لم يكن خطاب رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون بمناسبة مرور ثلاث سنوات من عمر عهده سيئا. اتسم الخطاب في جانب منه بالموضوعية والواقعية، خصوصا عندما دعا إلى حكومة جديدة تضمّ وزراء ووزيرات من ذوي “الخبرة والكفاءات وليس وفق الولاءات السياسية”.
يظلّ الكلام الجميل مجرّد كلام… في غياب ترجمة لهذا الكلام الذي يستهدف نفي ما يقوله كثيرون عن أن هناك عالما خاصا لا علاقة له بالواقع يعيش فيه رئيس الجمهورية. عكس الخطاب وجود صحوة تسببت بها ثورة شعبية حقيقية للشعب اللبناني الذي رفض استمرار الرضوخ لواقع يتمثّل في أن البلد يحكمه فعلا “المرشد” المحلّي أي حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” باسم إيران. ثار اللبنانيون على عهد “حزب الله” الذي يتمثّل في اختيار حسن نصرالله من يكون رئيس جمهورية لبنان؛ ثاروا على الطريقة التي تتشكل بها حكومة لبنان. تساءلوا عن موقع لبنان في المعادلة الإقليمية؛ هل هو بلد حر مستقلّ يبحث عن مصالحه أم هو تابع لإيران لا أكثر؟
بالطبع، كانت المطالب الحياتية في طليعة ما أثاره الذين نزلوا إلى الشارع بعدما اكتشفوا أنهم في بلد يموت فيه الناس على أبواب المستشفيات وأنّ لا وظائف لخريجي الجامعات ولا كهرباء ولا ماء ولا طرقات ولا بيئة تصلح لعيش المواطن. هناك بلد ينخره الفساد على كلّ المستويات. لكنّ أهمّ ما قام به الناس العاديون يتمثّل في الذهاب إلى أبعد بكثير من الشعارات الفارغة عن طريق تسمية الأشياء بأسمائها. بالنسبة إلى المواطن العادي لم تعد هناك استثناءات. هذا المواطن يعرف أنّ “حزب الله” مسؤول مثل غيره، بل أكثر من غيره عن الفساد؛ بل هو يغطّي الفساد والفاسدين.
لعلّ نقطة الضعف الأساسية في خطاب رئيس الجمهورية تفاديه الكلام عن الدويلة التي داخل الدولة اللبنانية. هذا يعني بكلّ بساطة أن لا مجال لأي إصلاحات من أي نوع ولأي حكومة تعيد ثقة العالمين العربي والغربي بقدرة لبنان على القيام بالمطلوب منه.
من المهمّ ملاحظة أن الردّ الأول على رئيس الجمهورية جاء من حسن نصرالله الذي يعيش بدوره في عالم مختلف هو العالم الإيراني. أكد الأمين العام لـ”حزب الله” في خطاب ألقاه، بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على خطاب رئيس الجمهورية، أن لا عودة عن الدويلة التي أقامتها إيران في لبنان تحت تسمية “المقاومة” وشعارات أخرى واهية تصبّ كلّها في التحكّم بالوضع اللبناني وإلحاق الجمهورية اللبنانية المستقلّة منذ العام 1943 بـ”الجمهورية الإسلامية” في إيران؛ التي تأسست في العام 1979.
مثل هذا الإلحاق للبنان بإيران هو المعنى الوحيد لخطاب حسن نصرالله. في هذا الإلحاق تكمن المشكلة الحقيقية للبنان ولبّ الأزمة اللبنانية التي عبّر عنها نزول كلّ هذا العدد من المواطنين إلى الشارع رفضا لاستمرار الأمر الواقع. هذا الأمر الواقع الذي يفرضه “حزب الله” بسلاحه على اللبنانيين الآخرين. في أساس الأزمة الاقتصادية العميقة، التي بدأت تنعكس سلبا على كلّ عائلة لبنانية، وجود دويلة “حزب الله” التي تسيطر على الدولة اللبنانية ومؤسساتها. كلّ كلام خارج هذا الكلام يستهدف التغطية على الجريمة المستمرّة بحق لبنان. من حسن الحظّ أن جميع اللبنانيين، بمن في ذلك الشيعة، بدأوا يستوعبون ذلك. فإذا كانت هناك عقوبات أو قيود على المصارف اللبنانية وعلى حسابات اللبنانيين، فإن سبب ذلك إيران وأدوات إيران. هل بقي لدى لبنان غير نظامه المصرفي يدافع به عن اقتصاده في هذه الأيام بالذات؟
في نهاية المطاف، ما لا مفرّ من ملاحظته أن الوضع على الأرض تجاوز خطابي رئيس الجمهورية والأمين العام لـ”حزب الله”. هناك رفض منهما لأخذ العلم بما حصل في لبنان ابتداء من يوم 17 تشرين الأول – أكتوبر 2019.
