الأديب العربي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي كاتبا لسيرته الذاتية

نعت الثقافة والأدب العربيان، في المدة الأخيرة، الأديب العربي العراقي الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي، رحمه الله، الذي غادرنا بعد مقاومة طويلة لبعض الأمراض، فحدث أن غادر تونس، حيث كان يقيم ويشتغل، عائدا إلى مسقط رأسه بالعراق. وكان كاتبنا الفقيد، رحمه الله، قد فقد بصره في السنوات الأخيرة، ما اضطره للمكوث ببلده الأصل تحت رعاية أفراد عائلته…
ويعرف الأديب عبد الرحمن مجيد الربيعي، بصداقاته الكبيرة والقديمة مع أدباء العربية، وبانتقاله واشتغاله في عديد من الجغرافيات، وبإقباله اللافت على قراءة نصوص الأدب العربي الحديث والكتابة عنها، وضمنها نصوص أدباء المغرب ونقاده، من الرعيل الأول، وعلى رأسهم صديقه الأديب الراحل عبد الكريم غلاب، ومن الأجيال المتعاقبة، فضلا عن علاقته الخاصة مع عديد من المؤسسات الثقافية المغربية والعربية، وجميعها دأبت على الاحتفاء بالأديب الراحل، والاهتمام بكتاباته وإبداعاته، قراءة ونقدا ونشرا …
وهنا، لابد من الاعتراف بكون أديبنا الراحل قد عرف باهتمامه الخاص بالأدب المغربي، فظل وفيا لكتاب المغرب وأدبائه، من الرواد والجدد، فكتب عن نصوصهم، معرفا بها وناقدا لها، سواء في كتبه المنشورة، هنا وهناك، أو في مجلة “الحياة الثقافية” التونسية، التي اشتغل الأديب الراحل ضمن أسرة تحريرها لفترة طويلة…
عرف الفقيد عبد الرحمن مجيد الربيعي، بكتابة القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد الأدبي والسيرة، وبممارسة التشكيل والصحافة. وإذا كان الراحل قد عرف أكثر بكتاباته القصصية والروائية، فقد أقبل، في مراحل معينة من عمره، على كتابة السيرة، في بعديها الأدبي والذاتي، خلافا لأدباء عرب كثيرين، ممن تحاشوا كتابة سيرهم الذاتية، لهذا السبب أو ذاك، لقد عمل الربيعي، في مرحلة أولى، على كتابة “سيرته الأدبية”، بعنوان “من ذاكرة تلك الأيام: جوانب من سيرة أدبية”، والتي وعد فيها قراءه، بكتابة “سيرته الذاتية”، في مرحلة تالية، في قوله: “ليست هذه مذكرات أروي فيها سيرتي الذاتية، فهذا أمر ما يزال مؤجلا وإن كان مشروعا مطروحا، لا، بل إنني اشتغلت عليه قبل سنوات ووضعت مخططه وعنوانه الذي كان على هيئة سؤال: “أية حياة هي؟”، ص7.
وبعد مرور أزيد من أربع سنوات على ظهور سيرته الأدبية، أصدر عبد الرحمن مجيد الربيعي سيرته الذاتية “أية حياة هي؟ سيرة البدايات” في حجم ضخم، وذلك في سياق إقبال أدبي عربي، في العقود الأخيرة، على كتابة السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات، من قبل أدباء ونقاد ومفكرين على حد سواء.
وإذا كان الكتاب الأول للربيعي (من ذاكرة تلك الأيام)، يحكي عن بعض المحطات الأساس من السيرة الحياتية والأدبية والثقافية للكاتب، وعن بعض المكابدات والمواقف والانطباعات التي ساقها وأبداها عن بعض أدباء العربية، ممن عرفهم، أو ارتبط معهم بصداقات، كما يحكي عن بعض المشاهد الأدبية العربية، في هذه العاصمة أو تلك، في عديد من مراحلها المؤثرة وصورها ورموزها المختلفة، فإن كتابه الثاني (أية حياة هي؟) يتكامل مع الكتاب الأول في تركيزه على رصد جوانب من سيرة الكاتب الذاتية، في أبعادها البيولوجية والزمنية والبيوغرافية، الطفولية تحديدا…
نتتبع في هذه السيرة الذاتية، وبجرأة حكائية نادرة – كما هو الحال في سيرة الكاتب الأدبية – مجموعة من المحكيات والمحطات الحياتية الطفولية للسارد – الكاتب، في زخمها، وفي تداخلها وتنوعها، وفي انفتاحها أيضا على مراحل زمنية أبعد من زمن القصة. فإذا كانت هذه السيرة الذاتية تغطي أزيد من خمسة عشر عاما، تمتد من مرحلة الطفولة حتى التحاق السارد بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1957، فإن الأزمنة الموازية لهذه المرحلة تتجاوز ذلك بكثير لتحكي لنا هذه السيرة الذاتية عن مراحل أخرى بَعدية، كتلك المرتبطة بالفترة الموازية لزمن الكتابة ذاته، عبر تضافر مجموعة من السياقات والقرائن والإشارات الدالة في المحكي، من قبيل حديث السارد – الكاتب عن ابنه سومر، المزداد بتونس، حيث يقيم الكاتب في تلك الفترة.
