جشع القطاع الخاص

أضحى هاجس المدارس الخاصة أو حقيقة المدارس المؤدى عنها، يقض مضجع الأسر المغربية، وأصبحت هذا الهاجس واقعا مفروضا وليست مجرد اختيار. فرغم فاتورتها المبالغ فيها والتي لا تتلاءم مع القدرة الشرائية للمواطن المغربي، إضافة إلى ما يتم تسجيله في كل موسم دراسي من خروقات وتجاوزات قانونية وبيداغوجية على مستوى العديد من هذه المدارس، (رغم كل هذا) فهذه المدارس تنتشر كالفطر في كل حي جديد، وفي كل مدينة مغربية، نتيجة مجموعة من الاعتبارات منها أساسا خريطة انتشار وتموقع المدارس العمومية، وعدم مواكبة الطلب المتزايد لساكنة المدن نتيجة توسعها غير المخطط له.
كما نعلم جميعا، كل مدينة مغربية تشهد سنويا بروز أحياء جديدة وشاسعة، حيث يتهافت ويتتنافس أهل المدارس الخاصة للحصول على فضاءات بهذه الأحياء لاستقطاب أكبر عدد ممكن من التلاميذ، مستغلين غياب أو تغيب المدارس العمومية أو بعدها، حيث تظل خريطة المدارس العمومية جامدة أو لا تتحرك بشكل لا يتناسب مع التوسع العمراني، وهو ما أكدته المعطيات الصادمة التي نشرها مجلس المنافسة في رأيه حول التعليم الخصوصي في المغرب، حيث أنه، وبالمقارنة مع التعليم العمومي، سجل التعليم المدرسي الخصوصي خلال العقد الماضي وثيرة تطور تصاعدية، حيث انتقل عدد المؤسسات من 3168 مؤسسة، برسم الموسم الدراسي 2010/2011، إلى 6229 مؤسسة برسم الموسم الدراسي 2019/2020، بزيادة تقدر بنسبة 96.62 في المائة تتجاوز نسبة تطور عدد مؤسسات التعليم العمومي البالغ عددها 11213 ألف مؤسسة بنسبة 15.54 في المائة.
ومن المعطيات الصادمة التي حملها التقرير أن الأسر التي تقطن بالأحياء الجديدة تضطر رغم دخلها المحدود، لتسجيل أبنائها بمدارس خاصة، في ظل غياب البديل -المدارس العمومية-.
وتساهم هذه المدارس العمومية، بالنظر لقلتها وبعدها، ولما تعرفه من اختلالات تدبيرية وبنيوية، في دفع الآباء إلى تسجيل أبنائهم مضطرين بالمدارس الخاصة، لدرجة قد تلجأ بعض الأسر إلى الاقتراض لضمان مقعد لأبنائها في المدارس المؤدى عنها التي تسمى تجاوزا خاصة، هذه الأسر لا تجد نفسها فقط مضطرة لتسجيل أبنائها بهذه المدارس، بل مجبرة على الرضوخ للتكلفة المالية الباهظة وغير المنطقية التي تفرضها أغلب هذه المدارس، إضافة إلى مصاريف التسجيل التي تثقل كاهلهم وتدفعهم إلى اللجوء للاقتراض في غالب الأحيان كما قلنا، خاصة أولئك الذين لديهم ولدين أو أكثر، مع الإشارة إلى تكاليف التأمين التي تعرف تجاوزات خطيرة جدا منها: اعتماد التأمين الكامل بدل الفردي لكل تلميذ(ة)، التأمين على جزء وليس الكل، ثم قيمة التأمين التي تتجاوز عشرات الأضعاف القيمة الحقيقة لدى وكالات التأمين…، بل هناك رسوم في بداية كل موسم غير مفهومة وغير مبررة لا قانونيا ولا أخلاقيا، ورغم ذلك يؤديها الأباء وأولياء الأمور مضطرين.
الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها اليوم هو أن المواطن أضحى فريسة لوبيات هذا القطاع، التي تنهش أمواله دون حسيب أو رقيب، وخير مثال على ذلك الجشع الذي أبانت عنه هذه المؤسسات خلال جائحة كورونا في الوقت الذي تسابق فيه كل المغاربة للإبانة عن شهامتهم ووطنيتهم في إطار التضامن المعروف عليهم، ثم لجوءها هذه السنة إلى مطالبة الأسر بأداء مستحقات شهر يوليوز القادم، رغم أن الدراسة ستتوقف عمليا خلال شهر يونيو الجاري، بل لجأت بعض هذه المدارس إلى رفع أسعار التمدرس للموسم المقبل، وهو ما من شأنه أن يثقل كاهل الآباء وأولياء الأمور، وكل ذلك في سياق أزمة اقتصادية كبيرة وسياق الزيادات الحارقة في أسعار المواد الغذائية والمحروقات….
بالمناسبة، إن أغلب هذه المؤسسات لا تصرح بأرباحها الصافية السنوية، فيما كشفت تقارير رسمية سابقة عن أرباح تتجاوز 20 مليار درهم سنويا، هنا يطرح سؤال جوهري : أليس من المفروض أن نتحدث عن المؤسسات المواطنة في ظل الأزمة الاقتصادية القائمة، وبالتالي إعفاء الأسر من أداء شهر يوليوز في إطار التضامن المؤسساتي ؟
نعتقد اليوم أنه حان الوقت -وفي سياق فلسفة عمل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة- لوضع نظام تعاقدي نموذجي للمؤسسات الخصوصية يحدد التزامات الأسر والمؤسسة، وفق ما أكده الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان، الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، خلال ماي الماضي، يتم فيه كبح هذه المؤسسات التي دأبت منذ عقود على “حلب” المواطن البسيط، وإفراغ المدرسة العمومية من خلال استقطاب النوابغ وإبعاد “غير المتفوقين”.
لذا على الحكومة أن تضع أولا حدا لمنطق التمييز والإقصاء الذي تنتهجه العديد من هذه المؤسسات، حيث تفرض على الأسر إذا لم يتحسن مستوى أبنائها خلال الفصل الثاني من السنة الدراسية مغادرة المؤسسة، ولا يحق لأي كان إعادته للمدرسة بدعوى أنه قرار إداري، كما أنها تفرض اجتياز امتحان تقييمي للتلاميذ الراغبين في التسجيل لأول مرة، وبالتالي يتم تفريغ العمومي من النجباء والمتفوقين، ولا يبقى فيه إلا المنحدرين من الأسر الفقيرة جدا، والتي لا حيلة لها لولوج مثل هذه المدارس، مما يثير من جهة أخرى سؤال ما إذا كانت هذه المؤسسات تقدم فعلا تعليما جيدا ينتج لنا عقولا متفوقة أم أن الأمر لا يعدو كونها تحتضن هذه الفئة فقط وتركب على موجة تفوقها ونجابتها الفطريتين ؟
كما أنه على الحكومة، نهج سياسة جدية للرقي بالبنية التحتية للمدارس العمومية، تتمثل أساسا في ترميم المؤسسات القائمة والنهوض بها، وتشييد مؤسسات جديدة تستجيب لتصاميم التهيئة الحديثة بالمدن، حتى تصبح الأسر أمام خيار وليس جبر أو إكراه، ومن المفروض أيضا أن تساهم المؤسسات الخاصة بنسبة محددة من مداخيلها الصافية لصالح الدولة، توجه أساسا لهذا الغرض -تشييد المدارس العمومية والرقي ببنيتها التحتية-.
وأخيرا، على مختلف مؤسسات الدولة المعنية، تشديد المراقبة على هذه المؤسسات الخاصة، سواء فيما يخص احترام دفاتر التحملات، أو قيمة رسوم التأمين التي تستخلصها هذه المؤسسات وكيفية العمل بها، ثم ما إذا كانت أساطيل سيارات النقل التابعة لها بدورها تتوفر على شروط الصحة والسلامة والتأمين، ووضع حد لكل التجاوزات القانونية ثم الأخلاقية والتربوية التي تسجل عليها سنويا، إن كنا نراهن على مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص التي تؤكد عليها الرؤية الاستراتيجية 215-2030.

 عبد الصمد ادنيدن

الوسوم , ,

Related posts

Top