تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
حرب الخليج الأولى.. أطول الحروب في القرن الـ 20 وخلفت ما يزيد عن مليون قتيل
اشتعلت في عام 1980 إحدى أطول الحروب في القرن العشرين التي دارت رحاها في منطقة الخليج العربي بين العراق وإيران، والتي كانت حربا دموية أفضت إلى مقتل ما يزيد عن مليون شخص من الجانبين.
وتعد من الصراعات الطويلة المدى التي استمرت لسنوات متتابعة، ممتدة في الزمان والمكان، مخلفة وراءها مآسي إنسانية وتخلف اقتصاديا واجتماعيا كبيرا لكلا البلدين.
مقدمات الحرب
في عام 1979، قامت في إيران ما عرف بالثورة الإسلامية والتي على إثرها انقلب نظام الحكم في البلاد، وأصبح المرشد الأكبر هو الذي يدبر أمور الدولة، وبسبب نجاحها في الاستيلاء على السلطة، أطلقت إيران دعاية قائمة على تصدير الثورة، الأمر الذي مس بالعراق وعدد من دول الخليج الخليج العربي.
وإلى جانب محاولات إيران لتصدير ثورتها، كان الخلاف قد اشتد بين العراق وإيران حول ترسيم الحدود خاصة في منطقة شط العرب المطلة على الخليج العربي الغني بالنفط بالإضافة إلى الاشتباكات العسكرية المتقطعة بين البلدين.
كان نظام البعث في العراق بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين يستشعر هذا الخطر بشكلٍ حاد نظرا للوجود النظام الشيعي القديم في البلد الذي هو منشأ التشيع أصلا، وتوجد فيه أهم مزارات الشيعة (كربلاء، النجف،…)، كما أن التنظيمات الشيعية في العراق كان لها حضور وازن يجعل منها رأس حربة حاد في أي مخطط إيراني للاستيلاء على السلطة.
كل هذه المعطيات جعلت صدام يراقب الوضع عن كثب ويستعد لحرب لا مناص منها مع الجانب الإيراني، خصوصا وأن هذا الأخير كان قد وصل للسلطة حديثا خلفا للرئيس أحمد حسن البكر، وكان يطمح لفرض ذاته، بالمقابل كانت إيران ترصد بتوجس وصول صدام حسين للسلطة في العراق عام 1979، وبدأت بدورها في محاولة فرض الهيمنة في المنطقة، خصوصا بعد توقيع العراق ميثاق الدفاع العربي في فبراير 1980، الذي اعتبرته إيران عملا عدائيا يستهدفها ويجيش دول المنطقة ضدها في صراع حدودي ترى أنه يجب أن يحافظ على طابعه الثنائي.
من مناوشات حدودية إلى حرب شاملة
استمرت التصريحات والتصريحات المضادة بين العراق وإيران طيلة 1979 وبداية 1980، وانتقلت التصريحات إلى ساحة المعركة من خلال مناوشات بين القوات العراقية والإيرانية على الحدود بين البلدين.
وكان الصراع يتمحور أساسا حول “شط العرب”، هذا الصراع الذي كان مستمرا منذ عقود، يعود إلى خلاف سابق بين الدولة العثمانية وإيران، حيث شكل شط العرب خط تماس ساخن بين الدولة العثمانية وإيران بمختلف الدول التي قامت فيها، وظل خاضعا للدولة العثمانية بموجب اتفاقية القسطنطينية التي تعود لعام 1913، والتي نصت على أن السيادة الإيرانية تقتصر على مناطق شرق شط العرب وبعض الجزر الموجودة في أسفل وادي الرافدين.
في 1937، وبعد استقلال العراق استمر الصراع على هذا النقطة الحدودية، ونصت اتفاقية وقعت خلال ذات السنة على أن الحدود تبقى في شط العرب نفسه وصولا إلى عبدان، واستمر الخلاف بالرغم من ذلك، ما جعل إيران تؤجل اعترافها باستقلال العراق.
وتجمع عدد من المصادر أن إيران كانت تنظر إلى الجنوب العراقي ذي الأغلبية الشيعية والعامر بالمزارات كعمق روحي واجتماعي يعسر التخلي عنه، ولهذا تحملت عقودا من الصراع على الحدود.
في سنة 1975، وقع العراق وإيران اتفاقية جديدة سميت “اتفاقية الجزائر”، وتضمنت تخلي إيران عن دعم الأكراد في شمال العراق مقابل اعتراف بغداد بشط العرب بالتناصف بين البلدين من خلال إعادة ما يعرف بخط التالوك إلى سابق عهده، إلا أن مجموعة من الأطراف، خصوصا في إيران، اعتبرت أن اتفاقية الجزائر ليست سوى تأكيد لمضامين اتفاقية القسطنطينية وجعلت منها قاعدة لترسيم مستقبلي للحدود بين البلدين.
