نظمت “جمعية مسارات للتنمية والمواطنة”، أخيرا، ملتقاها الوطني الأول للقصة القصيرة جدا، حضرته فعاليات نقدية وإبداعية من مختلف ربوع البلاد.
تضمن الملتقى، الذي احتضنه مركب الحرية، تكريما للأديب حميد ركاطة لإنجازاته القيمة في مجال القصة القصيرة جدا، إبداعا ونقدا، كما شمل فقرة للقراءات القصصية ساهم فيها عشرات القاصات والقاصين، علاوة على ندوة هامة حول موضوع “التجريب في القصة القصيرة جدا: نماذج مغربية” ساهمت فيها نخبة من النقاد المغاربة، في ما يلي مقتطفات منها:
محمد يوب: كوة فيها بصيص النور
في مداخلة مسهبة، تناول الناقد الدكتور محمد يوب مجموعة من الإشكالات، من بينها أشكال التجريب في القصة القصيرة جدا، إذ اعتبر أن التجريب هو ابتكار طرائق وأساليب جديدة لأنماط التعبير الفني المختلفة، وأنه ممارسة فنية مؤطرة بأفق إبستيمولوجي غايته نقض التّكرار المُمِل، وخرق المتداولِ والمألوف في الكتابة القصصية القصيرة جدا، يكسر نظرة الانبهار بالقديم؛ بابتكار سلسلة من التراكيب اللغوية، وجملة من فنون الخداع والهياكل البنائية غير الدائمة.
وهو، بهذا المعنى، رؤية فنية ذاتية وصيرورة فكرية شخصية، يصوغها القاص في مختبره أو مشغَلِهِ القصصي، الذي يخضع باستمرار للتبديل والإزاحة والتحوير وتقليب القوالب الجاهزة.
ومن خاصيات القصة القصيرة جدا، حسب هذا الناقد، أنها “شكل تعبيري نقي، تتقوى بفعل تقاطعاتها مع أشكال تعبيرية مجاورة أو محاورة، وتموت عندما تتراجع باحثة عن جذورها وشجرة أنسابها، لأنها تستمدّ أصالتها من كينونتها الذاتية التي كفلت لها التّميز داخل غابة السرد.”
ومن مظاهر التجريب في القصة القصيرة جدا، حسبه، أنها شكل تسويقي يُعنى بالعتبات (نصوص موازية لها وظيفة سميائية تشد اهتمام القارئ) وبتوزيع سواد النص على بياض الورقة وحسن توزيع علامات الترقيم، وبكاليغرافية النص، معتبرا أنها فن إقلالي (مينيمال) يعتمد التكثيف ويبتعد عن الاستطراد، ويرتكز على التلميح والترميز بدل مشهدة الأحداث وتتبع نموها الخطي، وفيها يتداخل الشعري والنثري، فتجترح لغة مقاربة للواقع، مفارقة له في الآن نفسه، تخلخل توقعات القارئ بنهاياتها المختلفة لمجرى الأحداث (القفلة المدهشة)، وتورط القارئ في ملء فراغاتها، سيما أنها تعتمد على المضمر وفائض المعنى، كما تعتمد على لغة منزاحة تنتج دلالات متعددة بتعدد القراء، تخاتل هذا، وتخادع ذاك دون أن تثبت على معنى محدد، وهي، حسب الناقد نفسه، تصور لحظة إنسانية شعورية منتقاة بدقة فائقة تهتم بالحدث وتجعله أكثر إثارة للتتبع وتصور الشخصيات وهي تفعل ولا تنفعل، كما أنها تتميز بسلطة الراوي على حساب باقي مكونات السرد، تحيا بالمفارقة وتموت بالوصف، تهتم بأفعال الشخصيات وأدوارها بدل أن تركز على الشخصيات التقليدية، تختار الجمل الفعلية بدل الجمل الوصفية، وتعتمد السرد الوامض الخاطف بدل الخيال الجامح، واعتبر يوب أن القصة القصيرة جدا بؤرة اصطدام المشاعر الداخلية والخارجية تعتمد على الأفعال الحركية المتلاحقة التي تسرع من وثيرة الأحداث، وتصور حدوث كل شيء في وقت واحد، تشترك في كتابتها ثلاث أياد هي: يد القاص ويد النص ويد القارئِ الذي يُفعل عَملية التجريب ويترجم أبعادها ودلالاتها.