هناك مريض اسمه لبنان. عمر المرض اللبناني نصف قرن بالتمام والكمال. في تشرين الثاني – نوفمبر 1969، أجبر لبنان على توقيع اتفاق القاهرة. وقّع الاتفاق قائد الجيش اللبناني أميل البستاني، الطامح إلى أن يصبح رئيسا للجمهورية بأيّ ثمن، مع ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية برعاية الرئيس المصري وقتذاك، جمال عبدالناصر.
لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم ثمن توقيع اتفاق القاهرة الذي أجبرته عليه المزايدات بين زعماء المسلمين، السنّة منهم خصوصا، من جهة، وفي ظلّ ضعف أي زعيم ماروني أمام موقع رئاسة الجمهورية من جهة أخرى. حقّق المسلّحون الفلسطينيون الذين تدفقوا على لبنان كلّ الانتصارات التي يريدون تحقيقها. كانت انتصاراتهم على لبنان وليس على إسرائيل. ما يفعله “حزب الله” حاليا، ومن خلفه إيران، هو تحقيق مزيد من الانتصارات على لبنان.
يبقى ملفتا كيف يعيد التاريخ نفسه. كيف اعتبرت المنظمات الفلسطينية أنّها حققت انتصارات على إسرائيل، فيما كانت للأسف الشديد تدمّر مؤسسات الدولة اللبنانية بما كان يصبّ في مصلحة النظام السوري. لم يكن لهذا النظام في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته وتسعيناته من هدف سوى وضع اليد على لبنان بحجة أنّه الوحيد القادر على تشكيل قوة فصل بين اللبنانيين والفلسطينيين وبين اللبنانيين المتصارعين أنفسهم.
يعيد التاريخ نفسه في 2019 مع حلول ميليشيا “حزب الله”، التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني عناصره لبنانية. هناك كلام كثير عن انتصارات على إسرائيل، فيما الانتصارات الوحيدة على لبنان لمصلحة إيران التي تجمع أوراقا إقليمية في وقت تخوض صراعا مع أميركا.
تكمن مشكلة “حزب الله” في أنّه يرفض الاعتراف بأن اللبنانيين باتوا يعرفون لعبته عن ظهر قلب وأن الشباب الذي نزل إلى الشارع ليس بالسذاجة التي يعتقدها حسن نصرالله. لو لم يكن ذلك صحيحا، لما كانت الثورة الشعبية شملت كلّ لبنان، من العبدة في عكار، مرورا بطرابلس وصولا إلى بيروت والجنوب، أي صيدا وصور والنبطية وكفرمان. من كان يتصوّر يوما أن أهل النبطية سيثورون على “حزب الله” مع أهل صور وكفرمان؟
يبقى الأمين العام لـ”حزب الله” أسير خطابه ولغته الخشبية وأسير سياسة إيرانية لا تخفى على أحد. لا يعرف أنّ طموح كلّ مواطن لبناني شبيه بطموح أي مواطن إيراني. يختزل هذا الطموح الإعجاب بأميركا وليس بأحد آخر غير أميركا. هذا هو الواقع الذي يسعى حسن نصرالله إلى الهرب منه عن طريق الدعوة إلى تشكيل حكومة تقف في وجه أميركا. يحصل ذلك في وقت ليس لدى رئيس الجمهورية ما يعبّر عنه سوى التمنيات بأن يأتي يوم لا يعود فيه العهد الحالي “عهد حزب الله”.
خير الله خيرالله
إعلامي لبناني