اندلاع الحرب
بعد تبادل الاتهامات بين الجانب العراقي والجانب الإيراني، تطورت الأزمة بين البلدين في مارس 1980، ووصلت إلى حدود قطع العلاقات الثنائية بين البلدين، وتم سحب السفراء، ثم تطورت الأزمة بسرعة أكبر، حيث اتهمت بغداد، في شتنبر من نفس السنة، إيران بشن غارات على البلدات الحدودية العراقية، واعتبرت ذلك إعلانا رسميا للحرب.
وفي 17 من نفس الشهر أعلن الرئيس العراقي صدام حسين وقف العمل باتفاقية الجزائر عام 1975 مع إيران واعتبار مياه شط العرب كاملة جزءا من المياه الإقليمية العراقية.
ارتفعت حدة المناوشات العسكرية بين الطرفية، وفي وقت قياسي، دخلت مرحلة الحرب الشاملة بين البلدين، حيث قامت القوات العراقية باجتياح الأراضي الإيرانية في 22 شتنبر 1980.
وكان هجوم العراق مباغتا، في محاولة من صدام لاستغلال الفوضى التي خلفتها الثورة في إيران فهاجم دون سابق إنذار رسمي، لكنه لم يحقق سوى تقدم محدود إلى داخل إيران وتم صده سريعا، واستطاعت القوات الإيرانية استعادة كل الأراضي التي فقدتها بحلول يونيو 1982.
بعد 1982، انقلبت موازين القوى، وأصبحت إيران الطرف المهاجم، واستغلت طهران عدد من الجماعات المسلحة كوكلاء في الحرب، من قبيل الميلشيات الكردية العراقية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني الذين تحالفا مع إيران ونفذوا هجومات عديدة وسط العراق.
فيما قامت العراق بنفس الشيء من خلال بعض الجماعات الجهادية، أبرزهم حركة مجاهدي حيث تكلفت هذه الجماعات بالجزء الكبير من النزاع المسلح بين البلدين على مدى سنوات.
استمرت الأعمال العدائية بين البلدين إلى 20 غشت 1988، بالرغم من دعوات مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، حيث استمر الطرفان في الاقتتال بشكل متكافئ مع تقدم طفيف لإيران، إذ استمرت الحرب ثمان سنوات، وتعد النزاع العسكري الأطول في القرن الـعشرين كاملا.
انتهت الحرب بقرار مجلس الأمن رقم 598، الذي قبله الطرفان، والتزم الطرفان معا بالعودة للعمل باتفاقية الجزائر التي تم توقيعها، كما سبق الذكر، في 1975، وبموجب ذلك، أعلنت القوات الإيرانية انسحابها من الأراضي العراقية التي تقدمت فيها والعودة إلى حدود ما قبل الحرب.
واستمرت بعض النقاط العالقة بين البلدين والمتمثلة أساسا في أسرى الحرب لكلا الجانبين، حيث تم الإعلان عن تبادل الأسرى في سنة 2003، أي بعد 15 عاما على نهاية الحرب.
مخلفات الحرب
كلفت الحرب كلا الطرفين خسائر بشرية واقتصادية مهولة، أبرزها نصف مليون قتيل من الجند العراقي والإيراني، مع عدد مماثل من المدنيين، فضلا عن آلاف النازحين، وآلاف المفقودين، وعدد أكبر من الجرحى.
لم تغير الحرب أي معطيات ميدانية بين الطرفين، إذ بالرغم من طول مدة الحرب، إلا أن لا طرف استطاع حسم المعركة لصالحه وتحقيق أهدافه من هذا النزاع العسكري.
وتشير مجموعة من المصادر إلى أن حرب العراق وإيران تقارن من حيث الأساليب المستخدمة بالحرب العالمية الأولى، بما في ذلك حرب الخنادق التي تم اللجوء إليهاعلى نطاق واسع، من خلال الاعتماد على الأسلاك الشائكة الممتدة عبر الخنادق، ومواقع الرشاشة الثابتة، والهجمات بالحربة وهجمات بموجات بشرية، والاستخدام واسع النطاق للأسلحة الكيميائية مثل غاز الخردل.
وهكذا انتهى أطول نزاع عسكري في القرن العشرين بخسائر بشرية فاقت المليون قتيل، وآلاف المفقودين والمعطوبين والنازحين، مع خسائر اقتصادية واجتماعية، أسهمت في عدم تقدم البلدين طيلة مدة الحرب، بحيث استنزفت ثرواتها وميزانيتها في هذه الحرب.
> إعداد: توفيق أمزيان