جميلة الرحماني: خارج الأسوار
واعتبرت الدكتورة جميلة رحماني أن التجارب التي تناولتها في قراءتها متباينة في النضج ومقدار التجريب وتجاوز القوالب والأشكال المستهلكة.
فالكتابة القصصية، حسبها، عند محمد العتروس مثلا، تجربة إبداعية لها سماتها وخصائصها وملامحها المميزة. فيها تتحقق المصالحة بين الشكل والمضمون، ويتوغل السرد في جوهر اللوحة ليمتح منها ما بوسعه، للانطلاق نحو مغامرة سردية تعنى بالألوان والخطوط والمعادلات التشكيلية وغيرها..
لذلك، فنصوصه، في مجموعة “غالبا ما”، نتاج تجاور بنيتين من نسقين تعبيريين متمايزين، نتاج امتزاج الشكل (البصري) بالخطاب (اللغوي) القصصي، لذلك، حسبها، غطى القاص في مجموعته هذه مساحات شاسعة في حوار السرد والتشكيل، بدءا من الإهداء، الذي جاء شكله عبارة عن كسر النظام المألوف بتمزيق أوصال الكلمة الواحدة عبر فك ارتباطها وتفتيتها وبعثرة حروفها على الصفحة، كما استثمر سطح الورقة بتقنيات الطباعة كالشكل الكتابي، ما جعل هذه الإجراءات أكثر مرونة وحرية للانطلاق في فضاء النص. وتوزيعها ليأخذ شكلا بصريا مساعدا في عملية التوصيل.
هكذا، عمد القاص إلى عرض نصه على الورقة/ الصفحة بشكل أفقي/ عمودي.. ونثر آخر النص على طريقة القصيدة الحرَّة مما يعطي القصة انطباعًا شاعريًّا وبعدا تتعاقب فيه نفسية القارئ بين نفس قصير وآخر طويل. فحين تتمدد الحكايا على سرير السرد تشتعل الكلمة دما في شرايين واقع وذات، فهي قصص/ لوحات فنية شكلتها ريشة قصاص ترتجف لتوقظ وجع الألوان، على أرخبيل البياض أين نبتت أسرار نصوص سردية ترتوي من شهقة اليقين.
وبغية استنفار حواس القارئ، وتكسير رتابة السرد، ولتعميق الخطاب السردي لدى المتلقي في تحقيق البعد الكرافيكي، إضافة إلى أساليب عديدة في توزيع وتشكيل الجمل ومقاطع النصوص القصصية، وإخراجها في منظور مغاير عما هو مألوف، خروجاً من مأزق التقليد والنمذجة المتوارثة.
كما اعتمد، حسب الناقدة، صورا عبارة عن مخطوطات يدوية للقصص، مكتوبة بخط القاص نفسه، وتدلنا هذه القصص البصرية على التحول من بلاغة الألفاظ والأصوات إلى بلاغة الأيقونة، واستجلاء الوقع الفني والجمالي الذي حققته القصة البصرية. وأثرها في عملية التلقي، وفي إثارة القيمة الجمالية للنص القصصي عبر خرق السنن المألوفة، فأصبحت القصة مرئية، وحدث التمازج بين اللغة والصورة واختلطت العلامات اللغوية بالرسوم والأشكال وأصبحت القراءة تذهب من الصورة إلى النص، وتعود من النص إلى الصورة لإحداث التواصل.
وبهذا، تكون النصوص القصصية عند محمد العتروس صمت وصوت، سواد وسط البياض.
أما بخصوص مجموعة ”حدثني الأخرس بن صمام” للقاص جمال الدين الخضيري، فاعتبرت رحماني أن التجريب يقوم، ضمن ما يقوم عليه، على شعرية الاستدعاء، حيث يمتح آلياتها السردية من الموروث السردي العربي القديم، وخصوصا منه فن المقامة، مستعينا بأشكالها السردية لغة وخطابا وأسلوبا وتقنية وموروثا، بطريقة إبداعية.