يمكن قول نفس الشيء، عن المرحلة القبلية لزمن الحكاية المركزي في هذه السيرة الذاتية، والتي كثيرا ما يحدث أن تنفتح على أحداث ووقائع وتواريخ ترتبط بزمن أبعد من الزمن البيوغرافي للسارد – الكاتب، هو زمن الأحداث تحديدا، من مثل تعرض السيرة لبناء مدينة الناصرية عام 1870. وبذلك، يصبح الزمن، في هذا النص، غير خاضع لأي منطق يوجه السرد وامتداد الأزمنة والحكايات في بعضها البعض، حيث إن تداخل الطفولة ببعض المحطات الحياتية الأخرى للكاتب يتم في تناوب بين الاستباق تارة والاسترجاع تارة أخرى. كما تلعب الذاكرة في هذه السيرة الذاتية لعبتها الماكرة؛ حيث يصبح من الصعوبة وضع حدود زمنية بين محطة حياتية وأخرى، أو بين حكاية وأخرى.
وبالرغم من ذلك، فإن مرحلة الطفولة تبقى هي المحطة المهيمنة في سيرة الربيعي الذاتية، أكثر من غيرها من المراحل الحياتية الأخرى للسارد – الكاتب، وهو ما يؤشر عليه الكاتب نفسه على غلاف سيرته الذاتية، عبر تحديد الفضاء الحكائي لهذا الكتاب كـــ “سيرة البدايات”، أو في قول السارد، ضمن سياق حكائي داخلي: “من هنا أجدني متحمسا لأن أفتح صفحات ذلك الماضي البعيد الذي أجد أيامه مضيئة واضحة، فكأنها تنعرض أمامي في شريط سينمائي” (ص45).
وهذا الوجه المضيء والسار في حياة ذلك الطفل الذي كانه الكاتب، هو ما اختار السارد الحكي عنه، في الجزء الأول من هذه السيرة الذاتية، دون غيره من الوجوه والصور والمراحل الأخرى السوداء: “سر جمال الطفولة في كونها ابتعدت كثيرا، وتساقطت عنها كل التشوهات والتجاعيد والغبار، فبدت صافية عذبة لا نشم منها إلا عبق البراءة وشداها اللذيذ” (ص282).


بل إن السارد – الكاتب لم تفته الإشارة، في هذه السيرة الذاتية، وضمن إحالات ميتا – نصية عديدة، إلى صعوبة الكتابة عن الطفولة عموما، وإلى الأهمية التي تحظى بها هذه المرحلة في مجموعة من الكتابات السير ذاتية والأدبية بشكل عام، كما في قوله: “تأكدت لي أهمية مرحلة الطفولة بكل تفاصيلها، فهي التي يوظفها الكُتاب لاحقا في أعمالهم، لاسيما الروائية والقصصية منها، وتعتاش نصوصهم عليها. ولكن كتابة الطفولة بكل دقائقها لم أجد كاتبا عربيا منحها هذا الاهتمام وكرس لها كتابا خاصا، بل إنها تأتي في سياق حديث شامل عن حياته – وهذا ما فعله جل كتاب السيرة” (ص53).
