مع دخول الحرب في أوكرانيا شهرها الخامس، دخل القتال مسارا بطيء الحركة. والمأساة هي أنه ليست هناك نهاية تلوح في الأفق. فمازالت أوكرانيا تأمل في استعادة الـ20 في المئة من أراضيها التي استولت عليها روسيا، بما في ذلك الأراضي التي أخذتها موسكو عام 2014. ورغم أن هذا أمر مفهوم، فإنه غير متوقع عسكريا، ومن المرجح أن يكون مدعاة لشهور أو سنوات كثيرة من القتال.
واعترف بذلك بعض المسؤولين الغربيين، لكن السياسة الأميركية مازالت ترى أنه يتعين تمكين أوكرانيا في ظل رئيسها المثير للإعجاب فولوديمير زيلينيسكي، وتزويدها بالموارد للقتال طوال المدة التي ترغبها. وذلك الموقف قد يكون سليما أخلاقيا، لكنه محل شكوك استراتيجيا.
ويقول محللون إن اتجاه الحرب على الأرض يظهر أن روسيا غير قادرة على حسم سريع للمعركة بسبب وجود أسلحة غربية يتم ضخها بين الفترة والأخرى، وبالتوازي لا تقدر أوكرانيا على طرد الروس ودفعهم إلى التراجع مع ارتفاع فاتورة الحرب وسقوط الآلاف من القتلى بسبب سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأعلنت أوكرانيا الجمعة أنها تلقت الشحنة الأولى من منظومة متطورة من قاذفات الصواريخ، تضاف إلى ترسانة من المدفعية بعيدة المدى سبق أن قدمها الغرب.
وكتب وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف على مواقع التواصل الاجتماعي أن “الشحنة الأولى من منظومة MLRS M-270 وصلت، وستواكب صواريخ هيمارس في ساحة المعركة”، في إشارة إلى منظومة الصواريخ الأميركية التي باتت تستخدم في النزاع مع روسيا. وأضاف “لا رحمة مع العدو”.
وأعلنت لندن في يونيو أنها ستسلم كييف منظومة الصواريخ المذكورة والبالغ مداها ثمانين كيلومترا، تتمة لصواريخ هيمارس التي أرسلتها واشنطن.
ولا تكف موسكو عن تحذير الدول الغربية من تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى.
واعتبر خبراء عسكريون أن استخدام أوكرانيا لصواريخ هيمارس يمكن أن يساهم في إبطاء تقدم القوات الروسية.
ومنظومة “هيمارس” أو “إم – 142 منظومة المدفعية الصاروخية عالية الحركة” هي راجمة صواريخ متعددة منصوبة على مدرعات خفيفة وبالتالي متحركة تطلق صواريخ موجهة بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي “جي.بي.إس” ويبلغ مداها حوالي ثمانين كيلومترا.
وخلافا للمدفعية المستخدمة حتى الآن من طرفي الحرب، تصيب هذه الصواريخ أهدافها بدقة، ما يمكن من استخدامها بصورة موثوقة وبادّخار.
ويقول مايكل أوهانلون مدير أبحاث السياسة الخارجية بمؤسسة بروكينغز الأميركية في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست إنه يتعين استمرار تدفق الأسلحة للقوات الأوكرانية الشجاعة، وينبغي ألا يسعى الأميركيون لفرض سلام لا تستطيع أوكرانيا قبوله.
لكن لا ينبغي اعتبار المزيد من تزويد القوات الأوكرانية بأنظمة المدفعية المتقدمة هو الرصاصة الفضية التي يأملها الكثيرون.
وصحيح أن ما يسمى بصواريخ هيمارس دقيقة للغاية وأصابت بالفعل مستودعات ذخيرة ومراكز قيادة في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا.
ومع ذلك، فإن القوات الروسية تعرف كيفية تشويش الاتصالات، وإسقاط الطائرات المسيرة، وبذلك تعرقل قدرة أوكرانيا على القيام بعمليات استطلاع لأرض المعركة. ومن المرجح أن روسيا سوف تقوم بتوزيع مستودعات الإمداد في مناطق متفرقة، وتمويه الأسلحة بصورة أفضل مع مرور الأسابيع والشهور.
وحقيقي أن صواريخ هيمارس سوف تساعد، وهناك حاجة إلى المزيد منها. ولكن فكرة أنها تستطيع، مع نوعين جديدين من آليات التكنولوجيا، تغيير الدفة بصورة حاسمة لصالح أوكرانيا يبدو أنها مجرد أمان. وهناك حاجة إلى استراتيجية تكميلية تأخذ في الاعتبار احتمال أن يكون هناك طحن مطول على أرض المعركة.