وبذلك، تشدك صياغته لحكايا الذات والواقع، الممتدة في مساحات قصص منسوجة بقلقه ورؤاه هو المتأمل الشارد في تناقضات ومفارقات الحياة، وهو في ذلك يسعى لتقديم الجديد، ووضع بصمته الخاصة في كتابة القصة القصيرة جدا. تلك المصاغة على شكل يحاكي المقامات، حيث ينقل القارئ إلى نص قصصي يتكئ على الموروث في الشكل واللغة. بعد أن نفخ فيها من روح العصر، وبذلك يكون نسج نصوصا تراود التغيير عن نفسه، وتقد قميص النمطية، ما يجعل القارئ وهو في حضرة هذه النصوص كأنه صعد إلى مركبة الزمن ليتنقل بين أزقة أزمنة غابرة، ويتنفس عبق تاريخ ينبعث من جديد.
واعتبرت الناقدة أن القاصة فاطمة الشيري ولجت معبد السرد بعد أن غادرت الشعر، وهي تلامس جوهر القضايا الإنسانية مع تركيزها على الذات، وإبراز انشغالاتها، باعتبارها سيدة المقام في الكتابة الإبداعية. وهي ذات مشبعة بواقع يؤطر فعل الكتابة، وكأنه ينقش صورته في غفلة من الذات الباثة للقول. كما سعت للإنصات لإيقاع نبض المجتمع، ومحاولة خلخلة السياقات المتجذرة التي تسهم في استمرار الوضع، موضحة أن اقتراف القاصة لفعل الكتابة كان بقصد تشريح وضع الذات الكاتبة/الساردة، ومن ثمة تشكيل نص سردي على مقاس جغرافية السرد وخصوصياته، من ثمة جاءت مجموعتها القصصية ”مغيب شمسي” معلنة ميلادها في عالم السرد.
*عبد المالك أشهبون: الكثير من كتاب القصة القصيرة جدا يسيئون إليها من حيث لا يحتسبون
كثير من الكتاب يسيئون للقصة القصيرة جدا من حيث لا يحتسبون في مداخلته، توقف الناقد الدكتور عبد المالك أشهبون عند ثلاث مجموعات قصصية هي “دموع فراشة” لحميد ركاطة و”حين يتكلّم الغبار” لرحيمة بلقاسو، “وطن وسجائر بالتقسيط” لأحمد السَّقال، معتبرا أن التجريب القصصي فيها له أكثر من تجل، من خلال التنويع في أسلوب عرض الوقائع والأحداث، والتي تراوحت ما بين القصص الواقعي والقصص الرمزي، واعتماد أسلوب الحكاية، كل ذلك بحثا عن أشكال قصصية جديدة، واجتراح أساليب مغايرة لما هو مألوف.
وبخصوص المجموعات التي اشتغل عليها الناقد، رأى أن القواسم المشتركة بينها متعددة لكن أهمها هو توظيف السخرية، معتبرا أنها أسلوب مناسب لعرض العديد من القضايا والإشكالات المجتمعية قصصيا، يحتاجها المبدع في أمكنة تعمها الفوضى، وأزمنة يطبعها القمع والعبث واللامعقول.
ومن النماذج البشرية التي ركز عليها الخطاب الساخر في هذه المجموعات، عرض الناقد، نموذج المثقف الساخر والمسخور منه، ففي مجموعة “دموع فراشة” لركاطة، صادف الناقد في قصة “شروخ” نموذج المثقف الذي يتخلى عن مواقفه المبدئية، بينما نجده في قصة “نافذة” يقضي ثلثي وقته في تتبع مؤخرات العابرات، وتزجية الوقت، فيما يخصص الثلث الأخير من دوامه للحديث عن التنمية المستدامة، لكن داخل فضاءات ثلاثة هي: المقهى والجمعية والمنابر الإعلامية.