وإذا كان الكاتب يستشهد في سيرته الذاتية، في تأكيده على أهمية مرحلة الطفولة لدى بعض الكتاب العرب والأجانب، بكل من الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والكاتبة المغربية ليلى أبو زيد، فهو يذكرنا في ذلك، مرة أخرى، بالكاتب العربي جبرا إبراهيم جبرا، الذي يتم استحضاره أكثر من مرة في هذه السيرة الذاتية، سواء باعتباره شخصية مرجعية، أو شخصية مؤثرة في تنامي المحكي السير ذاتي، وذلك في تخصيصه، هو أيضا، الجزء الأول (البئر الأولى)، من سيرته الذاتية، لمرحلة الطفولة، ما يشي بتزايد الاهتمام لدى الكتاب العرب بالتأريخ الذاتي والنوستالجي لطفولتهم، بشكل حكائي مكثف.
إلى جانب هذه الشخصيات المرجعية التي يستحضرها السارد من عالم الكتابة والإبداع خصوصا، يلجأ السارد، بين فينة وأخرى، إلى استحضار شخصيات أخرى من عالم الكتابة والمعرفة والفن، من العرب والأجانب، ممن تعرف عليهم وارتبط بهم، أو ممن قرأ لهم، عبر سرد استباقي للمرحلة المركزية في هذه السيرة الذاتية، من قبيل الروائية التشيلية إيزابيل اللندي، وياسين رفاعية، وخيري شلبي، وغادة السمان، وإدوار سعيد، وغابرييل غارسيا ماركيز، ومعروف الرصافي، وجورج أمادو، وصلاح نيازي، وناتالي ساروت، ومحمود درويش، وسلامة موسى، ويوسف السباعي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وتوفيق الحكيم، ونوال السعداوي، وسليمان فياض، ونجيب محفوظ، وبدر شاكر السياب، وتوفيق بكار، وبلند الحيدري، وغيرهم من رجالات الفكر، والأدب، والسينما، والغناء، من تحية كاريوكا إلى شاكيرا…
يحكي السارد – الكاتب عن هؤلاء جميعا، كما يحكي عن كتاباتهم ومواقفهم وآرائهم حول مجموعة من قضايا الكتابة وعادات الحياة، وفي استشهاده بهم، وإحالته على كتاباتهم ونصوصهم، وأيضا في انتقاده لهم ولكتاباتهم، كما هو الشأن بالنسبة لموقفه من يوسف السباعي، الذي قال عنه بأنه رغم كل ما تقلده من مناصب لا تعد ولا تحصى، فإنه لم يصبح كاتبا (ص96)ـ بخلاف إحسان عبد القدوس الذي يعتبره السارد – الكاتب كاتبا سياسيا من الطراز الأول (ص96).
من ثم، يبدو من الصعوبة تقديم كل الحكايات والمحطات والمغامرات التي يسوقها السارد -الكاتب عن طفولته، في هذه السيرة الذاتية، كما هو الشأن بالنسبة لاستحضاره وتذكره لعدد من الأصدقاء والشخصيات التي يحكي عنها، وعن علائقه الحميمة بها، أو يحكي فقط عن طبيعة علائقه “التخييلية” أو العابرة ببعضها، فكثيرا ما يشكل تذكر بعض الشخصيات الواقعية، بالنسبة للسارد – الكاتب في هذا النص، مناسبة للحديث عن توظيف الكاتب الواقعي لها، في بعض نصوصه القصصية والروائية التي كتبها فيما بعد، وبأسمائها الحقيقية في أغلب الأحيان، كما هو الشأن بالنسبة لبعض شخصيات رواياته: “القمر والأسوار” و”خطوط الطول.. خطوط العرض” و”الوشم”، ومجموعاته القصصية: “ذاكرة العميان” و”الأفواه” و”السومري”، وذلك بمثل حديثه أيضا عن بعض السياقات التي واكبت كتابته لبعض قصصه ورواياته، كقصة “البرتقالة”، و”روايتي “القمر والأسوار” و”الوشم”، بما يشبه نوعا من “الأتوغرافيا” الموازية للخطاب الأتوبيوغرافي في هذا النص، حيث يتم الحديث عن نصوص الكاتب المنشورة وغير المنشورة، من قبيل حديثه عن موضوع رواية قصيرة كتبها في الستينيات، بعنوان “الخطوات الموصدة” (ص197-198).