ويرى أوهانلون أن هناك أوجه شبه غريبة بين مسار الحرب الروسية – الأوكرانية والحرب الكبرى التي اندلعت منذ قرن. وقد بدأت تلك الحرب في مطلع أغسطس عام 1914 مع قرار ألمانيا المرور عبر بلجيكا المحايدة، والوصول إلى باريس من شمال فرنسا في حركة اجتياح كبيرة من شأنها الإبقاء على قوة الجناح الأيمن (الغربي)، وقامت بقطع الطريق أمام القوات الفرنسية التي كانت مرابطة في أقصى الشرق في فرنسا، واستولت على العاصمة.
ووفقا لخطة شليفن الألمانية حدث كل ذلك في 45 يوما حتى تستطيع ألمانيا نقل معظم القوات التي اجتاحت فرنسا على متن قطارات متجهة إلى الشرق، واستغلالها لتعزيز جناح النمسا – المجر في قتاله مع روسيا.
ونجحت الخطة تقريبا لكن القوات الألمانية تباطأت أثناء تحركها جنوبا، واستعاد القادة الفرنسيون والبريطانيون حيويتهم وأعادوا تموضع قواتهم شمال باريس على طول مجرى نهر رئيسي، وفي مطلع سبتمبر حدثت معجزة أعاقت التقدم الألماني. وقضى الطرفان في الحرب الخريف في تدعيم مواقعهما، وحفر خطوط الخنادق، والقيام بمختلف العمليات التكتيكية في بلجيكا.
وبحلول أواخر الخريف، تباطأت محاولاتهما للتقدم، وأصبحت هناك مواجهة لتحصينات راسخة في شبكة حواجز دفاعية امتدت مسافة 500 ميل تقريبا من بحر الشمال إلى جبال الألب السويسرية.
وكانت تلك حالة الحرب بعد أربعة شهور من بدايتها، وهو وضع يشبه ما نشهده الآن بالنسبة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية في ما يتعلق بالتوقيت.
ويضيف أوهانلون أنه بالنظر إلى تركيز الحرب بطيئة الحركة الدائرة اليوم في شرق أوكرانيا، قد يعتقد المرء أن الطرفين سوف يدركان أنهما ينطحان الحائط برأسيهما. ومن المؤكد أن المرء يأمل أن من بدأ الحرب وهو فلاديمير بوتين يصل إلى تلك النتيجة. لكن للأسف يشير التاريخ إلى غير ذلك.
فحتى بعد عام 1914 المروع، وفي ظل عدم الدقة الواضح للتكهنات السابقة بأن القوات سوف تعود إلى أوطانها “قبل الخريف” كثف القادة من جهودهم. وكانوا يبحثون عن سبل بسيطة نسبيا قد يؤدي فيها تكتيك ما جديد، أو نوع جديد من الأسلحة، أو هجوم سريع حيث لا يتوقع العدو أي عدوان ويقلل من حذره، إلى تغيير دفة القتال.
ويبدو أن هذا التصور هو ما يحفز موسكو وكييف في الوقت الحالي، فأوكرانيا تأمل أن يرسل الناتو الكثير من المدفعية طويلة المدى، وتأمل روسيا أن تحقق مجموعة جديدة من المجندين ميزة كبيرة لها بالنسبة إلى أعداد المقاتلين.
ولكن كل تلك الجهود باءت بالفشل في عام 1915 وحتى عام 1917. وبالفعل كانت هناك محاولات كبيرة بالنسبة إلى الابتكار العسكري، ولكن ساعد ذلك الدفاع الذي كان قويا بالفعل أكثر مما ساعد الهجوم.
وللأسف فإنه يبدو أن كييف وموسكو تعتقدان أن الأمور سوف تكون في صالحهما في نهاية المطاف. ولكن التاريخ يشير إلى أن هناك احتمالا كبيرا للغاية بأن الطرفين سيكونان على خطأ إذا كانا يتوقعان أن يؤدي تغيير ماهر في الأساليب أو مساعدة من السماء إلى دفع الحرب نحو اتجاه حاسم في أي وقت قريب.
ومن المحتمل أن تكون هناك حاجة أيضا إلى نوع من التفكير الدبلوماسي الخلاق، بما في ذلك قبول مفاهيم مرنة للسيادة في بعض المناطق الرئيسية، أو إمكانية إجراء استفتاءات في يوم ما لتحديد الملكية في المستقبل. ويخشى أوهانلون من أن الحرب يمكن أن تستمر لسنوات لو لم يتم اللجوء في المستقبل إلى ما سبق ذكره من تفكير دبلوماسي خلاق وخلافه.