وفي مجموعة أحمد السقال توقف الناقد عند نموذج الأنا ـ المثقف، ففي قصة “قراءة” يلتقط القاص بأسلوب ساخر، نظرة الاستهزاء من الغني الذي يدخن سيجاره الكوبي نحو المثقف المسخور منه، وذلك، عندما قال له: «ماذا يقولون لكم في تلك الصفحة الثقافية». إنها نظرة استهزاء مرة، بكل ما تحمله من نكهة سخرية تجاه هذه الفئة المجتمعية، التي ترى أن قيمة الإنسان، تقدر بمقدار ما لديه من مال، وليس بما يملكه من رصيد ثقافي. وهنا، تبدو لهجة الهجاء واضحة، بحيث تقترب هذه القصة من العمود الصحفي الذي يمارس لعبة الوخز بالعبر، قياسا على العلاج الذي يعتمد الوخز بالإبر.
نموذج الشخصية الفاسدة سياسيا، هنا أيضا توقف الناقد عند مجموعة “دموع فراشة” ممثلة في قصة “التنين”، حيث المرشح الانتهازي الذي أجهز على كل شيء جميل في المدينة إبان ولايته، ولما هم بالترشيح مرة أخرى، «باع ما تبقى من كرامة أهلها، وساق أشرافها نحو حظيرة».
وإضافة إلى نموذج رجل السياسة الفاسد، عثر الناقد على نماذج قليلة من الشخصيات التي تدافع عن حريتها. تقول رحيمة بلقاس على لسان شخصيتها في قصة “الحرية”: «غادر زنزانته فخوراً، كل شيء يهون من أجل الكرامة، أحسّ بالمرارة وهو يرى الرّؤوس مطأطئة. حينها تأكّد أنّه كان بالحريّة ينعم هناك».
من هنا يبدو أن السخرية السياسية، حسب الناقد، في هذه القصص القصيرة جدا، لها ما يبررها من جهتين اثنتين:
أولا: لأنها تساعد على التواصل غير التقليدي بين المتلقي والقاص، كما تحفزه على تمرير الرسائل في قالب ساخر.
وثانيا: لأن السخرية في السياسة تزيل هيبة السلطة الكاذبة لرجالها ونسائها، فيصيرون بشرا مثل بقية البشر، وهنا تتجلى أبرز وظائف السخرية في هذه القصص القصيرة جدا، ألا وهي وظيفة الهجاء أو النقد الاجتماعي والسياسي.
نموذج المرأة الساقطة أخلاقيا:
وعند هذا النموذج، استعرض أشهبون مجموعة تمظهرات، أهمها: الخيانات الغرامية، ففي قصة بعنوان “الصرار والضفدعة”، يحكي ركاطة حكاية خيانة زوجية غير عادية، بلغة غامرة بالتكثيف، تتشكل عبر انتقالات حدثية باهرة، وايحاءات رمزية أغنت فضاء المبنى السردي. يقول السارد: «وهي بقربه على السرير، سألها إذا ما كانت لا تزال تحب زوجها. قالت الضفدعة باحتقار: هو مجرد حمار لأثقالي، وشباك أوتوماتيكي لكل طارئ، ودفتر شيكات لأداء ضرائبي المتأخرة. لكن الصرار عقب على كلامها مشككا:
أنت لاتزالين تحبينه؟
ردت خائفة:
كلا!! كلا!! ياقرة عيني…
اطمأن الصرار وغرق في شهدها طويلا… فجأة سألته:
وأنت ياعزيزي، هل تحبني؟
رد مرتبكا: طبعا!! طبعا!! كلما دفعت لي بسخاء أكثر.» وهنا لاحظ الناقد أن القصة تأخذ شكل حكاية تجعلنا نبتسم بمرارة، إزاء هذا المشهد الداعر، الذي يجسد عبث وانحطاط وتفاهة كل من الرجل الصرار والمرأة الضفدع، وهنا تتجلى السخرية، حيث الحوار بين كائنين غير بشريين، لكنه يحيل على مسألة شائكة تتعلق بأقدم مهنة في التاريخ وهي الدعارة، كاشفا لنا تشبث الطرفين بأوهام الحب والصدق والإخلاص، فيما وراء هذه الأوهام تتغلغل أقنعة الزيف والخداع..
وختم الناقد مداخلته بلفت انتباه الحضور إلى أن الكثير من كتاب القصة القصيرة جدا يسيئون إليها من حيث لا يحتسبون، وأن العبرة ليست بكم الإصدارات بل بنوعها، وبه فقط تستطيع نصوص القصة القصيرة جدا أن تقنع المتلقي وتفحمه بتلقيها تلقيا واسعا.