كذلك هو الحال بالنسبة لاستحضار السارد – الكاتب لبعض الفضاءات والأمكنة التي عبرها، ولعديد من الأحداث والوقائع والمحطات التي عاشها أو عاصرها، بل واستعادته أيضا لبعض الأناشيد والحوارات التي جمعته ببعض الشخصيات في تلك المرحلة، لاعتبارات نوستالجية ووجدانية بالأساس: “لا أدري لماذا رسخت كل هذه الأناشيد وبقيت في الذاكرة، حتى أنني أجد نفسي أدندن بها أحيانا دون أن أدري لماذا تذكرتها، وكأنني مازلت ذلك الفتى بركبتيه المليئتين بالكدمات!” (ص41)، مع أن الكاتب، في هذه السيرة الذاتية، يعترف بأنه لم يكتب كل ما كان يود كتابته، ما دمنا – يضيف في مقدمة كتابه – منخرطين في سياق اجتماعي هو اختيارنا الذي لم يجبرنا عليه أحد، مع أن حظ السارد، وفرصته في تحرير ما عاشه ورآه من خلال نصوصه، أكبر من المساحة المتاحة لمبدعين في مجالات أخرى (ص9).
يبدأ الحكي في هذه السيرة الذاتية عن البلدة، فمسقط الرأس ومرتع الطفولة ومستقر العائلة (الأب والأم والإخوة والجدتان)، فالحكي عن هوايات الطفولة ومراحل اللعب والشيطنة والتمثيل وتربية الطيور والسباحة وكرة القدم وكتابة الرسائل ومرحلة الدراسة، بكل تلويناتها الزمنية والحكائية ومغامراتها العديدة والاستثنائية، وشخوصها أيضا، هؤلاء الذين “لا يمكن نسيانهم، لا بل عملت على أن أوثق ما كانوا عليه في بعض قصصي ورواياتي” (ص03)، يقول السارد، من قبيل أولئك المعلمين الذين درسوه ووجهوه وأثروا فيه، فإليهم جميعا يرجع الفضل الكبير في اكتشاف استعدادات السارد الأدبية، وتوجيهه نحو الرسم والمطالعة الخارجية، خصوصا بعد أن انفتح وعي السارد على مرحلة جديدة، بدخوله المدرسة الثانوية، ثم ولوجه معهد الفنون الجميلة ببغداد، حيث اتسعت دائرة معارفه وأصدقائه، واتسع العالم في عينيه…
وتميزت هذه المرحلة، أيضا، بانفتاح السارد على كتاب مصر في البداية، فاكتشافاته الأولى لفن القص من خلال حكايات جدته، معلمته الأولى لفن القص (ص142) وخالته: “كانت خالتي الساردة الأخرى التي لا تتعب مخيلتها بحكايات لا تكرر حكايات جدتي، ولا أدري من أين أتت بها” (ص135)، والحب الأول، وعالم المغامرات الجنسية، وعشق الارتحال والسفر، والتنقل بين الفضاءات والمدن العراقية، فالحديث عن بعض العادات والحالات والظواهر الاجتماعية والجنسية التي كانت سائدة في مجتمعه، بما في ذلك إدراجه لحديث مطول وجريء عن عوالم الجنس والغرام في عديد من صورها ولحظاتها المختلفة.
ثم ينتقل السارد إلى اكتشاف مراحل وتجارب جديدة، بدخوله المدرسة الثانوية وإدراكه لعالم الموت، وما شكله له ذلك من لغز لأول مرة، من خلال حكاية موت الأم وموت الجار أبي سكينة، وانفتاحه على عوالم القراءة والكتابة والرسم والنشر وعالم الغناء والمغنين، من خلال نجوم مصر والعراق، والسينما الأمريكية في المرحلة الأولى، ثم السينما الإيطالية والسينما الفرنسية فيما بعد، فحديثه عن سنوات الحلم والخوف في العراق.
بعد ذلك، تأتي مرحلة التحاق السارد بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، وما ولده له اكتشافه لهذه المدينة من سحر وفتنة وإعجاب كبير، بعد كل ما سمعه عنها وما قرأه بصددها. فبغداد، هي المدينة التي يخصها السارد بحيز حكائي ووصفي كبير في سيرته الذاتية، بما تركته عوالمها الداخلية والغريبة في ذهنه وذاكرته من فتنة ودهشة وبهاء، وبما خلقته له من مغامرات جديدة وحرية أيضا، بعيدا عن سلطة الأب والخوف من المجهول والضياع: “لكنه ليس الضياع السلبي بل الضياع المعطاء الذي به أرى وأتمعن وأستشرف ويتسع أفقي” (ص381)، على حد تعبير السارد، وقد بدت له بغداد، وقتئذ، مدينة للفنون والألوان بامتياز.
