الجدل الذي أثاره مشروع القانون المتعلق بإحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر، والذي أودعته الحكومة بمجلس النواب، ومن المرتقب الشروع قريبا في دراسته، بدأ يجر الكلام نحو منحدرات الشتم والتشنيع والجهالة، وهو ما يبعث على الأسى لحال إعلامنا الوطني، ولإمعان الحكومة الحالية، وخصوصا وزارة التواصل، في تمريغ القطاع والصورة الحقوقية للبلاد في الوحل.
اليوم يصادف اليوم العالمي لحرية الصحافة، وكان الأجدر تركيز الجهد والحديث عن المطلوب القيام به من لدن كل الفرقاء للارتقاء بصورة المغرب وتصنيفه العالمي على هذا المستوى، بدل كل هذه الدناءة والسقوط اللذين ورطتنا وزارة القطاع فيهما.
ليس النقاش اليوم بين الزملاء حتى يخرج البعض سيوف الشتائم والمبارزات الشعبوية، والإصرار على التنافس في الصراخ بجهالة.
إنما النقاش اليوم أكبر وأعمق، ويعني البناء الديموقراطي لبلادنا، ويعني مدى حرص الحكومة على احترام مقتضيات دولة القانون والمؤسسات.
مشروع القانون، موضوع حديثنا، جوبه برفض واسع من لدن أوساط مهنية وحقوقية ونقابية وحزبية وبرلمانية، وبما في ذلك من داخل مكونات الأغلبية الحكومية الحالية، وصار سهلا على الكل اليوم عد الأطراف التي تؤيد وزارة التواصل لأنها قليلة ومعروفة وتحسب على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وتجمعها كلها مصلحة مشتركة واضحة ولم تعد تخفى على أحد.
بداية، هل كان من الضروري أن تقدم الحكومة على فعلتها بشأن مستقبل المجلس الوطني للصحافة من خلال مشروع قانون يصادق عليه مجلس الحكومة ويعرض على البرلمان؟
هل هناك إذن أساس دستوري وشرعي لخطوة إحداث لجنة مؤقتة من خلال مشروع قانون؟ وهل يصح إدراج الأمر ضمن أحكام الفصل 71 من الدستور؟ ولماذا لم يتم اللجوء مثلا لمرسوم فقط بدل مشروع قانون؟
ومن هذا المنطلق، ألا يحق للبرلمان عدم قبول مشروع القانون من البداية بسبب مخالفته لقانون ساري المفعول ولمقتضى دستوري؟
وهل يمكن إقرار لجنة مؤقتة لمؤسسة قائمة وأحدثت بموجب قانون لا زال ساري المفعول؟
من جهة ثانية، المجلس الوطني للصحافة تم إحداثه بموجب قانون، وضمن أحكامه توجد مقتضيات لتجديده وانتخابه على غرار ما ورد في المادتين:09 و 54
وحيث أن المادة التاسعة مثلا تتضمن الإحالة على المادة 54، فهذا يجعل هذه الأخيرة مادة أصلية وثابتة في القانون وليست محصورة في الانتخابات التأسيسية فقط، والسؤال هو لماذا لم تلجأ السلطات لتطبيق المادة54، وبالتالي الدعوة لتنظيم انتخابات المجلس في وقتها؟
قيل بأن النص القانوني لا يشير بوضوح للجهة المخول لها دعوة المجلس الأعلى للسلطة القضائية كي ينتدب قاضيا من طرفه لترؤس وتشكيل لجنة الإشراف على الانتخابات واللجنة المؤقتة، وهل يوكل ذلك، في القانون، الى المجلس نفسه أو الى الإدارة.
الفيدرالية المــــــغربية لناشري الصحف مثلا، وأيضا نقابة الإتحاد المغربي للشغل، وجها منذ يوليوز الماضي رسائل رسمية إلى وزير القطاع لتنبيهه لاقتراب أجل الانتخابات وضرورة مباشرة مسطرة الإعداد لها، لكن الوزير بقي يماطل في الرد بشكل غريب، إلى أن اكتملت الولاية القانونية ووقع الفراغ، ثم لجأ الى الحكومة لاقرار مرسوم بقانون أضاف للمجلس ستة شهور كتمديد غير قابل للتجديد، وذلك بغاية التمكن من تنظيم انتخاباته.
ورغم أن هذه المسطرة أصلا كانت تخفي نوايا خرق القانون وانتقدها العديدون، فحتى طيلة مدة التمديد لم يباشر الوزير أي تحرك أو إجراء يكشف سعيه لاحترام القانون.
كان يمكن للأمانة العامة للحكومة مثلا مساعدة الوزير والحكومة في ايجاد صيغة لتفسير متفق عليه حول الجهة المخول لها توجيه الطلب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكان يمكن للوزير فرض إقامة حوار مسؤول بمشاركة كل مكونات الجسم المهني والخروج باتفاق مشترك، لكن كل هذا لم يمل إليه سيادة الوزير وواصل التماطل، وهذه المرة لم يعد يخفي انحيازه لطرف مهني ضد آخر، وتمت جرجرة الوقائع إلى حين انتهاء مدة التمديد أيضا، ومن دون أي نتيجة.
وفي خضم ذلك، طفت على السطح البرلماني مناورة جديدة من خلال ايداع مقترح قانون وقعت عليه أغلب الفرق النيابية بطلب من فريق حزب الوزير، وهنا افتضح كل شيء، وتم إقبار مبدأ الانتخاب لصالح مبدأ التعيين، وجرى إقحام جلالة الملك، وتم القفز على عديد قوانين قائمة منذ عقود في البلاد، وتبين أن الجهات التي ترفض المبدأ الديموقراطي في تكوين مؤسسة التنظيم الذاتي للصحافة يسندها الوزير مباشرة، وهو من يقود هذه العملية برمتها، لكن من حسن حظ المهنة وبلادنا أن تدخلت أيادي حكيمة وعاقلة، وأفشلت الخطوة البرلمانية ومناورة من صنعها واحتال على الفرق النيابية.