محمد المهدي السقال: متَنفس تعبيري باللغة لفيض معاناة الذات الفردية
اعتبر محمد المهدي السقال أن التجريب في القصة القصيرة جدا انزياح عن المألوف، تأسيسا على وعي ذاتي بالحاجة إلى تعبير فني يعكس الموقف والرؤية للوجود والعالم، من خارج الأطر المرجعية المهيمنة والمتحكمة في الكينونة الفردية أو الجماعية، إثرها، توقف عند ما أسماه “المؤتلف والمختلف بين النصوص التي اشتغل عليها وهي: “نيرفانا” لسعيد السوقايلي، و”انكسار السراب” لزكية حداد و”رسومك حيطاني” لعلي بنساعود، و”ندوب” لميمون حرش.
الناقد أشار إلى أن هذه المجموعات تشترك في الإعلان عن هويتها الفنية (القصص القصيرة جدا)، مثيرا الانتباه إلى أنه رغم تقارب تواريخ صدورها، فهي لا تبدو متقاربة في نزعتها التجريبية.
وبعد وقوفه عند حجم المجموعات والنصوص، أشار إلى أنها تقاسمت منحى تشكيل بصري للنصوص، يقوم على كسر خطية البناء الأفقي باعتماد بنية عمودية تقوم على نظام الأسطر بوقفات النقط والفواصل ونقط الحذف في الغالب، كأن النص قصيدة نثر، وقد تباين تصفيف خط الكتابة في الصفحات بين الوسط مطلقا في “ندوب”، واليمين والوسط مراوحة في “رسومك حيطاني”، بينما اعتمد “السوقايلي” و”حداد” على تصفيف الكتابة من اليمين مطلقا.
ولعل أولى عتبات التجريب في كتابة القصة القصيرة جدا، حسب السقال، سعيُها نحو استعادة الحضور الداخلي للكاتب ساردا وراويا، بعد هيمنة الحضور الخارجي على مضامينها، ارتباطا بما ظل عنوانا لسؤال وظيفة الأدب في الحياة الاجتماعية، تحت ضغط إكراهات البنى الإيديولوجية وتحكمها في توجيه مسار حرية الفرد أو المجتمع، ضد اختيار شكل ومحتوى الحياة التي يرغب في عيشها، من ثمة ظهر ما أسماه “تيار الوعي في القصة القصيرة جدا”، وهو “وعي أنثوي جريح” في “انكسار السراب، ووعي قومي كسيح في “ندوب” ووعي سريالي بالتمزق في “رسومك حيطاني” ووعي بغيبوبة الصحو في “نيرفانا”.
يأتي هذا، حسب الناقد، بعد أن أصبحت القصة القصيرة جدا حكاية عن كينونة الفرد في رؤاه وتصوراته بلا منازع، من خلال وجوده الشخصي أو وجود النماذج التي يلتقطها، باعتبارها معادلات موضوعية لما يفكر فيه أو يحلم به شعوريا ولا شعوريا.
وحسبه أيضا، فقد وجد كتاب القصة القصيرة جدا ضالتهم في استثمار إمكانيات تيار الوعي في الأقصى، لتمرير رؤاهم وتصوراتهم عبر التداعي والحلم والأصوات السردية التي يحركونها من خلال طفو الشعور حينا واللاشعور حينا، باختيار الإسناد إلى الضميرين المهيمنين، الغائب تلميحا أو المتكلم تصريحا، بحسب استدعاءات المواقف وحساسيتها الاجتماعية أو الدينية أو السياسية.
إثر هذا، زعم السقال أن رواج القصة القصيرة جدا في مقدمة الإنتاجات السردية اليومَ، لا يفَسَّر باستسهال الكتابة فيها، بل بما تمثله كمُتَنَفَّس تعبيريّ باللغة لفيض معاناة الذات الفردية، لذلك، سيشكل حضور تيار الوعي المرتبط أساسا بتطور دينامية الشخصية في المتون السردية القصصية والروائية، أبرز خاصية في بنية القصة القصيرة جدا، باعتبار قابلية تكثيفها للتضمين بالإشارة في منطوق الشخصيات المعنوية أو الرمزية.
