تسلم الشاعران الشابان نسيمة الراوي من المغرب، ومحمد العربي من تونس، جائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي، وبهذه المناسبة أشار البحريني علي عبد الله خليفة، بصفته رئيس لجنة تحكيم هذه الجائزة التي بلغت دورتها السادسة، إلى أنها كانت فرصة لجس نبض حركة الشعر العربي الجديد، وأن حوارا مكثفا وقويا ومشحونا بالشد والجذب جرى بين أعضاء اللجنة، مما يعني أن مهمة التحكيم لم تكن هينة، علما بأن الأمر يتعلق بمحاولة جس ما في الوطن العربي من مستجدات في الساحة الشعرية، ذات الاتصال بالعربية الفصحى، وهذا من بين الشروط الأساسية للترشح للجائزة، معتبرا أن التأسيس لهذه المسابقة يحمل مغزى عميقا باعتبار أن حركة الشعر في الوطن العربي تعد بمثابة القلب النابض للفكر والفن، وذكر أن أعضاء لجنة تحكيم هذه الجائزة، خرجوا بعدة توصيات، من بينها: العمل على تطوير الجائزة التي مر على إنشائها حتى الآن ثمانية عشر سنة، والدعوة إلى رفع سن المترشحين إلى ما فوق الخمس والثلاثين، مذكرا في هذا السياق بأن بعض الدول العربية، البحرين على سبيل المثال، لا يوجد بها شاعر واحد قبل هذا السن، مما يفوت على مواطنيها فرصة المشاركة في المسابقة، التأكيد على أهمية العربية الفصيحة باعتبارها شرطا للأعمال المرشحة للجائزة، وعيا بأن هذه اللغة باتت مستهدفة في مقابل طغيان اللهجة العامية، كما تمت الإشارة في التوصيات إلى ضرورة أن يكون الشاعر المرشح متوفرا على ديوان شعر مطبوع واحد على الأقل، إضافة إلى مخطوطة ديوان صالح للنشر، كما تمت دعوة المسؤولين عن موسم أصيلة الثقافي إلى استعادة الأمسيات الشعرية التي كانت تقام ضمن فعالياته، مع الحرص على توجيه الدعوة إلى كبار الشعراء، والأخذ بعين الاعتبار الجانب المتعلق بالإلقاء الشعري، علما بأن العديد من القصائد تموت بسبب سوء أصوات أصحابها. ولم يترك المتدخل الفرصة تمر بهذه المناسبة دون الحديث عن قيمة موسم أصيلة الثقافي في حد ذاته، مذكرا بأن استمرارية هذه التظاهرة الثقافية لمدة أربعين سنة، يعد شيئا نادرا في الوطن العربي، حيث المشاريع الثقافية تنطلق في صورة عملاقة ثم تنتهي كأنها لم تكن، في حين أن موسم أصيلة الثقافي انطلق لأجل أن يعيش ويستمر زمنيا، وهذا النجاح لم يكن صدفة بل ينم عن رؤية متأصلة مدركة لمعنى الثقافة، وأن المؤسس لهذه التجربة كان قد وضع أهم شروط النجاح ألا وهو الإصرار عليه.
وفي مداخلة الباحث الأكاديمي شرف الدين ماجدولين بصفته منسق جائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب، أشار إلى أن هذه الجائزة مختلفة عن غيرها من الجوائز، بالنظر إلى أن المقاييس المعتمدة فيها، تنهض بدور تكريس امتداد وتجسيد لأفق إبداعي مغاير، حيث أن الجائزة أتت لتجاوز وضع الانتفاء والمنفى والهامشية التي تطبع الشعر العربي المعاصر وحياة الشاعر في حد ذاته، كما ذكر أن نقاشا نقديا أساسيا دار بين أعضاء لجنة تحكيم هذه الجائزة وأن هذا النقاش ما هو إلى انعكاس للإحساس بالقلق والتوق إلى تجاوز وضعنا الثقافي غير الطبيعي، مع الحرص على وضع مسألة المفاضلة بين الأجناس الإبداعية جانبا، واعتبار القول الشعري امتدادا لنا ولهويتنا، كما دار نقاش بين أعضاء اللجنة – يضيف المتدخل- حول الحساسيات الشعرية والهويات التي تنتمي إليها الأسماء المرشحة، يأخذ بعين الاعتبار أن ترشيح اسم من البلد الذي ينتمي إليه أحد أعضاء اللجنة لا ينبغي أن ينم عن شوفينية، بقدر ما يكون انحيازا إلى المعرفة وإصرارا على تجاوز الأفق الضيق للجائزة.
وتحدث عن الشاعرين الفائزين في هذه الدورة، مؤكدا على أن اختيارهما، أتى من منطلق أسلوبهما الشعري المتفرد ولانتقائهما لمفردات وموضوعات تعكس حساسية شعرية حديثة، وترتكز على الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات الصغيرة في الحياة، معتبرا الجائزة بمثابة أمل وأفق ودعم للاستمرار في درب صعب اليوم، درب القول الشعري.
وكان حفل تسليم الجائزة مناسبة للفائزين بها لكي يتلوا نماذج من أشعارهما التي حظيت بتجاوب ملحوظ من طرف الحاضرين، والتي أكدت على اكتسابهما لحساسية شعرية جديدة، في ما يخص التعابير واختيار المفردات والانفتاح على مواضيع ذات بعد وجودي بصفة أساسية.
