“البحر البعيد” لسعيد حميش بن العربي يحظى بتنويه الجمهور

يمثل فيلم “البحر البعيد” لسعيد حميش بن العربي، المغرب، في الدورة 21 للمهرجان الدولي للسينما بمراكش، التي تنظم ما بين 29 نونبر و2 دجنبر 2024.
اختار المخرج المغربي-الفرنسي، معالجة مجموعة من المواضيع المتصلة بالهجرة، من قبيل الهوية، والذاكرة، والعائلة، والحب، والاغتراب، واختلاف الثقافات، والمشاكل القانونية والاجتماعية التي تواجه المهاجرين غير النظاميين بأوروبا.
تتبعت كاميرا سعيد حميش بن العربي، قصة نور الدين بنمينة (أيوب كريطع) الذي هاجر من وجدة إلى مارسيليا، ليجد نفسه أمام واقع أليم، وحدها موسيقى الراي كانت تؤنسه في الغربة والهامش الذي كان يعيش فيه إلى جانب مهاجرين مغاربة وجزائريين.
وصور العمل السينمائي الصعوبات التي واجهها نور الدين في الاستقرار بفرنسا، بين سنة 1990 و2000، لاسيما في الحصول على عمل قار يجنبه الوقوع في متاهات السرقة والانحراف وإدمان المخدرات والمداهمات الأمنية والتشرد في الشارع.
رغم التكتل الذي أحدثه مجموعة من المغاربة والجزائريين في تأمين بيت للعيش وتكاليف الحياة، إلا أن المصالح الشخصية كان لها رأيا آخر، وهو ما سيفرض على كل واحد منهم ومنهن البحث عن خيارات مغايرة عن الأنشطة غير القانونية، كالبحث عن الزواج لتسوية أوضاعهم، في الوقت الذي تم ترحيل آخرين إلى بلدانهم، من قبيل الحسين، الذي سيعود مرة أخرى من الجزائر إلى فرنسا.
لقد اختار خالد الزواج بسيدة أخرى، غير حبيبته فضيلة التي كانت تقاسمه الوضع المزري في مرسيليا، وهو ما دفعها للرد على الخطوة بالزواج من رجل فرنسي، أمن لها “نسبيا” الوضع القانوني كمهاجرة في أوروبا.


كان الشارع الفضاء الوحيد الذي احتضن نور الدين بعد اقتحام أمني تم على اثره ترحيل بعض أصدقائه مع استثنائه من الإجراء، بتدخل من رجل الأمن سيرج الذي رحب به في منزله، رغم أن ذلك كان الهدف منه ممارسة “الجنس”، بيد أن موقف نور الدين من طبيعة هذه العلاقات حال دون وقوع ذلك.
إن فشل تجربة سيرج في الزواج، وإدمانه على ممارسة الجنس مع المثليين، أدى إلى وفاته بفيروس السيدا، وهو ما قرب نور الدين أكثر من نويمي زوجة الراحل سيرج، والتي قرر الزواج بها فيما بعد، والاستقرار في شقتها إلى جانب ابنها.
استطاع نور الدين الحصول على وثائق الإقامة بفرنسا بعد زواجه بنويمي، وهو القرار الذي اتخذه على مضض، بفعل ضغط والدته وعائلته و”هضرت الناس”، وكذا حاجته إلى إنقاذ نفسه من التشرد.
لم يكن خيار الزواج مصدرا للسعادة بالنسبة لنور الدين، الذي واجه انتقادا حادا من والدته وأفراد أسرته، لاسيما وأنه كان في علاقة حب بحنان (نسرين الراضي) التي اختارت السكن في القرية بعد إنجابها للبنت سلمى، هروبا من جحيم المدينة، حيث سيزورها مباشرة بعد عودته لأرض الوطن.
وجد نور الدين مجموعة من المشاكل في احتضان ابن نويمي، الذي كان يعبر تارة عن غضبه من العلاقة التي تجمع والدته بنور الدين الذي حل محل والده سيرج، وتارة أخرى، كان يقترب منه ويتفاعل معه من قبيل مرافقته في زيارة قبر والده، أو السفر إلى جانبه للمغرب.