محمد محقق: المرأة بين الأمل والألم
من جهته، اشتغل الأستاذ محقق على مجموعة نصوص لكل من القاصة ثريا بدوي (نوتات عشق باردة) والقاص عبد الرحيم هيري (همسات الروح) والبشير الأزمي (أصيص الأحلام) و(شاي وشجون) لمصطفى المودن.
وانتهى الناقد إلى أن مجموعة من نصوص هذه المجموعات تشترك في عنصر الكتابة عن المرأة، حيث العلاقة التي يمكن تحديدها في تيمة الاتصال والانفصال، والتي نجحت فيها القاصة ثريا بدوي في قصتها “الضحية” و”ضربة مقص” والتي عبرت من خلالهما عن الصراع بين علاقة الأنثى وعلاقة الرجل، تلك العلاقة المحرمة والمحلية من الذاتية وبمصدر حياتهما وحيويتهما في حين عكست قصص مصطفى المودن الهموم الذاتية المستخلصة في العاطفة المتأججة والكشف عن الإكراهات والوحدة فيما يتعلق بالحمل المؤجل، في حين نجد أن قصة ظمأ للأزمي تعبر عن نظرة الرجل إلى المرأة نظرة مكر وطمع في ما يثير ويحرك غريزته نحو جسدها المشتهى، ومشاعره المشبوهة، وهو هنا أيضا يتفق مع بعض قصص القاص عبد الرحيم هيري حيث انعدام التفاهم مع الذاتين المشبعتين بالظمأ والمكيدة.
وهكذا، يستنتج محقق من خلال هذه المجاميع رؤيا قصصية موحدة وأن انطوت على مضامين متنوعة، إذ كل كاتب أبحر في مجموعته للبحث عن ذاته وعن حقيقته الوجودية.
وبذلك، تكون القصص تضمنت العلاقة بين المرأة والكاتب/ الرجل… بين الاشتهاء والمنع… بين القبول والرفض… في هذه القصص يتحسس القارئ حضور المرأة بقوة وهو انعكاس لواقع ملموس يحمل في داخله نقلات مترابطة ومفصلة لفضاء الذات الأخرى /الرجل حيث عكس عمق الهم الفردي.
مسلك ميمون: كلّ تجربة لها ما لها وعليها ما عليها
اعتبر الدكتور مسلك ميمون، في مداخلة بعثها إلى الندوة، بعدما حالت ظروفه الصحية دون حضوره، أن الحديث عن التجريب في القصّة، و(القصة القصيرة جدا) بخاصة، عملية تكتنفها صعوبات، ومشاكل تقنية ومنهجية، لم يفصل فيها النقد الحديث، لذلك، فهي تشكل نقطة حوار مستمر، مضيفا أن مجموعة من القاصين المغاربة الذين يكتبون القصة القصيرة جدا يعتريهم همّ التّجريب، منهم حسن برطال، وجمال الدّين الخضيري، وعلي بنساعود، ومحمد محقق، ويتميز هؤلاء، ضمن آخرين، حسبه، بالسعي للخروج من إطار المسارات المستهلكة، إلى فضاءات التّجديد والابتكار والخروج عن المَكرور، موضحا أنّ المسألة ليست بالسّهولة التي يَعتقدها البعض، فكلّ تجربة لها ما لها وعليها ما عليها. لكن الأهمّ هو البحث عن آفاق أخرى لمتعة سَردية مختلفة.
فبخصوص التّجريب في قصص حسن برطال، يرى الناقد أنه يتمثل في أربع سياقات هي: سياق الاستعارة والكناية، حيث لغة القص تختلف عن اللّغة المعيارية، لأنها تعتمد المجاز وضروب البلاغة من استعارة وكناية وتشبيه.. وسياق المقارنة، وهي ليست مقارنة من أجل المقارنة، بل لتمرير خطاب، أو الوصول بالقارئ إلى فَهمٍ ومَعنى، وحقيقة كانت غائبة أو مُغيبة، أو مجرّدة.. وسياق السّخرية، وحسبه، فإن برطال جبل على هذا السياق، الذي لا تخلو منه مجموعة من مجموعاته.. إضافة إلى السياق الأسطوري، وهو سياق عجائبي يتماهى فيه الواقع والخيال، خارج إطار المألوف والمُعتاد.