وفي تصريحهما، أكدا على أن اختيارهما الممارسة الشعرية ليس ترفا بل له ارتباط أساسي بالوجود، أو على حد تعبير أحدهما، الشاعرة نسيمة الراوي: لا أريد أن أكبر وأسقط، لهذا أنا أكتب الشعر.
وكانت لجنة تحكيم هذه الجائزة، مؤلفة من البحريني علي عبد الله خليفة والأردني مهى عتوم والتونسية آمال موسى والمغاربة: محمود عبد الغني ومحمد بودويك ومزوار الإدريسي ومحمد بنعيسى.
وبالموازاة مع هذا الحفل، تم تنظيم جلسة نقدية حول التجربة الشعرية للراحل بلند الحيدري الذي تحمل الجائزة اسمه، وشارك فيها الأستاذان المهدي أخريف وشوقي بزيع، وقبل ذلك ألقى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة كلمة افتتاحية، أشار فيها إلى أن الشاعر العراقي الراحل كان من بين أصدقاء موسم أصيلة الثقافي، وله ذكريات جميلة معه ومع ضيوفه من الشعراء العالميين، مستحضرا الأمسيات الشعرية التي كان يشارك فيها خلال دورات الموسم، كما ذكر الموقع الجميل للحديقة التي حملت اسمه، مثلما هو حال مجموعة من الحدائق التي أطلق عليها أسماء الأدباء في هذه المدينة، وتحدث المتدخل عن المعاناة التي كان يشكو منها الشاعر الراحل، حيث أنه كان عرضة للإهمال والتهميش من طرف سلطات بلده العراق، بالنظر إلى أنه لم يكن من المداحين والمتزلفين والمحابين للنظام، وخلص إلى أن بلند الحيدري يعد من شعراء الحداثة الأساسيين، لكنه لم ينل حقه من الاهتمام.
وفي قراءته للتجربة الشعرية لهذا الشاعر العراقي الراحل، أكد المهدي أخريف على أنه يعد أحد رواد القصيدة الحديثة في العراق وفي العالم العربي ككل، وأنه اختط لنفسه طريقا شعريا خاصا به، بالنظر إلى أنه سعى إلى تكثيف البعد الدرامي مع استعمال المونولوغ بصفة خاصة، وأن العبارة في قصيدته مسبوكة تسابق الفكرة، بكلمات دالة وقليلة ونعوت محدودة ومعدودة، فالنص لديه لا يكتمل إلى بتزاوج الوزن الموسيقي مع البعد البصري، كما أن الفراغ في شعره يعد صائتا كبيرا.
وانتقل المتدخل إلى الحديث عن المرحلة الأخيرة في التجربة الشعرية للراحل، حيث ذكر أن تنم عن ضيقه بالشعر السائد مما جعله ينتقل إلى كتابة شعرية تلقائية وتعبيرية، مع غلبة الحس المرثاتي، وقوة البعد الوجداني والإنساني، مذكرا بهذا الصدد أن ارتباطه بموسم أصيلة الثقافي منذ الثمانينات من القرن الماضي، أكسب حياته معنى جديدا، حيث كان يلتقي بأصدقائه المبدعين المغاربة والأجانب، حيث أن هذه المدينة تعد موقعا مشرعا على الحلم والتفاعل الثقافي في فترة كان الثقافة تعاني من التهميش، كان محبا لهذه المدينة حيث أنه كان يتصرف على سجيته وينعش روحه بفضائها الجميل وطيبوبة أناسها، إلى حد أنه كانت يتمنى بناء بيت بها لقضاء بقية حياته.
وتحدث الشاعر شوقي بزيع عن حياة بلند الحيدري وعن شعره، فقد عانى من التشرد منذ كان سنه ستة عشر سنة، وتولد عنده حس التمرد والرفض والاحتجاج، تبعا لذلك، لمس في شعره انتصارا لمعنى وجوده ولقضايا الشعر، وذكر أن أهمية شعره تكمن في أنه لم يبن الحداثة الشعرية على أساس الملحمية والقصائد الطوال والرومانسية، وأنه هناك حضورا للبعد الوجودي حيث كان متأثرا برموز هذا الاتجاه، كما أنه لغته تقام على قدر المعنى، متقشف في لغته مع حدق في استعمالها، إلى حد أنه لا يمكن تقديم حرف أو تأخيره. وأضاف في هذا السياق أن لغته الشعرية سهلة وغير معيقة للمعنى، بمعنى أنه ليس هناك تهويل لغوي إلى حدود التقرير النثري، وعلى مستوى الإيقاع، لاحظ المتدخل أنه منحاز إلى بحر المتدارك، بالنظر إلى أنه بحر الرشاقة والخفة، ولذلك استمرأه وأنه لم يكن بحاجة إلى أشكال تعبيرية قاسية من شأنها أن تعيق وصول المعنى، لقد كان يضيق باللغة إلى حد إيثار الصمت.
وذكر كذلك أن تضمن كلام مبتور في شعره، ما هو إلا تعبير عن حالته النفسية المبتورة في مجتمع كان يسوده الاستبداد.
وخلص إلى القول إن الشاعر الراحل بلند الحيدري ساهم في تقريبنا من مفهوم الحداثة بمعناها المعاصر، وأنه كان شاعرا إنسانيا وجوديا وعبثيا، ليس بالمعنى العدمي، ولكن من منطلق الإحساس بعالم غير عادل، يتطلب أن تكون مواجهته بالسخرية.
< مبعوث بيان اليوم إلى أصيلة: عبد العالي بركات