ولما انتهى التمديد الحكومي لولاية المجلس في رابع أبريل المنصرم، توقف أعضاء المجلس عن القيام بمهامهم وأغلبهم لم يعودوا يلجون مقر المجلس أصلا، ومشروع القانون المعروض الآن بمجلس النواب لم يهتم بهذه الوضعية نهائيا. أي، هل انتهت ولاية المجلس الوطني للصحافة الآن؟ ومتى؟ ولماذا لم يصدر أي تنصيص قانوني يفيد بحل المجلس القائم مثلا؟
وإذا كان هناك طرف ما من داخل المجلس يواصل الحضور الى مقر المجلس ويمارس مهامه، فما هو إذن السند القانوني لديه للقيام بذلك؟ ولاتخاذ أي قرار؟ ولإنجاز أي عملية صرف مثلا؟
هذه الأسئلة ليست شكلية او ثانوية ولكنها في عمق ما نحن بصدده، أي أنها تتصل بالقانون، وبالتقيد بأحكامه وشروطه.
وحيث أن أغلب أعضاء المجلس حاليا لا يمارسون أي مهمة بعد انتهاء الولاية في رابع أبريل، لماذا لم تباشر الإدارة( أي وزارة القطاع) مسطرة معاينة انتهاء الولاية وانقطاع الأعضاء( كلهم وليس فقط نصف المنتخبين منهم) عن القيام بعملهم، ومن ثم تدوين ذلك من طرف مفوض قضائي، ونشر الأمر بقرار معلل في الجريدة الرسمية؟ وهذه المسطرة من شأنها أن تحل مشكل الإلتباس القانوني والمسطري وتفتح الباب لتنظيم انتخابات المجلس والإلتزام بالقانون.
كل هذا يعني أن المخرج القانوني والتنظيمي موجود، وبالإمكان تطبيقه وإنقاذ بلادنا من هذا العبث الصبياني الذي جرنا اليه قرار وزارة التواصل، ولكن يتطلب الأمر توفر الإرادة أولا، والإبتعاد عن عقلية الشللية وتقسيم الجسم المهني، والرغبة في اختيار تشكيلة المجلس القادم على المقاس، أي مقاس( لعب الدراري).
أيها العقلاء من قبيلتنا المهنية ومن مكونات البرلمان والطبقة السياسية، وخصوصا من الأغلبية الحالية:
الأمر يتعلق اليوم بوجود قانون قائم وساري المفعول، ولم يتم الإعلان لا عن تعطيله ولا عن انتهاء العمل به أو إلغائه، ورغم ذلك جاءت الحكومة بمشروع قانون آخر يتسم بإخلال واضح وفاضح بقواعد التعامل مع هذا القانون الموجود أصلا والجاري العمل به.
ببساطة هذا السلوك الأخرق يعتبر انتهاكا للمشروعية القانونية في بلادنا، ويهدد بأن الحكومة إذا لم يرقها واقع ما أو شخص ما، يمكنها أن تقرر قانونا جديدا دون أن تلغي القانون القائم أو أن تنسخه، ومن دون احترام منها لأي مسطرة، وهو ما يعني الفوضى تماما، والإخلال بأبجديات تدبير الدولة والمؤسسات.
المجلس الوطني للصحافة أنشئ بموجب قانون، وهو اليوم مؤسسة وطنية موجودة وقائمة، ويقوم تشكيلها على مبدأ الإنتخاب للأعضاء المهنيين داخلها، ولا يجوز القفز على أحكام قانونها من خلال تشكيل لجنة مؤقتة بقرار حكومي، وتوريط البرلمان في إقرار هذه الخطوة الحكومية التي توجد على النقيض مع روح الفصل 28 من الدستور الذي يحصر دور السلطات في تشجيع التنظيم الذاتي فقط، ويشترط أن يكون الأمر بشكل ديموقراطي وبكيفية مستقلة.
معنى كل ما سبق، أن الأمر أبعد من ان يكون جدالا ومعركة كلامية بين زملاء المهنة، وإنما هو اصطفاف الى جانب رؤية سياسية لمستقبل بلادنا ولاستقرارها ومشروعيتها القانونيين.
السماح بهذه الخروقات بشأن قانون المجلس الوطني للصحافة هو سماح للحكومة بأن لا تتردد مستقبلا في القفز على أي قانون لا يروقها أو لا يروق بعض وزرائها، وترمي به على قارعة الطريق وتباشر تطبيق رغباتها الذاتية كما تشاء.
مؤسسة التنظيم الذاتي للصحافة في بلادنا أكملت فقط ولاية أولى عقب التأسيس، ويمكن تطويرها مستقبلا والإرتقاء بأدائها إلى ما هو أحسن وأمتن، ولكن ذلك لن يتحقق بالغاء هوية التنظيم الذاتي من أصلها وتغيير الانتخاب بالتعيين، وتشكيل لجنة مؤقتة معينة…، كل هذا يعلن قتل التجربة من أساسها، ويسيء لبلادنا وصورتها الحقوقية، ولما راكمته من مكتسبات نأمل تطويرها بشكل مستمر، والأمر يسيء كذلك لمن يقف وراءه ويسعى إليه.
مع الأسف، ما يجري حوالي مهنتنا وتنظيمها نزل بنا عميقا في الأسفل، وهوى بنا كلنا في الدرك الأدنى من العبث.
<محتات الرقاص