أما عن التّجريب في قصص جمال الدين الخضيري، فأوضح الناقد أنه يتمثل في التّعبير الفنّي، إذ القصّة، حسبه، تعبير عن حالة، وهو تعبير يقتضي لغة فنّية تختلف كلياً عن اللّغة المعيارية، أو الصّحفية، أو الإشهارية، وهي لغة تخضع لمعايير التّعبير القصصي.. أما الملمح الثاني، فيتمثل، حسبه، في الاستيحاء من المثل والاستفادة منه بطريقة ذكية، وفنّية..علاوة على التّجريب من خلال بناء الجملة، وهنا يحيل الناقد على دراسة في الموضوع، للدكتور جميل حمداوي، تحت عنوان: “أنواع الجملة ومقاييسها في القصّة القصيرة جداً (جمال الدّين الخضيري نموذجاً)”، حيث جاء التّركيز على بنية ودلالة ومقصدية الجُملة.
أما عن التّجريب في قصص علي بنساعود، فيوضح الناقد أن أغلب من قرؤوا لهذا القاص أعربوا عن اندهاشهم من طريقة الكتابة وغموضها، وأن الأمر واضح من عناوين مجموعاته الخمس، مستشهدا على ذلك بأقوال بعض النقاد (حليمة زين العابدين ومحمد يوب…)، مضيفا أن كتابة بنساعود في دقتها واختزالها الشديد، تعمد قصدا إلى السرد المتقطع المتطور، حفاظا على اللغة الشعرية المكثفة التي تصبح فيها الشخصية مجرد علامة سميائية، والحدث دلالة عن حالة، واللحظة القصصية، مفاجئة خاطفة.
وحدد الناقد عملية التّجريب النّصية لدى هذا القاص في اعتماده “العلاقة التضادية”: (غموض/ وضوح، اختفاء/ ظهور، واقعي/ خيالي) التي تفسح المجال للتّأمل، وتثير الخيال والتّخييل لدى المتلقي، لملء بياض النص وفراغاته… إضافة إلى”أسلوب التشابك”، إذ في نص واحد تتداخل أفكار مختلفة تبدومتنافرة، لكن خيطا رفيعا يجمع بينها، ويحقق الصورة السردية المتوخاة… ناهيك عن “غياب الحبكة/العقدة أو هكذا يبدو في بعض النّصوص حين تطغى اللّغة الشّعرية، أوتتشابك الرّؤى والأفكار، علاوة على “انتفاء العلائقية” في بعض النّصوص لِتحقيق مساحات البياضوالفراغ، إضافة إلى مسارات سيمية، تتمثل في تعمّد القاص، في كل مجموعاته، أن يتّخذ لغة المُؤشّرات والتّلميحات والتّرميز، دون أن يحيد عنها…
وكلّ هذا يندرجُ في رغبةِ القاص في التّجريب والبَحثِ عن كتابة مُختلفة، بعيداً عن النّمطية، واجترار ما هو كائن.
أما عن قصص محمد محقق، فأشار الناقد إلى أن القصة القصيرة جدا عنده قصيرة الحجم، معدودة الكلمات، قصيرة الجمل، تعتمد المعاني الإيحائية، في تتابع، وتسريع، وتبئير.. وهي في إطار التّجريب أنواع هي: “قصّة الحالة” والهدف منها، حسبه، خلق إحساس بالحالة لا قول المعنى. و”قصّة المفاجأة” وقفلتها غير منتظرة، تأتي بمفاجأة لا تخطر على بال المتلقي، فتغير استنتاجاته، و”القصة الغرائبية” وتتسم بالغرابة أسلوبا وبناء ودلالة، ما يجعل المتلقي أمام تشكل تخيلي غريب، غير مُعتاد.. علاوة على “القصة بأسلوبين” حيث لا يكتفي القاص، أحيانا، بالكتابة الأولى، وإذا حدث وأعاد الكتابة، يحدث أن يحتار أي الأسلوبين أجدى وأنفع؟! وفي قمّة الحيرة، وعدم القدرة على تحديد الاختيار الأنسب، يتبناهما معا، كما حدث ذلك في بعض نصوصه.
