تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
حرب أكتوبر.. خامس الحروب العربية الإسرائيلية وعلى إثرها استعادت مصر سيناء
بعد حرب 1948، والعدوان الثلاثي على مصر، وحرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين 67 و1970، والتي كان الغلبة فيها بالنسبة الأكبر لجيش الاحتلال الإسرائيلي، كان لزاما انتظار حرب فاصلة تستعيد فيها الدول العربية التي تحاربت على مدى سنوات مع إسرائيل هيبتها وأرضيها السلبية، وفي مقدمتهم مصر التي فقدت في حرب 67 صحراء سيناء كاملة، ووصل فيها جنود الاحتلال إلى شرق قناة السويس، واستمروا في محاولات لاحتلال مدن مجاورة للقناة في مقدمتها مدينة بور فؤاد.
الأجواء التي أسهمت في اندلاع الحرب
استمرت حرب الاستنزاف ثلاث سنوات بعد الفشل الذريع للقوات المصرية والسورية والأردنية والعراقية في حرب 1967، وسوق جمال عبد الناصر لحرب الاستنزاف من أجل إنهاك الاحتلال واستعادة هيبة مصر الضائعة في حرب أطلق عليها “النكسة”، وحتى إن لم تحقق حرب الاستنزاف غايتها لاستعادة سيناء لكنها أعادت توازن القوى بين الجيش المصري وجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي توقف عن محاولات احتلال مناطق جديدة.
وعقب نهاية الحرب في 1970، وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في نفس السنة، استطاع نائبه أنور السادات من الوصول لسدة الحكم، حيث شرع منذ اليوم الأول في شحن صفوف الجيش وشحن الشعب المصري من أجل تقبل حرب جديدة مع الاحتلال الإسرائيلي.
واصل الرئيس محمد أنور السادات في شحن جميع الجبهات وتمهيدها للحرب، حيث جعل الشارع المصري يرغب بدوره في اندلاعها واستعاد هيبة الدولة التي ضاعت في هزيمة 67، كما لعب على أهم محورين وهما مواصلة بناء الجيش المصري من جديدة وتأهيله، وكذا على الجانب الدبلوماسي.
استعداد عسكري
استطاعت مصر أن تعيد بناء القوات المسلحة وتكوين قيادات ميدانية جديدة، كما تم استحداث الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، وإعداد القيادات التعبوية الجديدة، وإعادة تشكيل القيادات في السلاح الجوى، وإدخال نظم تدريب على كل ما هو أساسي للحرب، وكذلك التدريب على مسارح مشابهة لمسرح عمليات الحرب.
وتم إنشاء سواتر ترابية مماثلة لخط بارليف الإسرائيلي على ضفة النيل وتدريب القوات على عبورها، كما احتفظت القوات المسلحة بالقوة الرئيسية من المجندين دون تسريحهم بعد انتهاء فترة تجنيدهم حتى أن بعض المجندين استمروا في تجنيدهم لمدة 7 سنوات.
كما استعدت القوات المسلحة المصرية للحرب بكل ما هو حديث في تكنولوجيا التسليح وقامت بتطوير أسلحة المشاة واستبدلت الدبابات القديمة بالجديدة وتم إحلال المدفعية القديمة بأخرى متطورة وتم الدفع بطائرات حديثة وإدخال طراز جديد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، إلى جانب الصواريخ طويلة المدى وكذلك تطوير معدات المهندسين العسكريين وأجهزة الكشف عن الألغام وإدخال أسلحة غير تقليدية ابتكرها مهندسون مصريون مثل قاذفات اللهب المحمولة على الأكتاف ومسدسات المياه التي استخدمت في هدم خط بارليف الرملي.
واستعانت مصر في ذلك على الإمدادات العسكرية من الاتحاد السوفياتي، الذي كان قد أقر حزمة من المساعدات العسكرية لمصر إبان خروجها من حرب الاستنزاف، وقبلها حرب 67، وبالتالي ضمنت مصر عتادا جديدا لبدأ حرب جديدة.
جهود دبلوماسية
موازاة مع الاستعداد العسكري، مهد الرئيس السادات للحرب من خلال خلق دينامية دبلوماسية، واستطاع حشد مجموعة من البلدان من أجل دعمه، لاسيما الدول العربية، كما وطد العلاقات مع الاتحاد السوفيتي الذي كان يموله بالعتاد الحربي وبالدعم اللوجيستي وأيضا الدعم السياسي في المنتظم الدولي.
كانت تحركات أنور السادات تبرز أن هناك شيئا ما قادما تخطط له مصر، لكن إسرائيل كانت متيقظة ولم تستبعد خيار الحرب وشددت أنظمة دفاعها في صحراء سيناء، ووضعت خطا أمنيا متطورا سمته خط بارليف، وذلك نسبة إلى حاييم بارليف القائد العسكري لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد تكلف بناؤه حوالي 500 مليون دولار، حيث تميز هذا الخط بساتر ترابي ذو ارتفاع كبير، كما تميز بوجود 20 نقطة حصينة تسمى “دشم” على مسافات تتراوح من 10 إلى 12 كم وفي كل نقطة حوالي 15 جندي تنحصر مسؤوليتهم في الإبلاغ عن أي محاولة لعبور القناة وتوجيه المدفعية إلى مكان القوات التي تحاول العبور.
