واقتصادية… ومن زاوية أخرى أدت هذه الوسائل إلى انتشار العولمة التي تحيل على تلاقح ثقافات العالم والقيم والعادات وبالتالي نلاحظ أن هناك علاقة قائمة بين العولمة ووسائل الاتصال والإعلام.
الشيء الذي يستدعي الوعي بما تسببه تكنولوجيا الإعلام والاتصال من إشكالات اجتماعية وقانونية، وأخلاقية…
واعتمادًا على هذا فإن الحديث عن العولمة يحيلنا إلى الحديث عن التدخل التكنولوجي والذي أصبح يتدخل في العلاقات التي تربط العولمة بالأسرة وبالتنشئة الاجتماعية بعدما كانت هذه العولمة ثقافية ثم تلتها العولمة السياسية والاقتصادية. فمع أن العولمة تشكل واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الأسرة العربية في مجال التنشئة الاجتماعية لما تحمله من تواصل التهديد للخصوصيات الموالية، الوطنية والهوية الثقافية وتكريس لآليات الهيمنة الفكرية والإسهام في زيادة التباعد والتفاوت الاجتماعي والتحريضي… بين الأفراد، إضافة إلى ما سبق فإذا أخذنا مثال الأسرة المغربية، فمن الملاحظ أنها تعيش تمزقا في بنيتها، فانقسمت إلى أكثر من أسرة نووية، {أسرة نووية قروية، وأخرى حضرية}، متكونة من الأب والأم والأبناء، إن وجدوا، بعد أن كانت أسرة ممتدة تضم الأب والأم للأبناء والجد والجدة أو العم أو العمة… من أفراد الأسرة، ويعود هذا التحول إلى أسباب اقتصادية واجتماعية بالأساس حيث أصبحت صعوبة العيش ومتطلبات الحياة المتزايدة تفرض على الشباب أن يعيش مع زوجته وحدها في منزل بعيدين عن عائلاتهما من أجل فقط التكاليف والمصاريف والابتعاد عن التدخل في أمورهما الخاصة، وهذا التحول أو التغيير في بنية وظيفة التنشئة الاجتماعية، إذ نتج عن الانتقال من القرى إلى المدن إلى تطوير الجانب المادي والاجتماعي باعتباره أهم ما يحدد العلاقات داخل الأسرة وأدوارها ووظائفها. فعلاقاتها أصبحت محدودة ورقابتها على أفرادها أصبحت ضعيفة، وأدوارها تغيرت لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة، {غياب كلا الوالدين من المنزل في نفس الوقت من أجل العمل}..
واعتمادًا على ما سبق لا ننسى تقليد النموذج العربي من خلال اقتحام بعض القيم الداخلية على المجتمع المغربي والتي آلت إليه عن طريق المسلسلات المكسيكية والتركية… وأصبحت الأسرة تقلد تلك الأنماط الاجتماعية والسلوكية على مختلف أشكال الحياة، {اللباس والقيم…} وبالتالي فهذه التحولات أدت إلى اضطرابات أسرية انعكست سلبا على التنشئة الاجتماعية فتجسد ذلك في الاضطرابات على مستوى علاقة الوالدين ببعضهما البعض وما ينتج عن ذلك من خلافات في ما يخص عدم التكافؤ بينهما اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والانفصال والطلاق…
المشاكل الأسرية