ومن بين المراحل المؤثرة في حياة السارد – الكاتب، في هذه السيرة الذاتية، تلك التي تفتح فيها وعيه وتفتقت فيها مداركه على المنشورات الحزبية السرية للحزب الوطني الديموقراطي، وما كان لذلك من تأثير لاحق في كتاباته لرواية “القمر والأسوار”، باعتبارها الرواية التي وظف فيها الكاتب أحد بيانات الحزب المذكور، كما تعرض فيها لعراق الخمسينيات، قبيل سقوط النظام الملكي.
ويلجأ السارد – الكاتب بين لحظة وأخرى إلى استرجاع بعض الأحداث والمراحل التاريخية والسياسية التي شهدها العراق، على امتداد فترات مؤثرة في تاريخه، إبان الحكم الملكي، وثورة تموز 1985، والحرب العراقية الإيرانية، والحزب الشيوعي السري، والحزب الوطني الديموقراطي، وحزب البعث، وغيرها من الوقائع والأحداث التاريخية الأخرى، في وجهها الأسود والأبيض على حد سواء.
غير أن ذلك لا يعني أن ذاكرة السارد، في استعادتها لهذا المحكي الذاتي العام، لم تكن ذاكرة انتقائية، فكثيرا ما كان السارد، شأنه في ذلك شأن معظم الساردين في سير ذاتية أخرى، يلجأ إلى انتقاء الأحداث والشخوص والوجوه التي يحكي عنها، أو تلك التي يسترجع بعض علاقاته بها، بانبهار تارة وبنفور تارة أخرى، حيث تصبح ذاكرة السارد، أحيانا، عاجزة أمام استعادة الحكايات المفتقدة والمشتهاة، فالذاكرة، حسب ج.أ. جيدون، يمكن أن تكون خادعة لا يعول عليها في كل الأحوال، وإن قليلين فقط هم من يمكنهم أن يستعيدوا بوضوح تفاصيل حياتهم الباكرة، وإن كل إنسان يميل إلى تذكر ما يوافق هواه، فضلا عن أن بعض وقائع حياته قد يصيبها التعتيم. وما يشبه ذلك، يشير إليه السارد، في قوله: “ولو أن الذاكرة حملت كل تلك الحكايات لقمت بتدوينها ولكنني فقدتها، أضعتها كما أضعت كثيرا مني، إضافة إلى أنني بدأت بخلق حكاياتي أنا الآخر، ووزعتها على قصصي ورواياتي التي هي صدى اشتعال حياتي…” (ص135).
هي، إذن، سيرة للذات، كما أنها سيرة للأجيال، وسيرة للكتابة والقراءة والأمكنة والوجوه والمدن، وخصوصا الناصرية وبغداد، باعتبارهما المدينتين اللتين يعيد السارد – الكاتب تدوين أسرارهما وتفاصيلهما وحكاياتهما، في أبعادها التاريخية والطبوغرافية والنوستالجية والمعرفية، بالنظر لما لهاتين المدينتين، وما يزال، من تأثير على الذاكرة والفكر والوجدان، ومن امتداد في الزمن والنصوص والكتابة، كما في قول السارد، متحدثا عن مدينته الناصرية، من بين أحاديث وأوصاف وتفاصيل عديدة تحبل بها هذه المدينة التي سبق للكاتب نفسه أن تمثلها بأشكال مختلفة وبكثافة وفنية نادرة في أعماله الأدبية السابقة: “كان لابد لي أن أتعرف على كل ما فيها، فهي مدينتي التي سأرسمها، ومن بعد سأكتبها، سواء في رواياتي أو في العشرات من قصصي القصيرة، والتي سأظل أحملها معي أينما ذهبت وفي أي مكان استقر بي المقام” (ص191)، أو في قوله، أيضا، متحدثا عن بغداد: “كانت بغداد موعدا لي مع الحرية، لكنها في الآن نفسه كانت موعدا مع الخوف الذي لا أستطيع أن أجد له معنى محددا” (ص381).