ظل نور الدين غريبا في بيت نويمي، فتذبذب مستوى الحب بين الجانبين، كانت نتيجته توتر العلاقة والدخول في صراعات داخلية، بل واتخاذ قرار الطلاق في الأخير، خصوصا بعد انتقاد والدة نور الدين طبيعة اختيار ابنها لزوجته، والذي يعتبر فاشلا من وجهة نظرها المحافظة.
يظهر “البحر البعيد” كيف أن المهاجرين غير النظاميين ليسوا أحرار في قراراتهم التي تحكمها الحاجة إلى تسوية وضعهم القانوني. هل كان سيتزوج نور الدين من نويمي بعد فشل علاقة الحب بينه وبين شابة فرنسية ميسورة الحال؟ كيف كان سيفكر نور الدين في علاقته بحنان و”ابنته” سلمى لو كان وضعه الإداري والاجتماعي والاقتصادي جيدا بفرنسا؟
وأثار هذا العمل السينمائي، إشكالية العنصرية بفرنسا، من قبل المواطنين والسلطات الأمنية، التي ترفض تواجد العرب، وترى بأنهم “متعجرفين” و”متخلفين”، و”الترحيل” هو القرار الصائب في حقهم.
ونظير ذلك، يبقى المهاجر مصرا على الاحتفاظ بالعادات والتقاليد والأعراف التقليدية التي تشبع بها في مجتمعه السابق، وهو ما تمثل في رفض نور الدين للمثلية، ومقاومتها بشدة، رغم لقائه المتكرر بعناصر اختاروا التحول جنسيا، في الوقت الذي لا يجد فيه المواطن الفرنسي مشكلة، فنويمي لم تكن تعترض على اختيار زوجها سيرج ممارسة الجنس مع مثليين أثناء الحفلات الليلية.
وحظي الجانب النفسي باهتمام خاص في العمل، حيث ظهرت شخصيات المهاجرين، قلقة ومتوترة ومضطربة وتائهة، وكانت تواجه غربتها عن الوطن والعائلة بالتوجه نحو البحر، أو بإقامة حفلات جماعية للإحساس بالانتماء إلى ثقافة واحدة، علما أنهم يستقرون في مجتمع بثقافة وتصورات مختلفة.

لقد كان أيوب كريطع موفقا في تشخيص الدور الذي أسند له في هذا العمل، حيث ظهر أكثر انضباطا للنص السينمائي، من خلال تركيزه على حركات الجسد في انسجامه مع الخطاب اللفظي، ويرجع ذلك إلى الاختيار الجيد لشخصيات العمل أثناء الكاستينغ.
ومن جهة أخرى، كانت الاختيارات الفنية محترمة في التصوير والمونتاج وديكور الفضاءات التي تعيدنا إلى سنة 1990، فضلا عن الاستخدام الدقيق للمقاطع الموسيقية التي تحيل على غربة المغاربة في أوروبا، إنها صلة الوصل الوحيدة بينهم وبين الوطن الأم.
وصفق الجمهور الذي تابع عرض الفيلم، بحرارة، نظرا للمستوى الذي ظهر به، تقنيا وفنيا وجماليا وحكائيا، ما يجعله مرشحا بقوة للفوز بإحدى جوائز المهرجان، الذي يشهد مشاركة 14 فيلما من القارات الخمس.
وقال سعيد حميش بن العربي، إن فكرة الاشتغال على هذا العمل، كانت بدافع من صديقه المخرج المغربي كمال لزرق، مشيرا إلى أنه غادر المغرب منذ كان طفلا صغيرا لا يتعدى عمره 11 سنة، ليختار العودة إلى وطنه الأم من باب السينما.
وشارك في تشخيص “البحر البعيد”، الذي تبلغ مدته الزمنية 117 دقيقة، أيوب كريطع، وآنا موكلاليس، وكريكوار كولان، وعمر بولعقيربة، وريم فوكليا، وسارة هينوشبيرغ.

مبعوثا بيان اليوم إلى مراكش:
متابعة: يوسف الخيدر
تصوير: أحمد عقيل مكاو

Top