كشف المخرج وكاتب السيناريو والمنتج الكندي ديفيد كروننبرغ، أن الجسد يحظى باهتمام خاص لديه في أعماله السينمائية، معتبرا أفلامه وثائقيات حول الجسد، لأنه مستودع الدلالات والرموز والإشارات والتعبير عن المشاعر الإنسانية.
وقال ديفيد كروننبرغ، أول أمس الأحد، خلال برنامج “حوارات” الدورة 21، للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، إنه كان مهووسا في صغره بالأفلام السينمائية التي كان يشاهدها في قاعة سينمائية إيطالية بتورونتو (كندا)، وتحديدا أفلام الرسوم المتحركة ورعاة البقر، وذلك إلى جانب القصص التي كان شغوفا بها أيضا.
واهتمام كروننبرغ بالسينما ليس وليد العدم، بل ناتج عن المحيط الأسري الذي تربى داخله، مشيرا أمام جمهور الحضور الذي حج بكثافة للحوار، إلى أن والدته كانت تعزف الموسيقى على البيانو، بينما كان والده كاتبا يؤلف الكتب، “وهو ما انعكس على شخصيتي” على حد تعبيره.
ودعا المخرج الكندي في الحوار الذي حضره طلبة معاهد السينما بالمغرب، إلى الإبداع والمثابرة، بصرف النظر عن الإمكانيات التي قد تكون محدودة، ذلك أن التصوير بهاتف الكاميرا والاستعانة بالأصدقاء لتمثيل الأدوار، هو بوابة الدخول إلى عالم السينما.
ويرى أن نجاح أي فيلم سينمائي يستدعي وجود انسجام بين الصورة والصوت، موضحا أنه في الوقت الراهن سهلت وسائل التكنولوجيا مهمة صناع الأفلام على هذا المستوى.
وذكر ديفيد كروننبرغ في الحوار الذي أدارته أندريا بيكار مسؤولة البرمجة بالمهرجان الدولي للفيلم بتورنتو، أن أفلامه كانت مزعجة في البداية للصحافيين، بفعل أسلوبه السينمائي الذي ينزاح نحو العنف والدماء والسوداوية، لهذا ذهب البعض إلى وصفي بـ”المنحرف” و”ملك الدماء”، قال ضاحكا.
بيد أن هذه الأحكام سرعان ما تم التراجع عنها، بعد اكتشاف حجم التفاعل الذي لقيته أفلامه من قبل الجمهور، مبرزا كروننبرغ أن عمله الأول “ستريو”، الذي دعمته الحكومة، كلفه 105 ألف دولار، بينما حقق إيرادات أعلى بلغت 5 ملايين دولار.
ويرفض المتحدث ذاته أن ينزع عنه البعض صفة “الفنان” لا لشيء إلا لأنه يصور الرعب والعنف، مشددا على أنه لم يفكر يوما، من جهته، أن يسحب كلمة “فن” عن الأعمال المسرحية التي اختارت تجسيد العنف.
ويتحفظ ضيف المهرجان الدولي للفيلم بمراكش عن التصنيفات التي توضع فيها الأفلام من قبيل “الحركة”، “العنف”، “الرومانسية”، “الخيال العلمي”، موضحا أن عملا واحدا يمكن أن يشمل كل هذه الأصناف التي أحدثتها شركات التوزيع في التواصل مع الجمهور لدفعه نحو استهلاك العمل.
وفي تصوره فإن السينما لا يمكن أن تكون مهمتها التنبؤ فحسب، ولكن استشعار ما يحدث في الواقع: “وهذا ما أحاول أن أعكسه في أعمالي”، مشيرا إلى أنه يختار ديكور العمل بعناية، لاسيما الآلات التي تتطلب من فريقه وقتا طويلا لتصميمها وتجهيزها لتتماشى مع نص السيناريو.
ويعد الكاستنيغ في نظر ديفيد كروننبرغ من المهمات المعقدة والصعبة، لأن المخرج يكون أمام مهمة جمع عدة ممثلين في عمل واحد، فقوة المخرج تكمن في اختياره الجيد للممثلين، مقدما مثال فشل البعض في لعب دور الثنائي الزوجي بفعل غياب أي رابط بينهما أثناء التشخيص.
وأبرز كروننبرغ أن أفلامه تعتمد على العنف والخيال، لكن تستحضر كذلك الجانب الرومانسي، مبينا أن كل أفلامه تعالج الحب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، “فبقدر حضور الدراما بين الرجل والمرأة والأطفال، يحضر الحب والحياة والرومانسية كذلك”.
وعاد للحديث مرة أخرى عن علاقة الإنسان بجسده، مؤكدا أن الإنسان دائما كان يبحث عن التغيير في الطبيعية، لهذا لا يضع اليوم حدودا بين جسده الفيزيولوجي وبين عالم التكنولوجيا.
واستنادا إلى ديفيد كروننبرغ فإن التكنولوجيا ستبقى حاضرة بقوة في جميع أعماله لاسيما أنها وسيطا لا محيد عنه في يومنا هذا في نقل الأفكار وتقاسم التصورات، مؤكدا أنها لن تكون في يوم من الأيام مجرد محطة عابرة في مساره السينمائي.
ويشتهر كروننبرغ بأسلوبه السردي الذي يمزج بين الرعب والدراما النفسية، ويستكشف فيه الحدود الفاصلة بين الجسد والعقل، ويبرز موضوع الجسد المتحول في غالبية أفلامه، حيث يربط التحولات الجسدية بالأزمات النفسية أو الاجتماعية، ليخلق مشاهد مرعبة، غير أنها تحمل عمقا فكريا، وكان لديه دائما ميل لاستكشاف العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، مع التركيز على كيفية تأثير الابتكارات العلمية على الهوية الشخصية والسلوكيات الاجتماعية.
من خلال استخدامه للمؤثرات الخاصة الجسدية من قبيل المشاهد القاسية والمشوهة، كان كروننبرغ يسعى دائما لتحدي المألوف، وجعل جمهور أفلامه يواجه مخاوفه من الجسد والموت والتحولات التكنولوجية في عالم معقد ومتغير.
وتحظى أفلام ديفيد كروننبرغ باستحسان من لدن النقاد، وباعتراف على الصعيد الدولي، ففي سنة 1991، تم اختيار فيلمه “الغذاء العاري” للمشاركة في مهرجان برلين، وفي سنة 1999، فاز “إكزیستنز” بجائزة الدب الفضي.
ومن جهة أخرى، شاركت أفلامه “اصطدام”، و”العنكبوت”، و”تاريخ من العنف”، و”المدينة العالمية”، و”خرائط النجوم”، و”جرائم المستقبل”، و”الأكفان” في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، حيث فاز “اصطدام” بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.
وفي سنة 2006، منح من قبل فقرة “أسبوعي المخرجين” بمهرجان كان، جائزة “العربة الذهبية” تقديرا لمساره السينمائي المتميز، كما خصه مهرجان البندقية السينمائي الدولي بجائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعماله خلال 2018. وحظي، سنة 2024، من مهرجان تورونتو السينمائي الدولي بجائزة نورمان جويسون عن كامل مساره المهني، اعترافا بإسهاماته المتميزة في الفن والثقافة، ووشح ديفيد كروننبرغ بوسام كندا من رتبة رفيق، ووسام جوقة الشرف الفرنسي.
ديفيد كروننبرغ: أفلامي وثائقيات حول الجسد ويصفونني بـ”المنحرف” و”ملك الدماء” لاهتمامي بالعنف
الوسوم