ومع هذه التحولات التي تعرفها الأسرة المغربية أصبحت سلطة الأب في منافسة قوية لمؤسسات أخرى ومن ذلك سلطة وسائل الإعلام والتعليم والتحول، {فيما يخص القيم الاجتماعية، فاليوم لم يعد الأب المسيطر والمهيمن والذي يملك القدرة على تسيير الأسرة والتحكم فيها بشكل مطلق. ولم يعد يلعب نفس دوره السابق اعتمادًا على التوجيه والتربية والتنشئة والنصيحة، كما أن حضوره لم يعد مكثفا وواضحا كما كان في السابق بالنظر إلى غيابه وانشغالاته… وبالتالي فإن سلطته داخل الأسرة لم تعد ترتبط بالطاعة والاحترام الذي يشمل شرعية القاعدة الاجتماعية، كما يستمدها من المرجعية الدينية فقط، بل أصبحت هناك مرجعية اقتصادية بمعنى أن يمتلك نقودًا مالية داخل الأسرة ليثبت سلطته بشكل أكبر، حتى أن الأب من خلال كل هذا، أصبح فقط ممولا للأسرة والمسؤول فقط عن حاجياتها ومتطلباتها المالية، وفقد في مقابل ذلك بالتالي وظيفته التربوية والاجتماعية ناهيك عن ما يترتب عن هذا من جعل الأبناء يتعاطون لشتى أشكال العادات السيئة كالمخدرات والانحراف بفعل انعدام السلطة الأبوية.

إصلاح نظام الأسرة: “أوغست كونت”

لا يكفي الحديث عن الأسرة دون الوقوف مع نظريات الحالة الوصفية، خاصة مع مؤسس عالم الاجتماع والأب الشرعي له، “أوغست كونت” حيث دعا هذا الأخير إلى أن تبني الأسرة على أساس الأخلاق الكاثوليكية وترويض الأفراد على تقبل مبدأ التضامن الاجتماعي بهذه الأنانية هو عامل أساسي لغرس مبادئ الدين الوضعي في الأطفال أو ما سماه كونت بـ “عبادة الإنسانية” بعدما اشتهر كونت بدراسته للفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع والذي قسم موضوعات هذا العلم إلى قسمين {الإستاتيكا الاجتماعية والديناميكا الاجتماعية} ويبرز كونت في تصوره، أن هذين القسمين يصوران البناء التنظيمي لهذا المجتمع وكذا مبادئ التغيير الاجتماعي لهذا المجتمع، فالإستاتيكا الاجتماعية تشمل الطبيعة الاجتماعية، الدين، الطبيعة البشرية، الغرائز والعواطف، العقل والفن، الأسرة، الملكية والتنظيم الاجتماعي…} بينما تشمل الديناميكا الاجتماعية قوانين التغيير الاجتماعي. لقد وصل كانط في تحليله الإستاتيكي إلى أن المجتمع يتكون من ثلاثة وحدات أساسية، {الفرد الأسرة، الدولة}، غير أن الفرد لا يعتبر عنصرًا اجتماعيًا، فالقوة الاجتماعية مستعدة في حقيقتها لتضامن الأفراد واتحادهم ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف فيما بينهم، أما القوة الفردية الخالصة فلا تبدو إلا في قوته الطبيعية، ولكن ليست لهذه القوة أيّة قيمة إذا كان الفرد وحيدًا أعزل، حيث كل الأساليب والوسائل تدلل لك متاعب الحياة معزولا ولا قيمة كذلك لقوة الفرد العقلية والأخلاقية، فالأولى لا تظهر إلا بمشاركة غيرها من القوى وابتعادها ببعضها والثانية في نظره،{كونت} وليدة الضمير الجمعي والتضامن الأخلاقي في المجتمع، وهذا يعني أن الفردية الخالصة بفرض وجودها لا تمثل شيئا في الحياة الاجتماعية. بينما الأسرة هي أول خلية في جسم التركيب الجمعي وهي ثمرة من ثمرات الحياة الاجتماعية، {يعرف كونت “الأسرة” اتحاد ذو طبيعة أخلاقية لأن المبدأ الأساسي في تكوينها يرجع في نظره إلى وظيفتها الجنسية والعاطفية ولا شك أن الميل المتبادل بين الزوجين والعطف المتبادل بينهما من جهة والأبناء من جهة أخرى والمشاركات الوجدانية الموجودة بين أفراد هذا المجتمع الصغير في تربية الأطفال والنزعة الدينية التي يغرسها الأبوان في أولادهم والحقوق والواجبات المترتبة لكل عضو في الأسرة قبل العضو الآخر، كل هذه الأمور ترجع في طبيعتها إلى وظيفة الأسرة الأخلاقية.

بقلم: جهان نجيب

 أستاذة باحثة

Related posts

Top