وروجت إسرائيل طويلا لهذا الخط على أنه مستحيل العبور وأنه يستطيع إبادة الجيش المصري إذا ما حاول عبور قناة السويس، كما أدعت أنه أقوى من خط ماجينو الذي بناه الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى، وهو ما تطلب يقظة مصرية، وعدم المجازفة بحرب قد تنضاف إلى سلسلة الهزائم الثقيلة التي تلقتها على يد الاحتلال.
بداية الهجوم
في صبيحة السادس من أكتوبر من عام 1973، شن الجيشين المصري والسوري هجومين متزامنين على القوات الإسرائيلية، الأول نفذه الجيش المصري على جبهة سيناء المحتلة والثاني للجيش السوري على جبهة هضبة الجولان المحتلة.
وتمكن الجيشين المصري والسوري من مباغتة جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يستطع من رص صفوفه وجيش الاحتياط، وتخبطت حينها حكومة الاحتلال في الرد، وتم اتهام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالعجز عن توفير الإنذار في الوقت المناسب، ما أدى إلى مقتل 2.688 جندي إسرائيلي، كما أدت الصدمة في “إسرائيل” إلى استقالة حكومة غولدا مائير، بفعل الضغط الجماهيري، وتشكيل لجنة تحقيق رسمية عرفت باسم “لجنة أغرونات”، كما تم إقالة مجموعة من المسؤولين الكبار في الجيش والاستخبارات.
تدمير خط بارليف
عقب بدء الهجوم حققت القوات المسلحة المصرية والسورية أهدافها من شن الحرب على إسرائيل، وكانت هناك إنجازات ملموسة في الأيام الأولى للمعارك، فعبرت القوات المصرية قناة السويس بنجاح وحطمت حصون خط بارليف وتوغلت 20 كيلومترا شرقا داخل سيناء، فيما تمكنت القوات السورية من التوغل إلى عمق هضبة الجولان وصولا إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا.
بالمقابل، وبعد استيعابها للهجوم المتزامن، تمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق بعض الإنجازات، فعلى الجبهة المصرية تمكن من فتح ثغرة الدفرسوار وعبر للضفة الغربية للقناة وضرب الحصار على الجيش الثالث الميداني ومدينة السويس ولكنه فشل في تحقيق أي مكاسبَ إستراتيجية سواء باحتلال مدينتي الإسماعيلية أو السويس أو تدمير الجيش الثالث أو إجبار القوات المصرية على الانسحاب إلى الضفة الغربية مرة أخرى، أما على الجبهة السورية فتمكن من رد القوات السورية عن هضبة الجولان واحتلالها مرة أخرى.
تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي
تدخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لتعويض خسائر الأطراف المتحاربة، فمدت الولايات المتحدة جسراً جوياً لإسرائيل بلغ إجمالي ما نقل عبره أزيد من 27 ألف طناً، في حين مد الاتحاد السوفيتي جسراً جوياً لكل من مصر وسوريا بلغ إجمالي ما نقل عبره 15 ألف طن إضافة إلى نحو 63 ألف طن من الأسلحة عن طريق البحر وصلت قبل وقف إطلاق النار.
نهاية الحرب بنصر عربي غير مكتمل
انتهت الحرب رسمياً مع نهاية يوم 24 أكتوبر مع خلال اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين الجانبين العربي الإسرائيلي، ولكنه لم يدخل حيز التنفيذ على الجبهة المصرية فعليا حتى 28 أكتوبر.
على الجبهة المصرية حقق الجيش المصري هدفه من الحرب بعبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واتخاذ أوضاع دفاعية، وعلى الرغم من حصار الجيش المصري الثالث شرق القناة، فقد وقفت القوات الإسرائيلية كذلك عاجزة عن السيطرة على مدينتي السويس والإسماعيلية غرب القناة.
واعتبر الانتصار العربي حينها ناقصا وغير مكتمل لكونه لم يحدد أهدافه جميعها، وأساسا منها استرجاع الأراضي المحتلة في حرب 67، حيث استمرت المناوشات سنوات قبل أن تخرج المفاوضات بين الجانبين باتفاقية سلام.
مباحثات الكيلو 101
بعد الاتفاق المشترك بوقف إطلاق النار، انطلقت مباحثات ما سمي حينها “الكيلو 101” واتفاقيتي فض اشتباك، ثُمّ جرى لاحقا بعد سنوات توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس 1979، واسترداد مصر لسيادتها الكاملة على سيناء وقناة السويس في 25 أبريل 1982، ما عدا طابا التي تم تحريرها عن طريق التحكيم الدولي في 19 مارس 1989.
وعلى الجبهة السورية، فقد وسع الجيش الإسرائيلي الأراضي التي يحتلها وتمدد حوالي 500 كيلومتر وراء حدود عام 1967 فيما عُرف باسم جيب سعسع، وتلا ذلك حصول حرب استنزاف بين الجانبين السوري والإسرائيلي استمرت 82 يوما في العام التالي، وانتهت باتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل والتي نصت على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي سيطرت عليها في حرب أكتوبر، ومن مدينة القنيطرة، بالإضافة لإقامة حزام أمني منزوع السلاح على طول خط الحدود الفاصل بين الجانب السوري والأراضي التي تحتلها إسرائيل.
إعداد: توفيق أمزيان