محمد داني: الكتابة نفخ للحياة
وحسب الناقد محمد داني، فإن كتابة القصة القصيرة جدا أصبحت، اليوم، عند كثيرين، عادة جارية، واستسهالا يسهل الخوض فيه، وهذا الاستسهال هو ما أعطانا قصصا قصيرة جدا ركيكة، ضعيفة، تشبه إلى حد كبير الكتابة النكتة، والألغاز والمستملحات. وحسبه أيضا، فإن مقترفي هذا النمط من الكتابة يقدمون نصوصا إنكارية Apophatique، تدخل القصة القصيرة جدا في متاهات لا يمكن الخروج منها. لأنها تنفي هذا الفن، وتحوله إلى كتابة استسهالية وإسهالية، عادية، تؤدي إلى الموت والاندثار، مضيفا أن أكثرية الكتاب يتسرعون في إصدار مجموعاتهم القصصية مباشرة بعد الانتهاء من الكتابة الأولى دون تنقيح أو تشذيب أو إضافة… وهذا الأمر، في نظره، يخفي في باطنه أزمة، هي أزمة كتابة القصة القصيرة جدا، وهي أزمة خفية تتمثل في طفرة في المجاميع القصصية.
وبخصوص التجديد والتحول فيما يكتب من قصص قصيرة جدا، يرى داني، الذي تعذر عليه بدوره الحضور، فبعث مداخلته للندوة، أننا نجد أنفسنا كمتلقين أمام نصوص يضيع فيها القارئ، فتصبح في قابل الأيام منشورات غير مقروءة، وغير مرغوب فيها.
ورغم أن القصة القصيرة جدا، كنص أدبي، ما زالت تبحث عن ذاتها، وعن موقع قدم بين الأجناس الأدبية السابقة لها، فإن التسرع والاستسهال، والثقة الزائدة في النفس تجعل من الكتابات الحالية، حسبه، كتابة سوقية، مع العلم أن الكتابة ليست مجرد ربط بين العبارات… وإنما هي نفخ للحياة… بل حياة في كلمات.
وأكد الناقد، في مداخلته، أن “استسهال كتابة القصة القصيرة جدا سيدفع آخرين (قراء ومتلقين) إلى الكتابة أيضا، ما داموا يتخذون هذه النصوص أنموذجا ومثالا يحتذى.. معتبرا “أن القصة القصيرة جدا، اليوم، أصبحت تعيش على الاجترار والتكرار، خصوصا أن كتابها أصبحوا يعيدون كتابة ما يقرأونه، ويقومون باستنساخه، عاملين بذلك على تمييع هذا اللون الأدبي.
لذا، فهو يقترح عليهم أن يضعوا حاجزا بينهم وبين الكتاب الذين يقرأون لهم. كما أن كتابتهم يجب أن تكون مغايرة للكتابات الأخرى التي يقرأونها. إذ لكل واحد حداثته، وطريقته في التعبير ودبج اللغة.. ولكل واحد منهجيته ورؤيته.
وعن تساؤل يقول: هل تستطيع القصة القصيرة جدا أن تحتوي الحكاية وتتضمن التاريخ؟
أجاب أن طبيعة تكوين القصة القصيرة جدا، وتفردها بخاصية القصر والقصير جدا لا يسمح لها بالامتداد لبسط حكاية، وأن التاريخ يتطلب مساحة أكبر لسرد كل الأحداث والوقائع، وأن قصرها الشديد وكثافتها واختزالها يقيدانها ويحدان من حريتها، وأنه لتجاوز هذا الإشكال، عمد بعض الكتاب المغاربة (حسن برطال في مجموعته القصصية (عائد إلى “فيفا”)، ومحمد محقق في (القبعة والكاتب) إلى جعل القصة القصيرة جدا متسلسلة الحلقات، إذ تشكل المجموعة القصصية موضوعا واحدا مجزأ إلى عدد النصوص التي تتضمنها، كأن الأمر يتعلق برواية متشظية. كل نص يحمل فكرة مكملة لما قبلها، لتشكل في النهاية الفكرة العامة والتي يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ.
> متابعة: علي بنساعود