من يتابع حالتنا السياسية الوطنية، لا يمكن اليوم أن يحس أن البلاد مقبلة فعلا على استحقاقات انتخابية بعد شهور قليلة، ذلك أنه لا يوجد أي نقاش سياسي عمومي بهذا الشأن، ولا حديث عن البرامج أو البدائل أو الرؤى سواء في القنوات التلفزيونية أو في كامل مشهدنا المجتمعي، عدا مبادرات ذاتية أو اجتهادات هنا أو هناك.
الانتخابات المرتقبة في بلادنا ليست معادلات حسابية أو تقنية، كما يراد اليوم التعاطي معها، وإنما هي مسألة سياسية بامتياز، ومن ثم هي تقتضي حوارا سياسيا عموميا قويا في المجتمع ومن خلال الإعلام، وذلك بغاية تعزيز الاهتمام الشعبي وتقوية الثقة العامة والانخراط المجتمعي.
لا شك أن مناقشة القوانين الانتخابية وكل ما يتصل بها من قواعد تنظيمية ومنظومات احتساب الأصوات وإجراءات تقنية أخرى تبقى مهمة وأساسية، ولكن جعل كامل الحديث يتركز عليها، ويرتب عليها معجما خاصا وحكايات وسيناريوهات وخلفيات ونوايا، يقود، في الأخير، إلى ترسيخ قناعات زائفة مؤداها أن الانتخابات هي مجرد امتلاك أدوات حسابية وتقنية، وتسابق نحو كسب النتائج ونيل المقاعد…
هذا الإمعان في جر النقاش إلى أن يغرق في التقنيات وقواعد الاحتساب، والنفخ فيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال تجييش عاطفي تبسيطي للمريدين، يقدم العملية الانتخابية كما لو أنها بلا أي رهان سياسي أو مجتمعي، ويزيد في تسفيه العمل السياسي، وفي تسطيح وعي وتعبئة شعبنا وشبابنا.
إن النقاش العمومي الغائب اليوم في بلادنا، والمطلوب تدارك التأخر بخصوصه، يجب أن يتوجه نحو المشاريع المجتمعية، ونحو البرامج والبدائل والرؤى والتصورات، ويجب أن يستحضر حاجة بلادنا ومؤسساتنا الوطنية إلى بلورة خطط وإصلاحات من شأنها الجواب عن التحديات المتصلة ببناء مستقبل بلادنا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية.
أي أن الانتخابات المرتقبة يجب أن تجسد، في مجرياتها ونتائجها، أجوبتنا الوطنية على رهانات الحاضر والمستقبل، ويعني ذلك أن تنجح، على صعيد المخرجات النهائية، في صياغة خطواتنا السياسية والتدبيرية للمرحلة المقبلة.
هذا هو الهدف المركزي، وهو ما لا يمكن الشروع في بلورة خطواته من دون تقوية المضمون السياسي والبرنامجي لكامل المسلسل الانتخابي، بدءا من الفترة التحضيرية الحالية.
ما نتابعه اليوم يكاد يتركز حول قضايا جزئية، ويتوجه نحو ترويج خطابات المظلومية والاستهداف تارة، ومقابلها خطابات وسلوكات «تشناقت» والتتفيه والتدني، وفي الجهتين يتم عرض مثل هذه الخطابات عبر عناوين مثيرة، ومن خلال إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بحكاياتها وتفاصيلها وسجالاتها، وجميعها تلتقي أيضا في التركيز على الجوانب التقنية ومفردات الحساب والسيناريوهات المستقبلية، علاوة على أنها تبنى على الشخصنة الفجة، وتتبع حكايات وسير الأفراد، وفي النهاية يبقى الغائب الأكبر هو النقاش السياسي الرصين والعميق والحقيقي، والمرتبط بالقضايا الكبرى لبلادنا وشعبنا.
الرهان اليوم أمامنا هو حول المغرب الذي نريده بعد الجائحة، وينطلق الوعي بهذا من تقييم سيرتنا التدبيرية والسياسية في السنوات الأخيرة، والانطلاق من ذلك لقراءة ما يحيط ببلادنا اليوم وغدا من تحديات تنموية وديمقراطية ومؤسساتية وجيواستراتيجية، وتبعا لذلك جعل الاستحقاقات المقبلة تسعفنا في صياغة أجوبة سياسية ومؤسساتية وبرنامجية لخوض مهام المرحلة القادمة.
ولكل ما سبق، لا بد أن نعمل على تمتين المضمون السياسي للعملية الانتخابية التي يستعد المغرب لخوضها، وفِي نفس الوقت، لا بد من تطوير شروط نفس ديمقراطي عام في البلاد، وانفراج من شأنه تعزيز الحوار السياسي الوطني، وأيضا التطلع إلى استعادة الثقة في الشأن السياسي والانتخابي، والنجاح في تمكين بلادنا من انتخابات ممتلكة للمصداقية العامة.
<محتات الرقاص