فضلا عن ذلك، فهي سيرة ذاتية مختلفة، إلى حد ما، عما ألفناه في العديد من السير الذاتية الأخرى، لكونها كتبت بحرية وصراحة وتلقائية لافتة، وبدون حرج في معظم الأحيان، كما يبدو أنها كتبت خارج صرامة القواعد النظرية المؤطرة عادة لبعض الكتابات السيرذاتية، وخارج أية رقابة ذاتية مبالغ فيها، حتى إن أحد أصدقاء الكاتب، عبد الستار ناصر، فوجئ “بتلك الصراحة المطلقة التي راح يحكي بها، حتى عن نفسه وخباياها وأسرارها والمستور منها، بما في ذلك مثالبه وسيئاته وخسائره وحدود (حياته) التي رسمها دون أيما خوف أو توجس من العيب والتساؤل عما كان يفعله أيام الصبا”…
وهي أيضا سيرة ذاتية عن معنى الحياة ومعنى الكينونة، بموازاة مع ما يعرفه مجتمع اليوم من تبدل وتفسخ في القيم واهتزاز في المشاعر، ما يجعل منها حافظة تاريخية ووثيقة أساسية في معرفة أدق التفاصيل، وفي فهم المجتمع العراقي الحديث، ومن خلاله المجتمع العربي ككل، بأناسه الشعبيين والعاديين وغير العاديين، وبعاداته وسلوكاته وطقوس عيشه، في القرية وفي المدينة.
تتمثل هذه السيرة الذاتية، أيضا، العديد من الأخبار والحكايات، حول مجموعة من الظواهر والحالات والعادات السائدة في المجتمع العراقي في تلك الفترة: الطبخ، والأكل، والملبس، والشراب، واللعب، والأمراض، والأوبئة، والزواج، والبناء، والأفراح، والمآتم، وتجهيز البيوت، وتحرر الفتاة، ووسائل النقل، وليالي القرية والمدينة ونهاراتهما، وروائح المكان، والتربية الأسرية، وختان الإناث، وزينة النساء ومجالسهن، والعلاج التقليدي، والموت، والبغاء، والعادة السرية، والغرام المثلي، وظاهرتا “الفرخجية” (اللواطيون) و”الباجيات” (السحاقيات)، الأمر الذي يجعل من هذه السيرة الذاتية، في مستوى آخر، وثيقة أساسية للباحثين في مجال الأنتربولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، بالإمكان اعتمادها في دراسة المجتمع العراقي، في حضارته وتقاليده وخصوصياته وعاداته، كما أنها تشكل وثيقة تاريخية للأجيال القادمة، ممن فاتهم التعرف على البيئة والحياة العراقية في صورها الجميلة، بأمكنتها وعاداتها ونماذجها البشرية، في مراحل زمنية سابقة، أي قبل أن تتحول هذه البيئة إلى ما صارت عليه اليوم بعد سقوط بغداد، وكأن هذه السيرة الذاتية جاءت، في وقتها، لتقاوم جانبا من الفقدان الذي يخيم اليوم على موطن الطفولة، ولترمم تلك الجراح التي تسببها الحرب والفتنة اليوم لشعب العراق وحضارته ومجده.
وتبقى صورة “الجنس” إحدى الصور المهيمنة في هذه السيرة الذاتية، بمختلف تجلياتها وحكاياتها وشخوصها المرتبطة بها، بالنظر للحيز الحكائي المهم الذي منحه لها السارد في هذا النص، ينضاف إليها حديث السارد عن فضاء صداقاته العديدة، في مختلف المراحل الزمنية والبيوغرافية، بما يضفي قيمة جوهرية ونكهة خاصة على “الماضي”، في هذه السيرة الذاتية.
هكذا، يصبح للكل في هذا النص الأتوبيوغرافي قيمة وحياة، حيث تتعايش الوجوه إلى جانب النصوص والذكريات البسيطة والاستثنائية من حياة شخص وشعب بكامله، هو الشعب العراقي تحديدا، بشموخه وأناسه البسطاء، وبأبطاله التاريخيين والسلبيين، وأيضا بأدبائه وفنانيه، وهو ما يبرر على الأقل تخصيص الكاتب هذه السيرة الذاتية للحكي عن ذلك كله، في أبعاده الذاتية والذهنية والاجتماعية، انطلاقا من صلتها القوية بأسئلة الذات والمجتمع والعالم؛ الأمر الذي أكسبها نكهة إبداعية خاصة، نتيجة كونها طالعة إلينا من صفاء حكائي نادر، ومن سؤال وجودي حول معنى الحياة (أية حياة هي؟)، وليس من امتلاء بالثقة وتكلف وتضخم في الأنا وفي العلائق الاجتماعية، وذلك فيما يشبه سيرة ذاتية نهرية متدفقة بشذى الذكريات ولذة الحياة.

< بقلم: د. عبد الرحيم العلام

Related posts

Top